الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾، قال الليث: تقول: ما أعبأ بهذا الأمر، أي: ما أصنع به، كأنك تستقلُّه وتستحقرُه. تقول: عَبَأَ يَعْبَأُ عَبْأً وعِبَاءً ممدود [[كتاب "العين" 2/ 263 (عبء)، وذكره ابن جرير 19/ 55، ولم ينسبه.]]. وقال الكسائي: عبى مقصور. وقال أبو عبيدة: يقال ما عَبأتُ به شيئًا، أي: لم أعده شيئًا [["مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 82. وذكره البخاري، ولم ينسبه، "الفتح" 8/ 490.]]. [وقال شَمِر: قال أبو عبد الرحمن: ما عَبَأت به شيئًا، أي: لم أعده شيئًا] [[ما بين المعقوفين، في (ج)، وهو في "تهذيب اللغة" 3/ 235 (عبا).]] وقال أبو عدنان، عن بعض أهله، يقال: ما يعبأ الله بفلان، إذا كان فاجرًا، أو مائقًا [[المائق: الهالك حمقاً وغباوة. "تهذيب اللغة" 9/ 363 (موق)، و"لسان العرب" 10/ 350.]] وإذا قيل: قد عبأ الله به فهو رجل صدق. قال: وأقول: ما عبأت بفلان، أي: لم أقبل منه شيئًا؛ ولا من حديثه [["تهذيب اللغة" 3/ 234 (عبا)، وفيه: قال أبو عدنان عن رجل من باهلة.]]. وقال أبو إسحاق: تأويله: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ﴾ أيُّ وزنٍ يكون لكم عنده، كما يقول: ما عبأت بفلان، أي: ما كان له عندي وزن، ولا قدر. وأصل العِبْء في اللغة: الثِقل، ومن ذلك: عبأت المتاع، جعلت بعضه على بعض [["معاني القرآن" للزجاج 4/ 78. ونقله عنه الأزهري 3/ 234 (عبا). وفي (ج): (النقل) بدل: (الثقل).]]. وقال بعض أهل اللغة: أصل هذا الحرف، من: تهيئة الشيء، قال: عَبَأت الطيب، أَعْبَؤُه عَبْأ إذا هيأته، قال: كأنَّ بِنَحرِه وبِمنْكبيه ... عَبيرًا باتَ يعبؤه عَروس [[بنصه في "إصلاح المنطق" 149، دون إنشاد البيت. وذكره الثعلبي 8/ 105 ب، ولم ينسب القول ولا البيت. وأنشد البيت الطبرسي 7/ 283، ولم ينسبه، وإنما قال: قال الشاعر يصف أسدًا. وأنشده القرطبي 13/ 84، بلفظ: كان بصدره وبجانبيه. وأنشده في "لسان العرب" 1/ 118 (عبأ)، ونسبه لأبي زبيد. قال الشنقيطي 6/ 359: قوله: يعبؤه، أي: يجعل بعضه فوق بعض لمبالاته به، واكتراثه به.]] قال أبو زيد: يقال: عَبَأت الأمر والطيب عَبْأ إذا ما صنعته وخلطته، وعَبَأت المتاع عَبْأ إذا هيأته. ويقال: عَبَّأته تعبئة، وكل من كلام العرب، وعبأت الخيل تعبئة وتعبيئًا. انتهى كلامه [["تهذيب اللغة" 3/ 235 (عبا).]]. والعِبء: الثقل؛ لأنه يُهيأ له ما يُحمل به، وما أَعْبَأ به: أي لا أهبأ به أمرًا [["تهذيب اللغة" 3/ 235 (عبا)، بلفظ: ما عبأت به شيئاً: لم أباله.]]. هذا كلام أهل اللغة في هذا الحرف. قال مجاهد، ومقاتل: يقول: ما يفعل بكم ربي [["تفسير مجاهد" 2/ 457، وأخرجه ابن جرير 19/ 55، وابن أبي حاتم 8/ 2745. و"تفسير مقاتل" ص 47 ب. واقتصر عليه الهواري 3/ 220.]]. وهو اختيار الزجاج [["معاني القرآن" للزجاج 4/ 78.]]. وقال ابن عباس، والكلبي، وابن زيد: ما يصنع بكم ربي [[أخرجه ابن جرير 19/ 55، عن ابن زيد. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2745، عن عمرو بن شعيب. وذكره الأزهري 3/ 234، عن الكلبي.]]. وهذا اللفظ اختيار الفراء [["معاني القرآن" للفراء 2/ 275.]]. وقوله: ﴿لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾ قال مجاهد، والكلبي: لولا دعاؤه إياكم لتعبدوه وتطيعوه [[أخرجه عن مجاهد ابن جرير 19/ 55، وابن أبي حاتم 8/ 2745، و"تفسير مجاهد" 2/ 457. وفي "تنوير المقباس" ص 306: ﴿لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾ أن الله أمركم بالتوحيد.]]. واختاره القراء؛ فقال: لولا دعاؤه إياكم إلى الإسلام [["معاني القرآن" للفراء 2/ 275. قال الهواري 3/ 220: لولا عبادتكم وتوحيدكم وإخلاصكم، كقوله: ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [غافر: 14].]]. ومعنى الآية على هذا: أي مقدار ووزن لكم عند الله لولا أنه خلقكم لتعبدوه، وتطيعوه. وهذا معنى قول ابن عباس، أي: إنما أريد منكم أن توحدني. والدعاء على هذا مصدر مضاف إلى المفعول. قال: لولا عبادتكم [["تفسير مقاتل" ص 47 ب.]]. وهو قول الكلبي [["تنوير المقباس" ص 306.]]. وقال أبو إسحاق: أي: لولا توحيدكم إياه [["معاني القرآن" للزجاج 4/ 78. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم عن ابن عباس: لولا إيمانكم ولعل المراد بهذا الإيمان والتوحيد، ما ذكره الماوردي 4/ 162، ولم ينسبه: لولا دعاؤكم له إذا مسكم الضر وأصابكم السوء، رغبة إليه وخضوعًا إليه.]]. وعلى هذا: المصدر مضاف إلى الفاعل، وفيه تنبيه على أن من لا يعبد الله، ولا يوحده ولا يطيعه لا وزن له عند الله [[رجح ابن القيم هذا القول؛ فقال: والصحيح من القولين: لولا أنكم تدعونه == وتعبدونه، أي: أي شيء يعبأه بكم لولا عبادتكم إياه فيكون المصدر مضافاً إلى الفاعل. "جلاء الأفهام" ص 254. وذكر هذا ابن العربي المالكي، في "أحكام القرآن" 3/ 430، عن بعض الأدباء، ولم يسمه، ثم قال: وليس هو كما زعم، وإنما هو مصدر أضيف إلى المفعول، والمعنى: قل يا محمد للكفار: ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم ببعثة الرسل إليكم، وتبيين الأدلة لكم، فقد كذبتم فسوف يكون عذابكم لزاماً. قال الثعالبي: والحق أن الآية محتملة لجميع ما تقدم، ومن ادعى التخصيص فعليه بالدليل، والله أعلم. "الجواهر الحسان" 2/ 476. قال ابن عاشور 13/ 438: والحاصل أنه ليس فيكم الآن ما يصلح أن يعتد بكم لأجله إلا الدعاء؛ لأنكم مكذبون، وإنما قلت: الآن؛ لأن: ما، لا تدخل إلا على مضارع بمعنى الحال، عكس: لا.]]. وهذه الآية عند ابن عباس، خطاب لجميع الخلق؛ لأنه قال: ثم رجع إلى جميع الخلق [[أخرج ابن جرير 19/ 55، وابن أبي حاتم 8/ 2745، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- من طريق علي بن أبي طلحة وأخبر الله تعالى الكفار أنه لا حاجة له بهم ...]]. وعند الكلبي: أنه من خطاب أهل مكة [["تنوير المقباس" ص 306. وعند مقاتل خلاف ذلك؛ قال في قوله تعالى: ﴿فَقَدْ كَذَّبْتُمْ﴾ النبي -ﷺ- بعد كفار مكة.]]. وقال ابن قتيبة، في هذه الآية: أي ما يعبأ بعذابكم ربي، لولا ما تدعونه من دونه من الشريك والولد [["تأويل مشكل القرآن" 438. والسبب في كون هذه الآية مشكلة؛ لأن فيها مضمر، فاختلف في تعيينه. أفاده ابن قتيبة، ولذا ذهب إلى ما ذهب إليه أخذاً بظاهر الآية، ثم قال: ويوضح ذلك قوله: ﴿فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا﴾ أي: يكون العذاب لمن كذب ودعا من دونه إلهاً لازماً. وذكر الطوسي 7/ 513، هذا القول عن البلخي؛ قال: معناه: لولا كفركم وشرككم ما يعبأ بعذابكم، وحذف العذاب وأقام المضاف إليه مقامه. وذكر ابن جرير الطبري 19/ 57، قول ابن قتيبة، ورد عليه فقال: وقد كان بعض من لا علم له بأقوال أهل العلم، يقول في تأويل ذلك: قل ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم ما تدعون من دونه من الآلهة والأنداد. وهذا قول لا معنى للتشاغل == به لخروجه عن أقوال أهل العلم من أهل التأويل. وقد ذكر الشنقيطي 6/ 359، هذه المسألة بالتفصيل واستدل على صحة الأقوال الواردة في الآية، واستبعد القول الذي ذكره ابن قتيبة؛ لأن فيه تقدير مالا دليل عليه، ولا حاجة إليه.]]. قال ابن الأنباري: وهذا لم يقل به أحد من السلف، وهو عندي غير صحيح؛ لأن الدعاء يجوز أن يقع على شيئين متضادين، فيقال: لولا دعاؤكم الأصنام، ولولا دعاؤكم الله، وإذا احتمل الحرف الوقوع على معنيين متضادين، لم يجز حذف المنوي؛ لأنه يلتبس؛ ألا ترى أن من قال: أنا أكره كلامك، لم يحسن له أن يقول: أنا أكره. ويسكت؛ لأن المخاطب لا يدري أكراهته تقع على الكلام، أم على السكوت، فإضمار ابن قتيبة الشركاء، والآلهة، في الآية غير صحيح [[سبق ذكر رد ابن جرير عليه.]]. وأيضًا فإنه لا خلاف بين النحوين أنهم إذا قالوا: ما عبأت بفلان، معناه: ما عددته شيئًا؛ ولم يقل منهم أحد: إن معناه: ما عبأت بكلامه، أو بغضه، أو رضاه؛ لأن المضمر مجهول المعنى، وما جهل معناه لم يخذف؛ ثم قال: وتأويل الآية: ما يعبأ بكم ربي، لولا دعاؤه إياكم لتعبدوه وتطيعوه، أي: لولا هذا ما عدكم الله شيئًا، ولا كانت له فيكم حاجة. قوله: ﴿فَقَدْ كَذَّبْتُمْ﴾ الخطاب لأهل مكة، أي: كذبتم محمدًا -ﷺ- [[أخرج ذلك ابن أبي حاتم 8/ 2745، عن السدي.]]. واتصال هذا الكلام بما قبله على معنى: أنه دعاكم إلى توحيده وعبادته فقد كذبتم الرسول ولم تجيبوا دعوته [[أخرج ابن أبي حاتم 8/ 2745، عن الوليد بن أبي الوليد، قال: بلغني أن تفسير هذه الآية: ما خلقتكم لي بكم حاجة، إلا أن تسألوني فأغفر، وتسألوني فأعطكم.]]. قوله تعالى: ﴿فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا﴾ قال الليث: اللزام الذي يلزمك ولا يفارقك [["العين" 7/ 372 (لزم)، بمعناه، وكذا في "تهذيب اللغة" 13/ 220.]]. وأنشد أبو عبيدة، لصخر الغي [[صخر الغَي، صخر بن عبد الله الخيثمي، من بني هذيل، شاعر جاهلي، لقب بصخر الغي، لخلاعته، وشدة بأسه، وكثرة شره "الشعر والشعراء" ص 448، و"الأعلام" 3/ 201.]]: فإما ينجوَا من حَتفِ أرضٍ ... فقد لَقيا حُتوفهما لزامًا [[ذكره أبو عبيدة، في "المجاز" 2/ 82، ونسبه للهذلي، ولفظه: فإما ينجوا من حتف يوم ... فقد لقيا حتوفهما لزامًا وأنشده أبو عبيدة استدلالًا على أن المراد باللزام: الفيصل. وذكره الزجاج 4/ 78، عن أبي عبيدة استدلالًا على ما ذكره، وكذا الأزهري 31/ 320 (لزم)، ورواية البيت موافقة لما في المعاني، والتهذيب، مما يدل على نقل الواحدي عنهما. والله أعلم. وذكره ابن عطية 11/ 84، من إنشاد أبي عبيدة. وذكره القرطبي 13/ 86، بلفظ: فإما ينجوا من خسف أرض]] أي: أنه واقع لا محالة. قال الزجاج: وتأويل هذا: أن الحتف إذا كان مقدرًا فهو لازم، إن نجا من حتف مكان لقيه الحتف في مكان آخر لازمًا له لزامًا [["معاني القرآن" للزجاج 4/ 79. واختار هذا الماوردي 4/ 162؛ فقال: وأظهر الأوجه أن يكون اللزام الجزاء للزومه. وتبعه العز، في تفسيره 2/ 435.]]. والمفسرون ذكروا في تفسير اللزام: أنه يوم بدر، وهو قول ابن مسعود، وأبي بن كعب، ومجاهد، ومقاتل، والسدي، ورواية عطاء عن ابن عباس؛ قال: يريد القتل يوم بدر، وعذاب الدنيا متصل بعذاب الآخرة [["تفسير مجاهد" 2/ 457. و"تفسير مقاتل" ص 47 ب. وأخرج عبد الرزاق 2/ 72، عن قتادة، قال: قال أبي: هو القتل يوم بدر. وأخرجه ابن جرير 19/ 56، عن ابن == مسعود، وأبي بن كعب، وإبراهيم، ومجاهد، والضحاك. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2746، عن أبي مالك، وأبي بن كعب، وابن مسعود، والقرظي، ومجاهد، وقتادة، والضحاك. وبه قال الهوَّاري 3/ 220. وأخرج ابن جرير 19/ 57، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- من طريق علي بن أبي طلحة: اللزام: الموت. وأخرج عن ابن زيد: اللزام: القتال. قال في "الوسيط" 3/ 349: والمعنى أنهم قتلوا يوم بدر، واتصل به عذاب الآخرة، لازماً لهم فلحقهم الوعيد الذي ذكر الله ببدر. وأما في "الوجيز" 785، فلم يحدد بل جعل الآية مطلقة؛ فقال: ﴿فَسَوْفَ يَكُونُ﴾ العذاب لازماً لكم.]]. قال أبو إسحاق: وتأويله: فسوف تلزمكم العقوبة بتكذيبكم، [فيدخل في هذا يوم بدر، وغيره مما يلزمهم من العذاب. وذكر وجهًا آخر، فقال: تأويله -والله أعلم-: فسوف يكون تكذيبكم] [[ما بين المعقوفين، ساقط من (ج).]] لزامًا يلزمكم، فلا تعطون التوبة [["معاني القرآن" للزجاج 4/ 78.]]. وقال الكلبي: ﴿فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا﴾ أخذًا باليد، والقتل يوم بدر؛ وهو من عذاب الدنيا فأسروا يوم بدر وقتلوا [["تنوير المقباس" ص 306، بمعناه.]]. وقال الفراء: فسوف يكون تكذيبكم يوم بدر لزامًا، عذابًا لازمًا لكم [["معانى القرآن" للفراء 2/ 275، بمعناه.]]. وحكى أبو إسحاق، عن أبي عبيدة: ﴿لِزَامًا﴾ فيصلًا [["معاني القرآن" للزجاج 4/ 78، ثم قال: وهو في قريب مما قلنا، ألا أن القول أشرح. و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 82.]]. ونحو هذا روى ثعلب، عن ابن الأعرابي، وقال: اللَّزْمُ: فَصْل الشيء، من قوله تعالى: ﴿يَكُونُ لِزَامًا﴾ أي: فيصلًا [["تهذيب اللغة" 13/ 221 (لزم).]]. والمعنى على هذا: فسوف يكون القتل والهلاك، أو العذاب أو تكذيبكم، على معنى: جزاء تكذيبكم فيصلًا بينكم وبين المؤمنين، ثم كان ذلك يوم بدر، والقول الأول، من: اللَّزام، وهذا من: اللِّزام، وهما ضدان [[قال الزجاج 4/ 79 ومن قرأ: لَزاماً، بفتح اللام، فهو على مصدر لزم لزاماً. ونحوه في "إعراب القرآن"، للنحاس 3/ 170. قال القرطبي 13/ 86: اللِّزام، بالكسر: مصدر لازم، لزاماً، مثل: خاصم خصامًا، واللَّزام، بالفتح، مصدر: لزِم، مثل: سلِم سلاماً، أي: سلامة، فالَلزام بالفتح: الُلزوم، والِلزام: الملازمة. وفي "لسان العرب" 12/ 542 (لزم): وهو في اللغة. الملازمة للشيء والدوام عليه، وهو أيضًا الفصل في القضية، فكأنه من الأضداد.]]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب