الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ﴾ قال أبو زيد: مرج البحرين خلاهما، ثم جعلهما لا يلتبس ذا بذا؛ قال: وهو كلام لا يقولهه إلا أهل تِهامة [[سميت تهامة بذلك: لشدة حرها وركود ريحها. وهو من التَّهم. وهو: شدة الحر وركود الريح، يقال: تهم الحر: إذا اشتد. "معجم البلدان" 2/ 74. وتهامة. سهول تقع بين جبال الحجاز وساحل البحر الأحمر، في المملكة العربية السعودية.]]، وأما النحويون، فيقولون: أَمْرَجْتَه وأمرجَ دابته [["تهذيب اللغة" 11/ 72 (مرج)، و"اللسان" 2/ 365.]]. إذا خلاها وأرسلها ترعى [[واقتصر على أن معناه. خلاهما، ابن قتيبة، "غريب القرآن" 314.]]. ونحو هذا قال الكسائي سواء. وقال أبو عبيدة: إذا خليت الشيء فقد مَرجتَه، وإذا ألقى الدابة في المرعى فقد مَرجَها، وأَمْرَجها [["مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 77. بمعناه. قال ابن الأنباري: مرجت الدابة: إذا خليتها. وأمرجتها: إذا رعيتها. "الزاهر" 1/ 425.]]، وأنشد العجاج: رعى بها مَرْج ربيع مُمْرَجًا [[أنشده أبو عبيدة، في "المجاز" 2/ 77، منسوبًا للعجاج. وأنشده الأزهري، "تهذيب اللغة" 11/ 71 (مرج)، ولم ينسبه. وكذا ابن جرير 19/ 23. وهو في "ديوان العجاج" 290، وفيه: يقول: رعى هاهنا في الربيع، والمرج: القطعة من الأرض الكثيرة الكلأ، والمُمْرَج: المخلَّى.]] وقال الفراء: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ﴾ أرسلهما [["معاني القرآن" للفراء 3/ 115، في سورة الرحمن.]]. وقال الزجاج: خلا بينهما، تقول: مَرَجَت الدابة، وأمْرَجتُها إذا خليتها ترعى، والمَرْجُ من هذا سُمِّي، ومَرِجَت عهودُهم [[هذا جزء من حديث عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَ رَسُولَ الله -ﷺ-، قَالَ: "كَيْفَ بِكُمْ وَبِزَمَانٍ أَوْ يُوشِكُ أَنْ يَأْتيَ زَمَانٌ يُغَرْبَلُ النَّاسُ فِيهِ غَرْبَلَةً تَبْقَى حُثَالَةٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ وَاخْتَلَفُوا فَكانُوا هَكَذَا" وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَقَالُوا: وَكَيْفَ بِنَا يَا رَسُولَ الله! قَالَ: "تَأْخُذُونَ مَا تَعْرِفُونَ وَتَذَرُونَ مَا تُنْكِرُونَ وَتُقْبِلُونَ عَلَى أَمْرِ خَاصَّتِكُمْ وَتَذَرُونَ أَمْرَ عَامَّتِكُمْ" قَالَ أَبُو دَاوُد: هَكَذَا رُوِيَ عَن عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَبِيِّ -ﷺ-، مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ. سنن أبي داود 4/ 513 كتاب الملاحم، رقم: 4342. وابن ماجه 2/ 1307 كتاب الفتن، رقم: 3957. وذكره الألباني، "سلسلة الأحاديث الصحيحة" 1/ 367 رقم: 205.]] إذا اختلطت [["معاني القرآن" للزجاج 4/ 72. وفسر المرج بالاختلاط، ابن جرير 19/ 23، واستدل بقوله تعالى: ﴿فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ﴾ [ق: 5] أي: مختلط.]]. قال ابن عباس، والضحاك، ومقاتل: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ﴾ خلع أحدهما على الآخر [[أخرجه بسنده، عن ابن عباس والضحاك، ابن جرير 19/ 24. وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2707، عن الضحاك، فقط. وفي "تنوير المقباس" ص 304: أرسل البحرين. ولم أجد قول مقاتل في تفسيره. ونسبه للثلاثة جميعًا، الثعلبي 100 أ.]]. وقال مجاهد: أفاض أحدهما في الآخر [["تفسير مجاهد" 2/ 454. و"تفسير الهواري" 3/ 214. وأخرجه ابن جرير 19/ 24. وابن أبي حاتم 8/ 2707. وقد وردت أقوال أخرى في معنى الآية فيها صرف للفظ المرج عن ظاهره، والحق ما اقتصر عليه الواحدي هنا. ومثل له ابن الجوزي بقوله: يُرى ماء البحر إلى الخضرة الشديدة، وماء دجلة إلى العمرة الخفيفة، فيأتي المستقي فيغرف من ماء دجلة عذبًا، لا يخالطه شيء، وإلى جانبه ماء البحر في مكان واحد. وهذا أبلغ في إثبات قدرة الله -عز وجل-، وعطف خلق الإنسان عليه يشهد له. والله أعلم.]]. وقال أهل المعاني: أرسلهما في مجاريهما كما ترسل الخيل في المَرْج. وهما يلتقيان [[نسب هذا القول الرازي 24/ 100، لابن عباس رضي الله عنهما.]] فلا يبغي الملح على العذب، ولا العذب على الملح بقدرة الله -عز وجل- [[معنى هذا أن: مرج، تطلق في اللغة بمعنى: أرسل وخلى. وتطلق بمعنى: خلط. تفسير الشنقيطي 6/ 338. ثم شرح معنى الآية على كلا الإطلاقين. وبين 6/ 339، أن معنى البرزخ، على القول الأول: هو اليبس من الأرض. وعلى القول الثاني: حاجز من قدرة الله غير مرئي للبشر.]]. وذلك قوله: ﴿وَهَذَا﴾ يعني: أحد البحرين [["تفسير الطوسي" 7/ 273، ولم ينسبه. وكذا ابن الجوزي 6/ 96. وصدره بقوله: قال المفسرون.]]. ﴿عَذْبٌ﴾ طيب، عَذُبَ الماء يَعْذُبُ عُذوبَة فهو عَذْبٌ طيب بارد، وأَعْذَب القوم إذا عَذُبَ ماؤهم، واستعذَبوا إذا استقوا ماءً عَذْبًا، وأصله من: المنع، والماء العَذْبُ هو الذي يمنع العطش، يقال: عَذَبه عَذْبًا إذا منعه، وعَذَب عُذُوبًا إذا امتنع، والعاذب: الفرس الذي يمتنع من العلف، وسمي العذاب عذابًا؛ لأنه يعذب [[هكذا في النسخ الثلاث: (يعذب)؛ ولعل الصواب: (يمنع).]] المعاقب عن معاودة الفعل الذي عوقب عليه [["تهذيب اللغة" 2/ 321 (عذب).]]. قوله ﴿فُرَاتٌ﴾ الفرات: أعذَبُ المِياه [[في "المجاز" لأبي عبيدة 2/ 77: شديد العذوبة. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص 314. وهو كذلك في "تفسير ابن جرير" 19/ 24؛ وقال: يعني بالعذب الفرات: مياه الأنهار، والأمطار، وبالملح الأجاج: مياه البحار. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 72. و"تفسير الثعلبي" 8/ 100 أ.]]، وقد فَرُتَ الماءُ، يَفْرُتُ فُرُوتَة إذا عَذبَ، فهو: فُرَاتٌ [["تهذيب اللغة" 14/ 272 (فرت)، بنصه.]]. وقوله: ﴿مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾ قال الليث: المِلْح خلاف: العَذْب من الماء، يقال: ماءٌ مِلْح، ولا يقال: مالح [["العين" 3/ 243 (ملح). ونقله عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" 5/ 98.]]. ونحو هذا قال ابن السكيت [["إصلاح المنطق" ص 288. ونقله عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" 5/ 98 (ملح) وقال به ابن قتيبة، غريب القرآن 314. وقال ابن جني في "المحتسب" 2/ 124: مالحًا، ليست فصيحة، صريحة؛ لأن الأقوى في ذلك: ماء ملح.]]. وقال يونس: لم أسمع أحدًا من العرب يقول: ماء مالح. قال: وقال أبو الدُّقيش [[أبو الدقيش، هو القناني الغنوِيّ. هكذا ذكره القفطي، ولم يزد عليه. "إنباه الرواة" 4/ 121، ذكر الأزهري بإسناده إلى أبي زيد أنه قال: دخلت على أي الدقيش الأعرابي، وهو مريض، فقلت: كيف تجدك يا أبا الدقيش؟ فقال: أجد ما لا أشتهي، وأشتهي ما لا أجد، وأنا في زمان سوء؛ من وجَد لم يجُد، ومن جاد لم يجَد. مقدمة "تهذيب اللغة" 1/ 13.]]: ماء مالح، وماء ملح. قال الأزهري: هذا وإن وجد في كلام العرب قليلًا فهي لغة لا تنكر [["تهذيب اللغة" 5/ 99،98 (ملح)، قال الأزهري ذلك بعد سياقه لأقوال من سبق. وأما أبو السعود 6/ 225، فلم يذكر شيئًا من ذلك، بل جعل: ملح، تخفيف مالح، كبرد، تخفيف بارد.]]. قوله تعالى: ﴿أُجَاجٌ﴾ الأجاج أشد الماء ملوحة [[في المجاز لأبي عبيدة 2/ 77: أملح الملوحة. و"تفسير الثعلبي" 8/ 100 أ.]]. قال الزجاج: وهو الشديد الملوحة المحرق ملحوته [["معاني القرآن" للزجاج 4/ 72.]]، من: أجَّتِ النارُ أجًّا [["تهذيب اللغة" 11/ 234 (أجج).]]. قال مقاتل: ﴿هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ﴾ يعني: طيبًا حلوًا [["تفسير مقاتل" ص 46 أ. وهو بنصه، في "تنوير المقباس" ص 304. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص 314.]] ﴿وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾ يعني: مرًا من شدة الملوحة [["تفسير مقاتل" ص 46 أ. وفي "تنوير المقباس" ص 304: مر مالح زعاق. وأخرج عبد الرزاق 2/ 70، بإسناده عن قتادة: الأجاج: المر. قال ابن قتيبة في "الغريب" ص 314: وقيل: هو الذي يخالطه مرارف واقتصر الهوَّاري 3/ 214 على تفسيره بالمر.]]. والمعنى: أن الله تعالى خلط البحرين العذب، والملح، وحجز أحدهما عن الآخر فليس يفسد الملحُ العَذْبَ، ولا العَذْبُ الملحَ؛ وهو قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا﴾ حاجزًا من قدرة الله [[في "معاني القرآن" للفراء 2/ 270: البرزخ: الحاجز. قال أبو عبيدة في "المجاز" 2/ 77: كل ما بين شيئين: برزخ، وما بين الدنيا والآخرة: برزخ. قال ابن جريج: فلم أجد بحرًا عذبًا إلا الأنهار العذاب، فأخبرني الخبير بها أنها تقع في البحر، فلا تمور فيه بينهما مثل الخيط الأبيض، فإذا رجعت لم ترجع في طريقها من البحر، والنيل يصب في البحر. "تفسير ابن جرير" 19/ 25. وذكر أبو حيان 6/ 464، مشاهدته ذلك وأن الناس في البحر يستقون الماء العذب منه. وذكرِ الحسن، أن == المراد بالحاجز: اليبس. "تفسير ابن جرير" 19/ 25، أي: حائلًا من الأرض. ونصر هذا القول الرازي 24/ 101. وقد رد هذا القول ابن جرير. والعجب من الحافظ ابن كثير 6/ 117، فقد ذكر قول ابن جريج المتقدم، واختيار ابن جرير له، ومع ذلك فقد رجح أن المراد بالحاجز: اليبس من الأرض. ولم يتعقب ابن جرير في اختياره. قال الشنقيطي 6/ 339: وهذا محقق الوجود في بعض البلاد، ومن المواضع التي هو واقع فيها المحل الذي يختلط فيه نهر السنغال بالمحيط الأطلسي، بجنب مدينة "سانلويس"، وقد زرت مدينة "سانلويس" عام ست وستين وثلاثمائة وألف هجرية، واغتسلت مرة في نهر السنغال، ومرة في المحيط، ولم آت محل اختلاطهما، ولكن أخبرني بعض المرافقين الثقات أنه جاء إلى محل اختلاطهما، وأنه جالس يغرف بإحدى يديه عذبًا فراتًا، وبالأخرى ملحًا أجاجًا، لا يختلط أحدهما بالآخر. فسبحانه جل وعلا ما أعظمه، وما أكمل قدرته. فالأولى أن تجعل الآية شاملة لكلا المعنين، حيث لا تعارض بينهما. والله أعلم. وفي مجلة الإعجاز العدد الثالث بحث حول الإعجاز العلمي في هذه الآية.]]. قال ابن عباس: قضاء من قضائه لا يعذب هذا الملح، ولا يملح هذا العذب. وقال الزجاج: هما في مرآة العين مختلطان، وفي قدرة الله منفصلان، لا يختلط أحدهما بالآخر [["معاني القرآن" للزجاج 4/ 72. وقد ورد في تفسير الحاجز أقوال أخرى، ذكرها ابن أبي حاتم 8/ 2708، وغيره، وفي بعضها صرف للفظ عن ظاهره، واقتصار الواحدي -رحمه الله- على هذا القول يدل على اختياره له. ونظير هذه الآية قوله تعالى: قال تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ﴾ [الرحمن: 19، 20] وقوله ﴿أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا﴾ [النمل: 61].]]. وقوله: ﴿وَحِجْرًا مَحْجُورًا﴾ قال ابن عباس: حرامًا محرمًا [أن يُعذَبَ هذا الملحُ بالعَذْب، أو يُملحَ هذا العذبُ بالملح [[في "تنوير المقباس" ص 304: حرامًا محرمًا من أن يغير أحدهما طعم صاحبه.]]. وقال الفراء: حرامًا محرمًا] [[ما بين المعقوفين، ساقط من (ج).]] أن يغلب أحدهما صاحبه [["معاني القرآن" للفراء 2/ 270. وفي "تفسير مقاتل" ص 46 أ: يعني: حجابًا محجوبًا فلا يختلطان، ولا يفسد طعم الملح العذب.]]. وفي الآية محذوف؛ وهو الذي حرم قوله: ﴿وَحِجْرًا مَحْجُورًا﴾ على تقدير: وحرامًا محرمًا أن يفسد أحدهما الآخر، فحذف لدلالة قوله: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا﴾ عليه. وذكرنا الكلام في: ﴿وَحِجْرًا مَحْجُورًا﴾ في هذه السورة [[عند قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا﴾ [الفرقان: 22]]]. وتفسير البرزخ، تقدم في سورة: المؤمنين [[عند قوله تعالى: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: 100] قال الواحدي في تفسيرها: معنى البرزخ في اللغة: الحاجز بين الشيئين كيفما كان من عين أو معنى نحو المسافة والجدار والأيام والعداوة وغير ذلك.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب