الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَر﴾ ألم تعلم؛ لأن المراد الرؤية بالقلب والفعل. وقد ذكرنا هذا في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا﴾ [البقرة: 243] الآية. وقوله: ﴿يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ قال الفراء: يعني أهل السموات ﴿وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ قال: يعني كل خلق [من الجبال ومن الجن وأشباه ذلك [["معاني القرآن" للفراء 2/ 219.]]. وقوله ﴿وَالشَّمْسُ﴾ إلى قوله ﴿وَالدَّوَابُّ﴾ وصف الله تعالى هذه الأشياء كلها] [[ما بين المعقوفين ساقط من (أ).]] بالسجود واختلفوا في معنى سجود هذه الأشياء، والصحيح أن المراد بسجودها خضوعها وذلتها وانقيادها لمولاها فيما [[في (أ): (بما).]] يريد منها [[بل الصحيح ما قاله الأزهري في "تهذيب اللغة" 4/ 340 بعد ذكره لهذه الآية: فسجود هذه المخلوقات عبادة منها لخالقها لا نفقهها عنها كما لا نفقه تسبيحها. أهـ.]]. وهذا القول هو اختيار الزجاج والنحاس. قال الزجاج: السجود هاهنا الخضوع لله، وهو طاعة مما خلق الله من الحيوان والموات فالسجود هاهنا سجود طاعة واحتج بقوله تعالى: ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت: 11] [["معاني القرآن" 3/ 418.]]. وقال النحاس: هذا القول صحيح بيّن، فكل شيء منقاد لله -عَزَّ وَجَلَّ- على ما خلقه، وعلى ما رزقه، وعلى ما أصحه وعلى ما أسقمه، وليس هذا سجود العبادة [[من قوله: وقال قوم .. إلى قوله: أثر الصنعة فيها. منقول عن "معاني القرآن" للزجاج 3/ 418. ومن قوله: "والتسخير ... إلخ" منقول عن "الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 49 أ.]]. وقال قوم: إن السجود من هذه الأشياء التي هو موات ومن الحيوان الذي لا يعقل إنما هو أثر الصنعة فيها والتسخير والتصوير الذي يدعو العارفين إلى السجود لله -عَزَّ وَجَلَّ- [["القطع والائتناف" للنحاس 489.]] وهذا القول كالأول لأن تسخيرها وأثر الصنعة فيها لخضوعها وذلتها لخالقها ويدل على أن غير العاقل يوسف بسجود الخضوع قول الشاعر [[هذا عجز بيت لزيد الخيل، وصدره: بجيش تضلُّ البُلْق في حَجَراته وهو في "ديوانه" ص 66، وتأويل "مشكل القرآن" ص 322، و"المعاني الكبير" 2/ 890 كلاهما لابن قتيبة، والطبري 2/ 242، و"الكامل" للمبرد 2/ 201، والرواية عندهم: (منه) في موضع (فيها). وهو من غير نسبة في: "معاني القرآن" للزجاج 3/ 418، "الأضداد" لابن الأنباري ص 295، و"الصحاح" للجوهري 2/ 483 (سجد)، و"للسان" 3/ 206 (سجد). والرواية عندهما: فيها. والبلق: جمع بلقاء، والبلقاء: هي الفرس التي يكون فيها بلق يعني: سواد وبياض. أو البلقاء: الفرس التي ارتفع التحجيل فيها إلى الفخذين. و (حجراته): نواحيه، والأكم: جمع أكمه: وهي التل أو الموضع يكون أشد ارتفاعًا مما حوله. انظر: "لسان العرب" 10/ 25 (بلق)، 4/ 168 (حجر)، "القاموس المحيط" 3/ 214 ، 4/ 75. قال ابن قتيبة في "المعاني الكبير" 2/ 89: يقول: إذا ضلت البلق فيه مع شهرتها فلم تعرف فغيرها أحرى أن تضل، يصف كثرة الجيش، ويريد أن الأكم قد خشعت من وقع الحوافر.]]: ترى الأكْمَ فيها سُجَّدًا للحَوافِرِ أي: خشعت من وطي الحوافر عليها. هذا الذي ذكرنا مذهب أرباب المعاني [[نسب الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 49 أهذا القول لأرباب الحقائق.]]. وقال مجاهد: سجود الجماد وكل شيء سوى المؤمنين تحول ظلالها كما قال: ﴿وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ [الرعد: 15] [[ذكره عن مجاهد: الثعلبي 3/ 49 أوبنحوه رواه الطبري 17/ 130. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 17 ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر.]]. قال أهل المعاني: كأنه يجعل ذلك لما فيه من العبرة بتصريف الشمس في دورها عليه سجودًا [[ذكره الطوسي في "التبيان" 7/ 268، والجشمي في "التهذيب" 6/ 171 ب من غير نسبة لأحد.]]. وقال أبو العالية: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع لله ساجدا حين يغيب ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيرجع إلى مطلعه [[ذكره الثعلبي 3/ 49 أ، ورواه الطبري 17/ 130. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 18 ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر.]]. وعلى هذا فكل شيء مما خلقه [[في (ظ)، (د)، (ع): (خلق).]] الله تعالى يسجد لله حقيقة السجود ويدل عليه قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 74] وقوله: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ﴾ [الأنبياء: 79] إلا أنا لا نعلم كيفية ذلك، وقد قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: 44]. وقال أرباب الأصول: الجمادات لا تعقل ولا يتميز فإن حدثت لها حالة [[في (ظ)، (د)، (ع): (حال).]] في التمييز فذلك [[في (ظ)، (د)، (ع): (فذاك).]] بأن الله تعالى يحدث لها في تلك الحالة عقلاً وتمييزًا، وإلا فالتمييز منها محال ما دامت على حقيقة صنعتها الأولى. قوله تعالى: ﴿وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ﴾ يعني المؤمنين الذين يسجدون لله تعالى. ﴿وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ بكفره وهو مع ذلك يسجد لله ظله، قاله مجاهد [["الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 49 أعن مجاهد بنصه. وقد رواه الطبري 17/ 130. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 17، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.]]. فعلى هذا قوله ﴿وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ من جملة الساجدين. وقال قوم: تم الكلام في وصف الساجدين عند قوله ﴿وَالدَّوَابُّ﴾ ثم ابتدأ فقال: ﴿وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ﴾ [[انظر: "المكتفى في الوقف والابتدا" للداني ص 393.]]. روى ابن الأنباري عن ابن عباس أنه قال: وكثير من الناس في الجنة [[رواه ابن الأنباري في كتابه "إيضاح الوقف والابتداء" 2/ 872. وذكره القرطبي 12/ 24 عن ابن عباس من رواية ابن الأنباري. وذكره أبو عمرو الداني في كتابه "المكتفى في الوقف والابتدا" ص 393 عن ابن عباس.]]. وقال في رواية عطاء: وكثير من الناس يوحده وليس كلهم وكثير حق عليه العذاب ممن لا يوحده [[ذكره الرازي 23/ 20 من رواية عطاء، عن ابن عباس.]]. وعلى هذا يصح الوقف على ﴿وَالدَّوَابُّ﴾، ثم ابتدأ بذكر فريقي الجنة والنار والإيمان والكفر. وقال آخرون؛ التمام عند قوله ﴿وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ﴾ وانقطع ذكر الساجدين ثم ابتدأ فقال ﴿وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ أي: بإبائه وامتناعه من السجود وهؤلاء غير داخلين في جملة الساجدين [[انظر: "إيضاح الوقف والابتداء" لابن الأنباري 2/ 782، "القطع والائتناف" == للنحاس ص 488 - 489، "منار الهدى في بيان الوقف والابتدا" للأشموني ص 255.]]. قال الفراء: قوله ﴿حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ يدل على أن المعنى: وكثير أبى السجود؛ لأنه لا يحق عليه العذاب إلا بتركه السجود [["معاني القرآن" للفراء 2/ 219.]]. وهذا القول هو اختيار نافع والكسائي وأبي حاتم [[ذكره عنهم النحاس في "القطع والائتناف" ص 488.]] وهو أن الوقف على (الناس). وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ قال الفراء: يريد من يُشقْهِ الله فما له من مُسْعد [["معاني القرآن" للفراء 2/ 219.]]. وكذا روى عن ابن عباس [[انظر: "تنوير المقباس" ص 207.]]. وقال في رواية عطاء: ﴿وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ﴾ يريد [[يريد: ساقطة من (ظ)، وفي (د)، (ع): (يريد: ومن يهن الله) من تهاون.]]: من تهاون بعبادة الله [[ذكره عنه القرطبي 17/ 24.]]. يعني أن تهاونه بعبادة الله [من إهانة الله] [[ما بين المعقوفين ساقط من (ظ).]] إياه وطرده ﴿فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ﴾ يريد أن مصيره إلى النار وليس إلى الكرامة كما يُكْرم أولياؤه [[قال الطبري 17/ 130: (فما لي من مكرم) بالسعادة يسعده بها.]]. وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ أي: في خلقه من الإهانة والكرامة والشقاء والسعادة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب