الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾ ذهب كثير من المفسرين إلى أن زكريَّا خاطب بهذا جبريل عليه السلام، فقال: (رَبِّ)؛ أي: يا سيِّدي [[وهذا قول الكلبي، كما في "تفسير الثعلبي" 3/ 48 ب، وقال الثعلبي بأنه قول أكثر المفسرين، "تفسير القرطبي" 4/ 79، وانظر: "الخازن" 1/ 290.]]. وذهب جماعة إلى أنه خاطب الله تعالى [[وهو الظاهر من الآية.]]. وقوله: ﴿أَنَّى يَكُونُ﴾ إنْ قيل: كيف أنكر زكريَّا الولدَ مع تبشير الملائكة إيَّاه به؟ وما معنى هذه المراجعة؟ ولِمَ عجب [[في (ج): (اعجب).]] من ذلك بعد إخبار الله تعالى بأنه يكون، إذ يقول عز وجل: ﴿أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾؟ فالقول في ذلك: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي﴾ [[(لي): ساقطة من (ج)، (د).]] أن معنى قوله ﴿أَنَّى يَكُونُ﴾ على أيِّ حالٍ يكون ذلك؛ أيَرُدُّني إلى حال الشباب، وامرأتي؟ أم من حال الكِبَرِ؟. فقال ما قال من هذا مستثْبِتاً، ومستعْلِماً، لا متعجباً، ولا منكِراً [[وممن قال بهذا: الحسن، وابن كيسان، وابن الأنباري. انظر: "زاد المسير" 1/ 384. وقيل: بأي منزلة أستَوْجِبُ هذا؟ قاله على سبيل التواضع لله، والشكر له، والاستعظام لقدرته تعالى التي لا يعجزها شيء. انظر: "معاني القرآن" للنحاس 1/ 395، "النكت والعيون" 1/ 391، "غرائب القرآن" 3/ 184، و"أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة من غرائب آي التنزيل" للرازي 61.]]. والغُلامُ: الشابُّ من الناس. وأصله من (الغُلْمَةِ). و (الاغتلام)؛ وهو: شِدَّة طَلبِ النِّكاح. ويقال: (غُلامٌ بّيِّن [[في (د): (من).]] الغُلُومِيَّةِ، والغُلُومَةِ، والغُلامِيَّةِ) [[انظر كتاب "خلق الإنسان" 11، "تهذيب اللغة" 3/ 2691 (غلم)، "الصحاح" 5/ 1797 (غلم).]]. قال الفرَّاء [[لم أهتد إلى مصدر قوله، وقد ورد بعضه في "تهذيب اللغة" 3/ 2301 (عبد) ونصُّه: (وقال الفرَّاء: يقال: فلان عبدٌ بيِّن العبودة، والعبودية، والعبدية).]]: والعرب تجعل مصدرَ كلِّ اسمٍ ليس له فعلٌ [[(فعل): ساقط من: (ب).]] معروف على هذا المثال. فتقول: (هذا [عبدٌ] [[ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د).]] بَيِّن [[في (أ)، (ب): (من)، والمثبت من: (ج)، (د)، ومن "تهذيب اللغة" 3/ 2301.]] العبودية، والعبدِيَّةِ [[(والعبدية): ساقط من: (ج)، (د).]]، والعبودَةِ). وقوله تعالى: ﴿وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾. (الكِبَرُ)، مصدرُ: (كَبِرَ الرجلُ، يَكْبَرُ): إذا أسَنَّ [[انظر: "تفسير الطبري" 3/ 257، "القاموس المحيط" ص 468 (كبر). والقياس أنَّ (فَعِلَ) من الثلاثي المجرد، يأتي مضارعها على (يَفْعَلُ). انظر: "المزهر" 2/ 37. أما (كَبُرَ، يَكْبُرُ)، فهي إذا ما أردت عِظَمَ الشيءِ والأمرِ، فهي مثل: (عَظُمَ، يعظُمُ). انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3090 - 3091 (كبر).]]. قال أهل المعاني [[انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 408، "مجاز القرآن" 1/ 92، "تفسير الثعلبي" 3/ 48 ب.]]: معنى ﴿وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾: وقد بَلَغتُ الكِبَرَ؛ وذلك أن كلَّ [[من قوله: (كل ..) إلى (.. وبلغك): نقله بنصه عن "معاني القرآن" للزجاج 1/ 408.]] شيءٍ صادَفْته وبلغته، فقد صادفك وبلغك. وكان نسبةُ الفعلِ إلى الكبر، كنسبته [[في (أ): (كنسبة)، والمثبت من بقية النسخ.]] إلى الرجل؛ يدل على هذا قولُ العرب: (تلقَّيْتُ الحائطَ)، و (تلقَّاني [[في (ج): (فتلقاني).]] الحائطُ). فإن قيل: أيجوز [[في (ج): (تحوز)، وفي: (د) (لا يجوز).]] (بلغني البلدُ) في موضع (بلغْتُ البلدَ)؟ قيل: إنما جاز في الكِبَرِ؛ لأن الكبَر بمنزلة الطالب، فهو يأتيه بحدوثه [[من قوله: (بحدوثه ..) على: (.. أيضًا يأتيه): ساقط من (ج).]] فيه، والإنسان [[في (د): (والإنصاف).]] أيضاً يأتيه بمرور السنين عليه، ولا يجوز مثل ذلك في البلد، وليس الكبَر بمنزلة البلد، إنما هو بمنزلة: القول، والعطاء، والإفضال [[في (د): (والاتصال).]]، والعقاب؛ فكما يجوز: (بلغني عطاؤك)، و (بلَغَتْ زيداً [[في (ج): (زيد).]] جائزتُكَ)، (وبلغ عبدَ اللهِ عقابُكَ)، جاز أن يكون [[(أن يكون): ساقط من (ج).]] البلوغُ منسوباً [[في (أ)، (ب): (منصوبًا)، والمثبت من: (ج)، (د).]] إلى الكِبَر [[انظر: "تأويل مشكل القرآن" 193 - 198، فقد جعل هذا من المقلوب، وهو أن يقدم ما يوضحه التأخير، ويؤخر ما يوضحه التقديم.]]. قال ابن عباس في رواية الضحاك [[الأثر في "تفسير الثعلبي" 3/ 48 ب، "تفسير البغوي" 2/ 35، "زاد المسير" 1/ 385.]]: كان زكريا يوم بُشِّر بالولد ابن عشرين ومائة سنة، وكانت امرأته بنت ثمانٍ وتسعين سنةً. وقوله تعالى: ﴿وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾. العاقِر [[(العاقر): ساقطة من (د).]] من النساء: التي لا تلد. يقال: (عَقُرَت، تعْقُرُ، عُقْراً، وعَقارةً) [[في (ب): (وعقارا).]]. أنشد الفراء: إرْزامَ نابٍ عقُرت أعواماً ... فَعَلِقَتْ بُنَيَّها [[في (د): (فعقرت بنتها).]] تَشْماما [[في (ج): (تسماما). لم أقف على قائله، وقد أورد الثعلبي في "تفسيره" 3/ 48 ب، قائلًا: (وأنشد الفراء) وذكره، وأورده السمين الحلبي في "الدر المصون" وقال: (وأنشد الفراء) وذكره. وروايته في "الدر المصون". أرزامُ باب عقُرت أعواما ... فعلقت بُنَيَّها تسماما ومعنى (الإرزام): الصوت الذي لا يُفْتَح به الفمُ، ومنه: (الرَّزَمة)، وهو: ضرب من حنِين الناقة على ولدها حين تَرأمُهُ، يقولون: (أرْزَمَت الناقةُ إرْزامًا). وقيل: هو دون الحنِين، والحنِينُ أشدُّ من الرَّزَمَةِ. و (النابُ)، و (النَّيُوب): الناقة المسنة، سُمِّيت بذلك حين طال نابها وعظُمَ. انظر: "اللسان" 3/ 1637 (رزم)، 8/ 4591 (نيب). أي: أنَّ هذه الناقة المسنَّة، والتي نُتِجَتْ بعد أن كان عاقرًا لمدة أعوام، فإنها تحن على وليدها، مصدرة صوتًا يدل على رحمتها، وشغفها وتعلقِّها به، ولا تنشب تَشَمُّ هذا الوليد تَشْماما المرة بعد الأخرى.]] ويقال أيضًا: (عَقُرَ الرجلُ، وعَقَرَ، وعَقِرَ) [[(وعقر): ساقط من (د).]]: إذا لم يُحمل له. و (رجلٌ عاقرٌ) [[انظر (عقر)، في "تهذيب اللغة" 3/ 2514، "اللسان" 5/ 3034. والقياس في (فَعُلَ) الثلاثي المجرد، أن يكون مضارعه (يَفْعُل). أما (فَعَلَ) من المجرد الثلاثي الصحيح، الذي عينه أو لامه ليست من حروف الحلق، فمضارعه يأتي على (يَفْعِل) و (يَفْعُل). انظر: "المزهر" 2/ 37 - 38.]]. قال عامرُ بن الطُّفَيْل [[هو: عامر بن الطفيل بن مالك العامري. أحد فرسان العرب المشهورين، وابن عم لَبِيد الشاعر، أدرك النبي ﷺ، ولم يُسْلِم، وهو الذي غدر بالصحابة عند بئر معونة سنة (4هـ)، وحاول قتل النبي فعصمه الله منه، ودعا عليه النبي ﷺ، فأهلكه الله. انظر: "الشعر والشعراء" ص207، "معجم الشعراء" 37، "الأعلام" 3/ 252.]]: لبئس الفتى إنْ كنتُ أعورَ عاقرًا ... جبانًا فما عذري لدى كلِّ مَحْضَرِ [[البيت في: "ديوانه": 64، كما ورد منسوبًا له في "مجاز القرآن" 2/ 92، "تفسير الطبري" 3/ 257، "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري: 1/ 203، "تفسير الثعلبي" 3/ 48ب، "المحرر الوجيز" 3/ 107، "تفسير القرطبي" 11/ 79، "الدر المصون" 3/ 162. وورد غير منسوب في "الزاهر" 2/ 582. وروايته في الديوان: (فبئس ..)، وفي "الزاهر" (.. فما أغني لدي كل مشهد)، وفي "المذكر والمؤنث" (.. فما أغني لدي كل محضر). قال الشاعر هذا البيت ضمن أبيات في وقْعَةٍ دارت في موضع يُسمَّى (فَيْفَ الريح)، وقد ذهبت عَيْنُه في هذه المعركة، فاجتمع له العَورُ والعُقْمُ، فيقول هنا: إنه بئس الفتى إن كان يجمع إلى العور والعقم، الجُبنَ، والمهابَةَ من العدو، حيث لا يُعذَر بعدها.]] قال أبو إسحاق [[في "معاني القرآن" له 1/ 408، نقله عنه بنصه.]]: قوله: ﴿وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾، في هذا دليل على أن (عاقرًا) [[في (ب): (عاقر).]] وقع على جهة النَّسَب [[أي مما جاءت النسبة فيه على صيغة (فاعل)، مثل: تامِر، ولا بِن، وحائِك، وكاسٍ؛ بمعنى: صاحب تمْرٍ، وصاحب لبنٍ، وصاحب حياكة، وصاحب كساء. فعاقر، بمعنى: ذات عُقْر.]]؛ لأنَّ (فَعُلَت) أسماء [[في (ج): (اسما)، وفي (د): (اسم).]] الفاعلين فيه على (فَعِيلَة) نحو: (ظَريفة) [[في (أ)، (ب): (طريقة)، والمثبت من: (ج)، (د)، ومن "معاني القرآن" للزجاج؛ لأن (طريقة) من: (طَرَقَ) وليست من. (طَرُقَ)، كما أن (طريقة) تأتي على (مفعولة) بمعنى (مطروقة).]]، و (كَريمة)؛ وإنما (عاقر) على: (ذات عُقْرٍ) [[في (أ): (عُقَر). وفي بقية النسخ، مهملة من الشكل. وما أثبَتُّه هو ما استصوبته. والعُقْر: العُقْم. يقول السمين الحلبي بعد أن نقل كلام الزجاج السابق: (وهذا نصٌّ من أن الفعل == المسند للمرأة، لا يقال فيه إلّا (عقرت) بضمِّ القاف، إذ لو جاز فتحها أو كسرها لجاز منها (فاعِل) من غير تأويل على النسب). "الدر المصون" 3/ 162. ولكن ورد في "اللسان" (وقد عَقُرَت المرأة عَقارةً، وعِقارة، وعَقَرت تَعْقِر عَقْرا، وعُقْرا، وعَقِرت عَقارًا، وهي عاقر) 5/ 3033 (عقر). وعليه فإنه يصح أن يأتي منها صفة مشبهة باسم الفاعل.]]، و (رجالٌ ونساءٌ عُقُرٌ) [[عقر: ساقطة من (ج). و (عُقُر)، و (عُقَّر) و (عواقر)، جمع: عاقر. انظر العين: 1/ 150، "النهاية في "غريب الحديث" 3/ 186، "اللسان" 5/ 3033 (عقر).]] وفي الحديث: (عُجُزٌ عُقُرٌ) [[العُجُز: جمع (عَجوز). ولم أهتد إلى مصدر الحديث بهذا اللفظ في كتب السنة. وقد أورده الخليل في: "كتاب العين" 1/ 150، وقال: وفي الحديث: "عُجْزٌ عُقُرٌ" بتسكين العَيْن في (عجز)، وورد في "النهاية في "غريب الحديث" 3/ 186، بلفظ: "إيَّاكم والعُجُز والعُقُر"، ولم يخرِّجه. وقد وقفت على حديث آخر قريب من معنى هذا الحديث، وهو: عن عياض بن غنم الفهري، عن النبي ﷺ، قال: "يا عياض لا تَزَوَجَّن عجوزًا ولا عاقرا، فإني مكاثر بكم الأمم". أخرجه الحاكم في "المستدرك" 3/ 290 - 291. كتاب معرفة الصحابة، وصححه، وتعقبه الذهبي بأن في سنده معاوية بن يحيى الصدفي، وهو ضعيف، وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" 17/ 368 رقم (1008). قال الهيثمي: (وفيه معاوية بن يحيى الصدفي، وهو ضعيف) "مجمع الزوائد" 4/ 258، وأورده ابن حجر في "الإصابة" 3/ 50 وضعَّفه؛ لأن في سنده عمرو بن الوليد الأغضف، وزاد نسبة إخراجه لأبي نعيم، وأورده ابن حجر الهيثمي المكي في كتاب "الإفصاح" عن أحاديث النكاح): 160.]]. ويقال: (أعقَر اللهُ [رحِمَها]) [[ما بين المعقوفين غير مقروء في: (أ)، وفي (ب): (امرأته)، والمثبت من: (ج)، (د)، ومن "اللسان" 5/ 3034 (عقر). والعبارة في (ج): (أعقرها الله رحمها)، وفي (د): (أعقر رحمها).]]، فهي (مُعْقَرَةٌ). و (رملٌ [[في (ج): (ورجل).]] عاقِر): لا يُنبِت شيئاً [[انظر: "اللسان" (عقر) 5/ 3034.]]. وذَكر [[في (ج): (وذكرنا).]] زكريا عليه السلام عُقْرَ زوجته مع كِبَر نفسه؛ لزيادة ترجيحٍ في الاستبعاد، فلمَّا استفهم عن [[في (أ): غير مقروء، وفي (ب): (استبعد من). والمثبت من: (ج)، (د).]] كيفيَّة حال الولادة؛ قيل له: ﴿كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾؛ أي: مثل ذلك من الأمر، وهو: هبة الله الولدَ على الكِبَر، يفعل الله [[(الله): ليس في: (ج).]] الذي يشاؤه، فسبحان من لا يعجزه شيء.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب