الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾. قال ابن عباس [[ورد قوله في "تفسير الطبري" 3/ 341، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 699، "زاد المسير" 1/ 418.]]: نزلت في اليهود [[الذي وقفت عليه عنه: أنها نزلت في أهل الكتاب، ولم يجعل نزولها في اليهود فقط.]]: قَرَيظة والنَّضِير، ومَن دانَ بدينهم؛ كفروا بالنبي ﷺ بعد أن كانوا قبل مَبْعَثِهِ مؤمنين، وكانوا يَشهَدُون له بالنبوة، فلما بُعِثَ، وجاءهم بالآيات المعجزات، كفروا بغيًا وحَسَدًا [[وقد ورد في سبب نزولها -إضافة إلى ما ذكره المؤلف-: أن رجلًا من الأنصار، أسلم، ثم ارتَدَّ ولحق بالمشركين، ثم ندم فأرسل إلى قومه؛ ليسألوا رسول الله ﷺ، هل له من توبة؟ فلما سألوا الرسول ﷺ، نزلت هذه الآية إلى قوله: ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، فأرسل إليه فأسلم. وقد ورد هذا الأثر بسندٍ صحيح عن ابن عباس -من رواية عكرمة عنه-، قد أخرجه: النسائي في سننه: 7/ 107. كتاب تحريم الدم. باب: (توبة المرتد)، وأخرجه -كذلك- النسائي في "تفسيره" 1/ 308. وأحمد في "المسند" 1/ 247، وابن حبان في "صحيحه" (انظر: "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان"): 10/ 329، (4477)، "موارد الظمآن" 427،== والحاكم في "المستدرك" 2/ 142، 4/ 366، وقال: (صحيح)، ووافقه الذهبي. وأخرجه البيهقيُّ في "السنن" 8/ 197. والطبري في "تفسيره" 3/ 340، وابن أبي حاتم 2/ 699، والواحدي في "أسباب النزول" ص116 - 117. وقد ذكر مجاهد والسدي أن المرتد هو الحارث بن سويد. وعن عكرمة أنهم أثنا عشر رجلًا، منهم أبو عامر الراهب، والحارث بن سويد، وَوضحْوَح بن الأسلت. وقيل: إنها نزلت في أهل الكتاب، عرفوا نعت النبي ﷺ في كتبهم، ثم كفروا به بعد بعثته. وقد روي هذا عن ابن عباس والحسن. انظر: "تفسير عبد الرزاق" 1/ 125، "تفسير الطبري" 3/ 340، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 699، "أسباب النزول" للمؤلف (118)، "تفسير الحسن" 1/ 221، "الدر المنثور" 2/ 88. ومما سبق تبين أن الأثر الأول في كونها نزلت في الحارث بن سويد أصح؛ ولذا يُقَدم ويُعتَمد سببًا لنزول الآية، مع عموم حكمها لكل من عَرفَ الحقَّ وارتد عنه، ثم تاب ورجع إليه، فيدخل في حكمها أهل الكتاب الذين شهدوا بأن النبي ﷺ حق، ثم كفروا به بعد بعثته؛ حسدًا منهم.]]. وأصل (كيف): أنها للاستفهام والاستخبار عن الحال. ودخلت ههنا للإنكار؛ وذلك أن المسئول يُسألُ لأغراضٍ مختلفة، فقد يُسأل للتعجيز عن إقامة البرهان، وقد يُسأل لتوبيخ، بما يظهر من معنى الجواب. وقد ذكرنا فيما مضى [[من هذه المواضع: ما ذكره عند تفسيره لقوله -تعالى-: ﴿أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آية: 80 من سورة آل عمران].]]: لِمَ جازَ أن يَقَعَ الاستفهام موقعَ الإنكار؟ ومثل هذا قول ابن الرُّقَيّات [[هو: عبيد الله بن قيس الرُّقَيَّات. أحد بني عامر بن لؤي، من الشعراء الإسلاميين، كان يوالي مصعب بن الزبير، ضد بني أمية. انظر: "الشعر والشعراء" ص 361، "خزانة الأدب" 7/ 280.]]: كيفَ نَوْمِي عَلَى الفِراشِ وَلَمّا ... يَشْمَلِ الشامَ غارَةٌ شَعْوَاءُ. [[البيت في "ديوانه" 95. وورد منسوبًا له، في أكثر المصادر التالية: "إصلاح المنطق" 211، "المنصف" 2/ 231، "العقد الفريد" 4/ 406، "الأمالي" للقالي: 1/ 95، "اللسان" 4/ 2282، "مقاييس المقاييس" 3/ 190 (شعى)، "تفسير الثعلبي" 3/ 69 أ، "أساس البلاغة" 1/ 495 (شعو)، "أمالي ابن الشجري" 2/ 163، "شرح المفصل" 9/ 36، "اللسان" 11/ 368 (شامل)، 14/ 435 (شعا)، "خزانة الأدب" 7/ 287، 11/ 377. ونسبه في "معجم الشعراء" (تحقيق: عبد الستار فراج): 406 إلى محمد بن الجهم بن هارون السمري، صاحب الفراء. والشعواء، الفاشية المتفرقة يقال: (أشعى القومُ الغارةَ إشعاءً): إذا أشعلوها. و (شَعِيَت الغارةُ، تَشْعَى شَعًا): إذ انتشرت. انظر: "معجم المقاييس" 3/ 190 (شعى)، "اللسان" 4/ 2282 (شعا). والبيت من قصيدة يمدح فيها الشاعر مصعبَ بن الزبير، ويعرِّض ببني أمية أعداء ابن الزبير، ويقول بأنه لا يمكن أن ينام، ولن يأتيه النوم حتى تَعُمَّ الشامَ -وهي معقل بني أمية- غارةٌ فاشية مكتسحة. وبعد هذا البيت: تُذهِلُ الشيخ عن بنيه وتُبْدِي ... عن بُراها العَقيلَةُ العذراءُ و (بُراها)؛ أي: خلاخيلها. يريد: أن النساء يكشفن عن خلاخيلهن وسيقانهن، حال الهروب من شدة الفزع من الغارة.]]. أي: لا نوم لي، ولا أنام. ومثله قوله: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [التوبة: 7] أي: لا يكون لهم عهد. قال [[في (ج): (وقال).]] الزجاج [[في "معاني القرآن" له: 1/ 439. نقله عنه بنصه.]]: أعلم الله عز وجل أنه لا جهة لهدايتهم؛ لأنهم قد استحقوا أن يُضلُّوا بكفرهم؛ لأنهم قد كفروا بعد البَيِّنات. وقوله تعالى: ﴿وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ﴾. عطف بالفعل على المصدر؛ لأنه أراد بالمصدر الفعل؛ تقديره: (كفروا بالله بعد أن آمنوا). فهو عطفٌ على المعنى؛ كما قال: لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي ... أَحَبُّ إليَّ مِن لُبْسِ الشُّفُوفِ [[البيت لميسون بنت بحدل الكلبية. زوج معاوية بن أبي سفيان، وأم ولده يزيد. وقد ورد في "كتاب سيبويه" 3/ 45، "المقتضب" 2/ 27، "الأصول في النحو" 2/ 150، "المحتسب" 1/ 326، "سر صناعة الإعراب" 1/ 273، "الإيضاح العضدي" 321، "الصاحبي" 146، "شرح المفصل" 7/ 25، "البسيط في شرح جمل الزجاجي" 1/ 233، "شرح شذور الذهب" ص 381، "شرح بن عقيل" 4/ 20، "المقاصد النحوية" 4/ 397، "منهج السالك" 3/ 313، "التصريح" 2/ 242، "شرح شواهد المغني" 653، 778، "همع الهوامع" 4/ 141، "الخزانة" 8/ 503، 574، "الدرر اللوامع" 2/ 10. الشفوف: الثياب الرِّقاق. وسميت بذلك؛ لأنها تشف عما تحتها، وواحدها: (شَفَّ) - بفتح الشين وبكسرها. وقد قالته ميسون ضمن أبيات، تحنُّ فيها إلى وطنها البادية، وتُفَضِّل فيها حياةَ البداوة وشَظَفَ العيش، على نعيم المدينة وعيشَةِ القصور.]] معناه: لأن ألبس عباءة، وتَقَرَّ عيني [[ذكر النحويون البيت السابق شاهدا على انتصاب الفعل المضارع بـ (أنْ) المضمرة جوازا، بعد واو عاطفة على اسم صريح؛ أي: (وأنْ تقرَّ عيني) بمعنى: قرة عيني. فهذا المصدر، معطوف على المصدر الأول، فيكون: (ولبس عباءة وقرة عيني) وهذا خلاف ما ذكره المؤلف حيث أوَّلَ الاسم الوارد في الآية: ﴿إِيمَانِهِمْ﴾، وفي البيت: (لبس)، من أجل الفعل، فقال: (أن آمنوا)، و (أن ألبس) والأوْلَى أن نتأول الفعل باسم ليصح عطفه على الاسم الصريح قبله، فيكون التقدير في الآية: (بعد إيمانهم، وأن شهدوا ..)؛ أي: وشهادتهم. فعطف الشهادة على الإيمان. وكذا في البيت، يكون التقدير: (ولبس عباءة وأن تقر عيني) أي: وقرة عيني. انظر المصادر النحوية السابقة التي أوردت البيت، "الدر المصون" 3/ 303.]]. وزاد [[في (ج): (وأراد).]] صاحبُ النظم لهذا بيانا، فقال [[أورد هذا النص عنه السمين الحلبي في "الدر المصون" 3/ 303.]]: قوله: ﴿وَشَهِدُوا﴾ منسوق على ما يمكن في التقدير؛ وذلك أن قوله: ﴿بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ يمكن أن يكون: (بعد أن آمنوا)، و (أَنْ) الخفيفة مع الفعل، بمنزلة المصدر، كقوله: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 184]، أي: والصوم. ومثل هذا ممّا حُمِلَ عَلَى الإمكان [[في "الدر المصون": (المعنى).]] قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ﴾ [[[سورة الشورى:51]. وبقيتها: ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾.]]، فهو [[من قوله: (فهو ..) إلى (إلا وحيا): ساقط من: (ج).]] عطف على قوله: ﴿إِلَّا وَحْيًا﴾، ويمكن فيه: إلا أَنْ يوحى إليه. فلمّا كان قوله [[في (ب): ما كان يوحى. بدلًا من: (فلما كان قوله).]]: ﴿إِلَّا وَحْيًا﴾ بمعنى: يوحى إليه، حمله على ذلك. ومثله من الشعر، قوله: فَظَلَّ طُهاةُ اللَّحْمِ مِنْ بَيْنِ مُنْضِجٍ ... صَفِيفَ [[في (أ)، (ب): (ضعيف). والمثبت من: (ج)، ومصادر البيت.]] شِواءٍ أو [قَدِيرٍ مُعَجَّلِ] [[ما بين المعقوفين مطموس في (أ). وساقط من: (ب). ومثبت من: (ج)، ومصادر البيت. والبيت لامرئ القيس، من معلقته، وقد ورد في "ديوانه" 120، "شرح القصائد السبع" لابن الأنباري: 97، "شرح المعلقات السبع" للزوزني: 36، "شرح القصائد العشر" للتبريزي: 46، "اللسان" 4/ 2463 (صفف)، 4/ 2715 (طها)، "مغني اللبيب" 600، 617، "المقاصد النحوية" 4/ 146، "منهج السالك" 3/ 107، "همع الهوامع" 5/ 278، "شرح شواهد المغني" 857.== الصفيف: هو اللحم المصفوف على الجمر على شكل شرائح مُرَقَّقَة؛ ليُشوَى. وقدير: أي: المطبوخ في القدور، فصرفه من (مفعول) إلى (فعيل). ومعنى البيت: أنه نظرًا لكثرة الصيد، فقد ظل الطبَّاخون ما بين من يقوم بإنضاج اللحم بشوائه على الجمر، وما بين من يقوم بطبخه في القدور. وقوله: (معجل)؛ لأنهم كانوا يستحبون تعجيل كل ما كان من الصيد يُستظرف.]] خَفَضَ قولَه: (قَدِيرٍ) [[(خفض قوله قدير) غير مقروء في (أ). وساقط من: (ب). ومثبت من: (ج)، و"الدر المصون".]]؛ لأنه عَطْفٌ على ما يمكن في قوله: (مُنْضِجٍ)، لأنه أمكن أن يكون مضافًا إلى الصَّفِيفِ [[في (ب): (الخفيف).]]، فحمله على ذلك [[أي: حَمَلَ (قدير) على (صفيف)؛ لأنه أمكن أن يكون (صفيف) مجرورًا بالإضافة إلى (منضج).]]. وقوله [[من قوله: (وقوله ..) إلى (الكفر بفعلهم): ساقط من: (ب).]] تعالى: ﴿وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾. يجوز أن يريد بـ ﴿الْبَيِّنَاتُ﴾: ما بُينَ في التوراة والإنجيل. وهو قول ابن عباس [[لم أقف على مصدر قوله.]]. ويجوز أن يريد: ما أتى به [[(أتى به): غير مقروء في (أ). ومثبت من (ج).]] النبي ﷺ من الكتاب والآيات المعجزات. وفي هذا تبعيد لهم من حال الهداية، وبيان لاستحقاقهم الكفر بفعلهم. وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ قال ابن عباس [[لم أقف على مصدر قوله.]]. يريد: لا يرشد من نقض عهود [[في (ج): (عهد).]] الله، وظلم نفسه. وهذا خاص فيمن [[في (ب): (بمن).]] علم الله عز وجل منهم أنهم لا يؤمنون، وأراد ذلك منهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب