الباحث القرآني
قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ﴾.
اجتمعوا [[في (ج): (أجمعوا). وكذا ورد في "تفسير الفخر الرازي" 9/ 27 حيث نقل هذا النص عن المؤلف.]] على أنَّ معنى (كَأَيِّنْ): كم [[هي (كم) الخبرية التي يُكنى بها عن معدود كثير، ولكنه مجهول الجنس والكمية. و (كأين تشترك مع (كم) -هنا- في إفادة التكثير للمعدود، وهو الغالب من استعمالها، وتستعمل في الأكثر مع (مِنْ)، ولا تأتي استفهامًا إلا في النادر، وهو رأي الجمهور، وأثبت وقوعها استفهامًا: ابن قتيبة وابن عصفور وابن مالك؛ كما أفاد ذلك ابن هشام. ويرى سيبويه أن معنى (كأين) معنى: (رُبَّ).
انظر: "كتاب سيبويه" 2/ 170، و"تأويل مشكل القرآن" 519، و"الإيضاح العضدي" 1/ 143، و"المغني" لابن هشام 246، و"النحو الوافي" 4/ 577 - 580.]]؛ وتأويلها: التكثير لعدد الأنبياء الذين هذه صفتهم. والكاف [[من هنا إلى نهاية: (.. لدن غدوة): نقل معناه عن "الحجة"، للفارسي 3/ 80 - 82، مع إضافات أخرى لم أقف على مصادرها.]] في (كَأَيِّنْ) كافُ التَّشْبِيه، دخلت على (أيٍّ)، التي هي الاستفهام-، كما دخلت على (ذا) مِن (كَذَا [[(كذا) من كنايات العدد المبهمة التي يكنى بها عن معدود؛ سواء كان كثيرًا أو قليلًا.]]، و (أَنَّ) مِن (كَأَنَّ)، ولا معنى للتشبيه فيه، كما أنه لا معنى للتشبيه في (كَذَا)؛ لأنك تقول: (لي عليه كَذَا وكَذَا)؛ معناه: لي عليه عددٌ مَّا. فلا معنى للتشبيه. إلا أنها زيادةٌ لازمةٌ، لا يجوز حذفُها.
ولم يقع للتنوين صورةٌ في الخط، إلا في هذا الحرف خاصَّةً.
وكَثُرَ استعمالُ هذه الكلمة، فصارت كَكَلِمَةٍ واحدةٍ، موضوعة للتكثير؛ كقول الشاعر:
كأيِّنْ في المَعَاشِرِ مِنْ أُنَاسٍ ... أخُوهُم فوقَهْمْ وهُمُ كِرَامُ [[للكميت بن زيد الأسدي في ديوانه، وأخبار أبي تمام، بلفظ (أخوهم منهم) والوساطة للجرجاني ص 329.
وقد ورد في: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 476، و"حجة القراءات" 175، و"تفسير الثعلبي" 3/ 129 أ، و"المحرر الوجيز" 3/ 354، و"تفسير القرطبي" 4/ 228، و"البحر المحيط" 3/ 72، و"الدر المصون" 3/ 422. وروايته عند الثعلبي:
(وكأين من أناس لم يزالوا ... ................).
المَعَاشِر: جماعات الناس. والمَعْشَرُ: كلُّ جماعةٍ أمرُهُم واحد، نحو: مَعْشَر المسلمين، ومَعْشَر المشركين. انظر: "اللسان" 4/ 754 (عشر).]]
أي: كَم مِن أُنَاسٍ.
وقرأ ابنُ كَثِير [[انظر: "السبعة" 216، و"الحجة" للفارسي 3/ 80، و"الكشف" 1/ 357.]]: ﴿وَكَائِنْ﴾ [[(أ)، (ب)، (ج): (وكاين). والمُثْبَت هو الموافق للقراءة.]]، في وزن: (كاعِنْ).
ووجه هذه القِرَاءةِ: أن [[(أن): ساقطة من (ج).]] (كأيِّنْ) لَمَّا جُعِلَت كلمةً واحدةً، قُلِبت قَلْبَ الكلمة الواحدة؛ كما فُعلَ ذلك، فيما حكاه أحمد بن يحيى [[هو ثَعْلب. وقوله في: "الحجة"، للفارسي 3/ 81، و"المسائل المشكلة" له 394، و"سر صناعة الإعراب" 1/ 308.]] مِن قولهم: (لَعَمْري)، و (رَعَمْلِي)، فصارت بالقَلْبِ (كَيَّإن). فَحُذِفت [[من قوله: (فحذفت ..) إلى (.. فصارت كَيْإن): ساقط من (ج).]] الياءُ الثانيةُ تخفيفًا؛ كما حُذِفَت مِن (مَيْت) و (هَيْن) و (لَيْن) [[الأصل فيها: (مَيِّت، وهَيِّن، ولَيِّن). انظر: "المنصف" 2/ 15.]]، فصارت: (كَيْإنْ) [[في (أ)، (ب): (كَيْأن). والمثبت من: "الحجة" 3/ 81، و"سر صناعة الإعراب" 1/ 307، و"المحتسب" 1/ 171. ورسِمَت الكلمةُ فيها: (كَيْءٍ).]] بعد الحذف، ثم أبْدِلت من الياء الألف؛ كما أبدلت في (طَائِيٍّ) [[في (أ)، (ب)، (ج): (طاي). والمثبت من المصادر السابقة، و"المسائل المشكلة" 394.
والأصل في كلمة (طائي): (طَيِّئيّ)، ثم حذفوا الياء المتحركة من الياء المشددة الأولى، فصارت: (طَيْئيّ)، ثم قلبوا الياءَ الساكنةَ ألِفًا، فصارت (طائي). انظر: "الدر المصون" 3/ 423، و"روح المعاني" 4/ 27، ويرى مَكيُّ بن أبي طالب أنَّ أصل (طائي): (طيِّيّ) -بياءين مشددتين-؛ لأنه ينسب إلى (طَيّ)، لكن أبدلوا من الياء الأولى الساكنةِ ألِفًا، فوقعت الياء الثانية بعد ألف زائدة، فأبدلوا منها همزة.). "الكشف"1/ 357. وانظر: "سر صناعة الإعراب" 1/ 23، 307، 2/ 669.]]، وكما أبدلت في (آيَةٍ) عند سيبويه [[انظر: "الكتاب" له 4/ 398، و"الحجة" للفارسي 1/ 85، و"سر صناعة الإعراب" 1/ 23، 2/ 669، و"الكشف" 1/ 357.]]، وكانت (أَيَّةً) [[في (ب): (أبيه).]]، وقد حُذِفَت الياءُ مِن (أَيٍّ) في قول الفرزدق:
تَنَظَّرْتُ نَضرًا والسِّماكَيْنِ أيْهُمَا [[في (ج): (الهما).]] ... عَلَيَّ مِنَ الغَيثِ اسْتَهَلَّتْ مَواطِرُهْ [[في (ب): (مواطر). والبيت في: ديوانه: 246. وقد ورد منسوبًا له في: "الحجة" للفارسي 1/ 92، 3/ 81، و"المحتسب"1/ 41، 108، 2/ 152، و"المحرر الوجيز" 3/ 355، و"اللسان" 2/ 1068 (حير). وقد ورد في: "اللسان" (تنظرت نَسْرا ..).
وقوله: (نصرا) يعني: نَصْرَ بن سَيَّار، الذي قال القصيدة في مدحه.
والسِّمَاكان: نجمان نَيِّران، أحدهما: السماك الرامح، والآخر: السماك الأعزل. و (الرامح) لا نَوْء له، وهو في جهة الشمال. و (الأعزل): من منازل القمر، وهو من كواكب الأنوار، وجهتة الجنوب. انظر: (سمك) في: "التهذيب" 2/ 1759، و"اللسان" 4/ 2099.
والشاهد فيه: تخفيفه لـ (أيِّهما)؛ بأن حذف الياءَ الثانِية.]] فَلَمَّا أُبْدِلَت الألفُ مِن الياء، صارت: (كَائِنْ)، على وزن: (كاعِنْ). وأكثر ما جاء في الشعر، على هذه اللغة.
قال جرير:
وكايِنْ في الأَبَاطِحِ مِن صَدِيقٍ ... يَرَانِي لَوْ أُصِيبَ [[هكذا جاءت في كل (أ)، (ب)، (ج): (أصيبَ). وهي خلاف ما جاء في كل المصادر التي أوردت البيت. وقد أثْبَتها كذلك؛ لاتفاق النسخ عليها، ولأني وجدت ابن الحاجب أوردها كذلك. انظر: "أمَالِيه" 2/ 662.
وجاء في جميع نسخ تفسير (الوسيط) للمؤلف: (لو أصِيب)، ولكن المحقق جعلها (لو أصِبْتُ)، وقال: (في جميع النسخ: (لو أصيب) وما أَثبته هو "الصحيح". "الوسيط" (تحقيق: بالطيور) 346.]] هو المُصَابَا [[البيت في "ديوانه" 21. وقد ورد منسوبًا له في أكثر المصادر التالية: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 475، و"الإيضاح العضدي"، للفارسي 1/ 143، و"شرح الأبيات المشكلة" له 244، و"الحجة" له 3/ 80، و"حجة القراءات" 174، و"أمالي ابن الشجري" 1/ 106، و"غرائب التفسير" للكرماني 1/ 272، و"المحرر الوجيز" 3/ 352، و"شرح المفصل" 3/ 110، 4/ 135، و"أمالي ابن الحاجب" 2/ 662، و"تفسير القرطبي" 4/ 228، و"المغني" 643، و"منهج السالك" 4/ 87، و"همع الهوامع" 1/ 68، 256، و"شرح شواهد المغني" 875، و"الدرر اللوامع" 1/ 46، 213، 2/ 92، و"خزانة الأدب" 5/ 397.
ورد البيت في جميع المصادر السابقة: (بالأباطح ..). وورد في الديوان وجميع المصادر السابقة -عدا أمالي ابن الحاجب-: (.. يراني لو أصِبْتُ هو المصابا). وأشار في: "خزانة الأدب" 5/ 401 إلى أن الأخفش رواه: (وكم في الأباطح ..)، وليس فيه موضع الشاهد.
الأباطح، جمع: أبطح، وهو: مَسِيل واسعٌ فيه دقاق الحصى. ويجمع -كذلك- على: (بِطَاح)، و (بَطَائِح). انظر: "القاموس" ص 213 (بطح).
ومعنى (يراني لو أصيبَ هو المصابا) -على الرواية التي أوردها المؤلف-: يراني أننى المصاب فيما أصِيب هو. -والله أعلم-.]] وأنْشَدَ المُفَضّل [[قوله: (وأنشد ..) إلى نهاية بيت الشعر: (.. حذاريا): ورد بنصه في "تفسير الثعلبي" 3/ 129 أ. ويبدو أن المؤلف نقله عنه.]]:
وكائِنْ [[في (أ)، (ب)، (ج): (وكاين).]] تَرَى [[في (ب): (يرى). وفي (ج): (نرى).]] في الحَيِّ مِنْ ذِي قَرَابَةٍ ... وغَيْرَان يَدْعُو ويلَهُ مِنْ حِذَارِيَا [[لم أقف على قائله. وقد ورد في المصدر السابق، وأورد شطره الأول الفخرُ الرازي في "تفسيره" 9/ 27. والحِذار: المحاذرة، والتحرز، والتأهب. انظر: "اللسان" 2/ 809 (حذر).]]
فإنْ وقفت على هذه الكلمة؛ فَلَكَ في الوَقْفِ على قِرَاءةِ ابن كثير، ثلاثة أوجه:
أحدها: أنْ تحذف التنوين الدَّاخِلَ الكلمة مع الجرِّ، فيقول [[هكذا في: (أ)، (ب). وفي (ج): مهملة من النقط. وقد تكون على تقدير: فيقول الواقف، أو القارئ.]]: (كاءْ). فَتُسَكِّنْ [[في (ب): (كائنتسكن). وفي (ج): (كافتسكن).]] الهمزةَ المجرورةَ للوقف.
الثاني: أن يقول: (كائِي) [[(أ)، (ب)، (ج): (كايَ). وما أثبَتُّه من "الحجة"، للفارسي 3/ 82، وهو الصواب؛ لأن الإبدال من التنوين، وليس من الهمز.]]؛ على لغة من يقول: (مَرَرْتُ بِزَيْدِيْ)، في الوقف، فَيُبْدِل [[في (ج): (فتبدل).]] مِنَ التَّنْوِين الياءَ.
الوجه الثالث: أنْ تَقِفَ على التنوين، وتترك الحركة [[في (ب): أن تترك الحركة، وتقف على التنوين.]]؛ فتقول: (كَائِنْ) [[في (ب)، (ج): (كاين).]]؛ وذلك أنَّ التنوين -بالقَلْبِ الذي حدث في هذه الكلمة-، صارت بمنزلة النون التي من نَفْسِ الكلمة [فَتُقِرُّهُ نُونًا في الوَقْفِ] [[ما بين المعقوفين زيادة من (ج).]]، بمنزلة [ما هو من نفس الكلمة؛ كما أنهم جعلوا ما هو من نفس الكلمة] [[ما بين المعقوفين زيادة من (ج).]]، [التنوينَ] [[ما بين المعقوفين زيادة أضفتها ليتضح الكلام. انظر: "الحجة" 3/ 82.]] الزائدَ [[في (ج): (الزائدة).]]، في قول من قال: (لَدُنْ غُدْوَةً) [[لَدُنْ: ظرف زمان ومكان، على حسب إضافتها، وهي مبنية على السكون، وتعني: (عند)، وهي تلازم الإضافة؛ إما إلى الاسم، أو الضمير. ويقال: (لُدْن، ولَدْن، ولَدِن، ولَدُ، ولَدَى). أما (لَدُنْ غُدْوَة)، فقال الأزهري عنها: (وَرَوَى أبو عمرو عن الإمامين: المبرد، وثعلب، قالا: العرب تقول: (لَدُنْ غُدوةً) و (لَدُنْ غُدْوةٌ)، و (لَدُنْ غُدْوَةٍ). قالا: فمن رَفَع؛ أراد: لدن كانت غُدْوةٌ [أي: (كان) -هنا- التَّامَّة. ومَن نَصَب؛ أراد: لدن كان الوقت غُدْوَةً. ومن خفض؛ أراد: مِن عِنْد غُدْوةٍ). "التهذيب" 3/ 2636 (غدا)، وانظر: "شرح المفصل" 2/ 127، و"اللسان" 7/ 4022 (لدن)، و"معجم الشوارد النحوية" 511 - 512.
والغُدْوَةُ: البُكْرَةُ ما بين صلاة الفجر، وطلوع الشمس. فإذا كانت مِن يَومٍ بعينه، فهي عَلَمٌ للوقت، غير مَصْروفَةٍ، فلا يدخلها التَنْوِينُ؛ لأنها مَعْرِفَة، أما إذا كانت نَكِرَةً، فإنها تُنَوَّنُ. انظر. "اللسان" 15/ 116.]].
فأما الوقف في القراءة [[في (ب)، (ج): (القراة).]] الأولى، فتقف على الياء، وتترك التنوين، ولا تقف على النون؛ لأنه لم يُقْلَبْ، كما ذكرنا من القَلْبِ في قراءة ابن كثير [[انظر: الكلام حول (كائن) في: "كتاب سيبويه" 3/ 151، 2/ 170 - 171، و"الحجة" للفارسي 3/ 80 - 82، و"المسائل المشكلة" 393 - 394، و"سر صناعة الإعراب" 1/ 306 - 308، و"المحتسب" 1/ 170 - 173، و"الكشف" لمكي 1/ 357، 358، و"مشكل إعراب القرآن" له 1/ 175.]].
وقوله تعالى: ﴿قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾. ﴿قُتِلَ﴾، و ﴿قَاتَلَ﴾ [[قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع -من السبعة-، ويعقوب: ﴿قُتِلَ﴾. وقرأ باقي القراء: ﴿قَاتَلَ﴾.
انظر: "السبعة" 217، و"الحجة"، للفارسي 3/ 82، و"النشر" 2/ 242، و"إتحاف فضلاء البشر" ص 180.]]. فمن قرأ: ﴿قُتِلَ﴾ [[من قوله: (فمن قرأ ..) إلى (.. وتضمر للمبتدأ خبرا): نقله -بتصرف واختصار- عن "الحجة"، للفارسي 3/ 83]]، احتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون القَتْلُ مُسْنَدًا إلى ﴿نَبِيٍّ﴾. [وقوله: ﴿مَعَهُ رِبِّيُّونَ﴾]، [[ما بين المعقوفين زيادة من (ج).]] صِفَة لـ ﴿نَبِيٍّ﴾. و (الرِّبِّيُّون) -على هذا- مرتَفِعٌ بالظَّرْفِ [[ويكون الضمير الذي في ﴿مَعَهُ﴾ يعود لـ ﴿نَبِيٍّ﴾. ويجوز أن يكون ﴿قُتِلَ﴾ في محل جَرٍّ، صِفَةً لـ ﴿نَبِيٍّ﴾، و ﴿مَعَهُ رَبِّيُّونَ﴾. صِفَةً ثانية. أو يكون ﴿مَعَهُ رَبِّيُّونَ﴾ في حالة إسناد القتل إلى ﴿نَبِيٍّ﴾ -: حالًا مِن الضَمِير الذيَ في ﴿قُتِلَ﴾. انظر: "الحجة" 3/ 83، و"الدر المصون" 3/ 427.]].
والثاني: أنْ يُسْنَدَ القَتْلُ إلى قوله: ﴿رِبِّيُّونَ﴾. ويكون معنى قوله: ﴿فَمَا وَهَنُوا﴾ أي: مَا وَهَنَ باقِيهم بَعْدُ، بِمَنْ [[في "الحجة" بعْدَ مَنْ.]] قُتِلَ منهم في سبيل الله. فَحُذِفَ المُضَافُ، وأقُيِمَ المضافُ إليه مقامه؛ والمعنى: ما وَهَنَ مَنْ بَقِيَ منهم لِقَتْلِ [[في (ج): (بقتل).]] مَن قُتِلَ مِنَ الرِّبَيِّينَ، لأن مَنْ قُتِلُوا لا يُوصَفُونَ بِأَنَّهُمْ (ما وَهَنُوا).
وحُجّة هذه القراءة: أنَّ هذا الكلامَ، اقتصاصُ ما جرى عليه سَيْرُ [[في "الحجة"، ضُبِطت: سِيَرُ.]] أُمَمِ الأنبياء -عليهم السلام- قبلهم؛ لِيَتَأَسَّوا بهم. وقد قال: ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ [آل عمران: 144].
ومَنْ قَرَأَ: ﴿قَاتَلَ﴾، جاز فيه الوجهان اللذان ذكرنا في ﴿قُتِلَ﴾، مِن إسناد القِتَالِ إلى ﴿نَّبيٍّ﴾، أو إلى ﴿الرِّبِّيِّينَ﴾.
وحُجَّةُ هذه القراءة: أنَّ المُراد بهذه الآية مدح الطائفة الذين مع النَّبِيِّ، بالقتال والثَّبَاتِ على ما كان عليه نَبِيُّهُمْ. والقتال أَلْيَقُ بهذا المعنى مِنَ القَتْلِ، فَحَصلَ مِن هذا أنَّ قوله: ﴿وَكَأَيِّنْ﴾، موضع الكاف الجَارَّةِ مع المجرور، رَفْعٌ بالابتداء، كما أنَّ موضع (لَهُ كَذَا وَكَذَا)، رَفْعٌ. وخَبَرُهُ: ﴿قُتِلَ﴾؛ إذا أسندت القَتْلَ إلى ﴿نَبِيٍّ﴾. وإذا لم يُسنَدْ القَتلُ إليه، كان قولُه: ﴿قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ﴾: صِفَةً لـ ﴿نَبِيٍّ﴾، وتُضمِرُ للمبتدإ خَبَرًا؛ بتقدير: (كَأيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ معه رِبِّيُّونَ كثيرٌ قبلكم أو مضى). وما أشبهه من التقدير.
وهذا الذي ذكرنا في هذه الآية: قولُ الفَرَّاء [[في "معاني القرآن" له 1/ 237.]]، والزجَّاج [[في "معاني القرآن" له / 476.]]، وأبي علي [[في "الحجة للقراء السبعة" 3/ 83 - 84]]، وجميع مَن يُوثَقُ بِعِلْمِهِ في النحو [[انظر: "تفسير الطبري" 4/ 117، و"إيضاح الوقف والابتداء" 2/ 585 - 587،== وكتاب "القطع والائتناف" 236 - 237، و"حجة القراءات" 175 - 176، و"التبيان"، للعكبري ص 212 - 213.]].
وقوله تعالى: ﴿رِبِّيُّونَ﴾.
قال الفَرّاء [[في "معاني القرآن"، له 1/ 237.]]: الرِّبِّيُّون: الأُلُوف. وهو قول ابن مسعود [[قوله في "تفسير عبد الرزاق" 1/ 134، و"تفسير الطبري" 4/ 118، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 780، و"معاني القرآن" للنحاس 1/ 490، و"تفسير الثعلبي" 3/ 129ب، و"تفسير البغوي" 2/ 116، و"زاد المسير" 1/ 472، وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 146 وزاد نسبة إخراجه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.]]، والضحاك [[قوله في "تفسير الطبري"4/ 119ونصه عنده: (جموع كثيرة، قتل نبيهم). وفي "تفسير الثعلبي" 3/ 129 ب، ونصه عند: (الرِّبِّيَّة الواحدة: ألف)، وكذا في: "تفسير البغوي" 2/ 116.
وأورده السيوطي في "الدر" 2/ 146 ونسب إخراجه إلى سعيد بن منصور، ولفظه: (الرِّبَّة الواحدة: ألف).]]، والكلبي [[قوله، في: "بحر العلوم" 1/ 306، و"تفسير الثعلبي" 3/ 129 ب، و"تفسير البغوي" 2/ 116، ونصه: (الرِّبِّيَّة الواحدة: عشرة آلاف)]].
وقال الزّجاج [[في "معاني القرآن" له 1/ 476، وأوره بلفظ: (قيل: .. إنهم الجماعات الكثيرة) واستحسنه.]]: هم الجماعة الكثيرة.
أخبرنا العَرُوضي [[هو: أحمد بن محمد، أبو الفضل. تقدمت ترجمته.]]، عن الأزهري، عن المنذري، عن أبي طالب، قال [[انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1336 - 1337 (ربّ)]]: الرِّبِّيُّونَ: الجماعات الكثيرة. الواحد: (رِبِّيٌّ).
وهو قول ابن عباس [[قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 117 - 118، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 780، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 146 - 147 وزاد نسبة إخراجه إلى ابن المنذر.
وفي رواية أخرى عنه فَسرها بـ (علماء كثير). انظر: "تفسير الطبري" 4/ 117.]]، ومجاهد [[قوله، في: "تفسير الطبري" 4/ 118، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 780، و"معاني القرآن"، للنحاس: 490، و"تفسير الثعلبي" 3/ 129 ب، و"النكت والعيون" 1/ 428، و"زاد المسير" 1/ 472.]]، وقتادة [[قوله، في: "تفسير عبد الرزاق" 1/ 134، و"تفسير الطبري" 4/ 118، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 780، و"تفسير الثعلبي" 3/ 129 ب، و"زاد المسير" 1/ 472.]]، والرَّبِيع [[قوله، في: "تفسير الطبري" 4/ 118، و"تفسير الثعلبي" 3/ 129 ب، و"زاد المسير" 1/ 472.]]، والسُّدِّي [[قوله، في: المصادر السابقة، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 780.]].
[و] [[ما بين المعقوفين زيادة من (ج).]] قال ابن قتيبة [[في "تفسير غريب القرآن" له ص 106.]] وأصله مِن (الرِّبَّةِ)، وهي: الجَمَاعة، يقال [[في "تفسير الغريب" يقال للجمع.]]: (رِبِّيّ)؛ كأنه نُسِبَ [[في (ج): (ينسب).]] إلى (الرِّبَّةِ) [[(الربة): مطموس في (ج).]]، ثم يُجمَع (رِبِّيّ) بالواو [[في "تفسير غريب القرآن" فيُقال: رِبَّيُّون.]].
وقال الأخفش [[في "معاني القرآن"، له 1/ 217.]]: الرِّبَيُّونَ: الذين [[(أ)، (ب): (الذي). والمثبت من (ج)، و"معاني القرآن".]] يعبدون الرَّبَّ، واحِدُهم: (رِبِّيُّ).
قال أحمد بن يحيى [[قوله، في: "تهذيب اللغة" 2/ 1336 (ربّ)، و"اللسان" 3/ 1548 - 1549 (ربب).]]: ينبغي أن يُفتَحَ [الرَّاءُ] [[ما بين المعقوفين في (أ)، (ب)، (ج): (إلّا). وهي تخل بالمعنى، وأراها تصحيفًا من النساخ. والمثبت من: المصادر السابقة.]] على قول الأخفش، فيقال: (رَبِّي) [[في (أ): رِبِّي -بكسر الراء-. وفي (ب)، (ج): مهمل من النقط. وما أثبَتُّهُ -بفتح الراء- هو الصواب.]]؛ لِيَكونَ منسوبًا إلى الرَّبِّ.
فقال مَنْ نَصَرَ الأخفشَ [[هو الثعلبي، في: "تفسيره" 3/ 129 ب.]]: العرب تنسب الشيءَ إلى الشيء، فتغيِّر حَرَكَتَهُ؛ كما قالوا: (بِصْرِي)، في النسبة إلى البَصْرَةِ.
وقوله تعالى: ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا﴾ جَمَعَ بين الوَهْنِ والضَّعْفِ؛ لأن (الوَهْنَ): انكسارُ الحَدِّ بالخوف [[في (ج): (بالحذف).
لم أرَ في مصادر اللغة والتفسير التي رجعت إليها، مَن فسَّر (الوَهْن) بهذا المعنى الدقيق، وإنما فَسَّروه جميعًا بـ (الضَّعْف)، وجعلوهما مترادفين، وهما من عطف الشيء على نفسه. ومنهم من قال بأنه الضعف في الخَلْق والخُلُق، ومنهم من فَسَّره بالضعف في العمل والأمر.
انظر: "غريب القرآن"، لابن اليزيدي 44، و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 106، و"غريب الحديث" للحربي 1056، وانظر مادة (وهن) في: "تهذيب اللغة" 4/ 3966، و"الصحاح" 2215، و"المقاييس" 6/ 149، و"اللسان" 8/ 4935، و"تخليص الشواهد" لابن هشام 452، و"عمدة الحفاظ" 645.]].
و (الضَّعْفُ): نُقْصانِ القوة. أي: لم يَهِنْوا بالخوف، ولا ضَعُفُوا بنُقْصان القُوَّة. هذا معنى قول أبي إسحاق [[في "معاني القرآن" له 1/ 476.]]: ما جَبُنُوا عن قِتَال عَدُوِّهم، وَمَا فَتَرُوا [[نص عبارة الزجاج: (﴿فَمَا وَهَنُوا﴾: فما فَتَروا، ﴿وَمَا ضَعُفُواْ﴾: وما جبنوا عن قتال عدوهم).
أفهم من عبارة المؤلف -والله أعلم- أن (الوَهْنَ): أقرب إلى أن يكون نقصان القوة المعنوية، ومنها خَوَر العزيمة، ودبيب اليأس إلى النفس، وحُلُول الخوف. وأما (الضعف)؛ فهو: نقصان القوى البدنية، والفشل في المقاومة. ومن الطبيعي أنه إذا عمل الخوفُ عَمَلَه في النفس، خارت العزيمةُ، وضعفت القُوَى البدنيةُ، وقلّ إثرَها اندفاعُ الإنسان، وكُسِرت حدَّتُه، فيتضعضع حينها، ويذل، ويستكين. فالوهْنُ يكون أوَّلًا ثم الضعف، ثم الاستكانة.
انظر حول هذا المعنى: "التحرير والتنوير" لابن عاشور 4/ 118، و"تفسير الفخر الرازي" 9/ 28.]]
وقوله تعالى: ﴿وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ الاسْتِكَانَةُ: الخُضُوعُ. وهو أنْ يَسْكنُ لصاحِبِهِ، لِيَفْعَلَ [[من قوله: (ليفعل ..) إلى نهاية قوله: (.. وقال في موضع آخر: السلطان في اللغة: الحجة): سقط من: (ج) من هذا الموضع من المخطوط، ثم عاد الناسخ وكتبه بعد تفسير قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ آية: 152، بحيث تداخل مع تفسير هذه الآية.]] بِهِ ما يريد؛ أي: وما خضعوا لِعَدُوِّهم [[انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 476.]].
قال المفسرون: هذه الآية احتجاجٌ على المنهزِمِينَ يومَ أُحُد، وذلك أنَّ صائِحًا صاحَ: قد قُتِلَ مُحمَد! فاضْطَرَبَ أمرُ المسلمينَ؛ كما ذكرنا القصة في قوله: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾ [آل عمران: 144]، الآية.
واختلفوا فيما بينهم، فأنزل الله هذه الآية، يعاتبهم على ما كان مِن فِعْلِهم، وَيحَضُّهم على الجهاد في سبيل الله؛ لِسُلُوك طريقة العلماء مِن صَحَابَةِ الأنبياء، لِيَقْتَدِيَ الخَلَفُ بالسَّلَفِ في الصَّبْرِ، حتى يأتي اللهُ عز وجل بالفتح [[(بالفتح): ساقط من (ج).
وانظر: التعليق على تفسير المؤلف لقوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾ من آية: 144 سورة آل عمران، فقد وردت مصادر هذه الأقوال هناك.]].
وقال ابنُ الأنباري [[لم أقف على مصدر قوله.]] في هذه الآية: أي: وقد كان واجبًا عليكم، أن تُقاتلوا على أَمْرِ نَبِيِّكُمْ لو قُتِلَ؛ كما قَاتَلَ أُمَمُ الأنبياء بعد قَتْلِهِم، وَلَمْ يَرْجِعُوا عَنْ دِينِهم.
{"ayah":"وَكَأَیِّن مِّن نَّبِیࣲّ قَـٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّیُّونَ كَثِیرࣱ فَمَا وَهَنُوا۟ لِمَاۤ أَصَابَهُمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا۟ وَمَا ٱسۡتَكَانُوا۟ۗ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق