الباحث القرآني

﴿فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ﴾ فلنقابلن ما جئتنا به من السحر بسحر مثله ﴿فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا﴾ الموعد في اللغة: يجوز أن يكون اسمًا للوعد فيكون مصدرًا، ويجوز أن يكون اسمًا لمكان الوعد [[انظر: "تهذيب اللغة" (وعد) 4/ 3915، "القاموس المحيط" (وعده) 1/ 326، "الصحاح" (وعد) 2/ 551، "لسان العرب" (وعد) 8/ 4871، "المفردات في غريب القرآن" (وعد) ص 526.]]. كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ﴾ [الحجر: 43]. فالموعد هاهنا ينبغي أن يكون مكانًا؛ لأن جهنم مكان، ويجوز أن يكون الموعد اسمًا لزمان الوعد، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ﴾ [هود:81]، والذي في هذه الآية هو المصدر: اجعل بيننا وبينك وعدًا، ويدل على هذا قوله: ﴿لَا نُخْلِفُهُ﴾ أي: لا نخلف ذلك الوعد، والإخلاف: أن يعد العدة فلا ينجزها. وقوله تعالى: ﴿مَكَانًا سُوًى﴾ ينتصب على الظرف للوعد [["الحجة للقراء السبعة" 5/ 224، "إملاء ما من به الرحمن" 1/ 122، "إعراب القرآن" للنحاس3/ 42، "البحر المحيط" 6/ 253]]، وعند البصريين لا يجوز أن يكون ظرفًا للوعد الظاهر في الآية ويتعلق به؛ لأنه قد وصف بالجملة التي هي ﴿لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ﴾ وإذا وصف لم يجز أن يتعلق به بعد الوصف له شيء منه؛ لأنه لا يوصف الاسم قبل تمامه، وكذلك لا يعطف عليه ولا يؤكد ولا يخبر عنه، والوصف والعطف والتوكيد والخبر كل هذا يؤذن بتمام الاسم، فلا يجوز أن يتعلق بالاسم بعد هذه الأشياء شيء، مثال ذلك أنك لا تقول: هذا ضارب ظريف زيدًا على أن ينصب زيدًا بضارب؛ لأنك وصفت الضارب فلا يتعلق به بعد الوصف شيء، وكذلك لا يجوز المعطي عمرًا زيدًا، على أن ينصب زيدًا بالمعطي؛ لأنك قد أخبرت عنه، ولا يجوز مررت بالضارب وعمرو زيدًا، ولا مررت بالضارب نفسه زيدًا؛ لأنك لا تؤكد ولا تعطف على الاسم وقد نفيت منه بقيه، وكذلك البدل لا يجوز أن يبدل من الاسم قبل تمامه كقولك: مررت بالضارب أخيك زيدًا، على أن تبدل الأخ من الضارب، وقد جاء في الشعر شيء من هذا كقول بشر بن أبي خازم [[البيت لبشر بن أبي خازم. انظر: "الحجة للقراء السبعة" 5/ 225، "المقرب" لابن عصفور 1/ 124، "المقاصد النحوية" 3/ 560، "شرح شاهد الألفية" للعيني 3/ 560، "لسان العرب" (فقد) 6/ 3444، "مجمع البيان" 7/ 25.]]: إِذَا فاقِدٌ خَطْباءَ فَرْخَين رَجَّعَتْ ... ذَكَرتُ سُلَيمَى في الخَلِيطِ المُباين أعمل فاقدا بعد وصفه بخطباء. وهذا الذي جاء منه في الشعر يحمل النحويون مثله على إضمار فعل آخر مثل الذي ظهر، كأنه قال بعد قوله خطباء: فقدت فرخين، ودل عليه فاقد، كذلك قوله تعالى: ﴿مَكَانًا﴾ لا يجوز على ما ذكرنا أن يتعلق بموعد، ولكنه يتعلق بمحذوف يدل عليه الظاهر، كأنه قيل: عدنا مكانا سوى، ويجوز أن يتعلق بالموعد المذكور في الآية؛ لأنه ظرف والظرف [[في (ص): (والمظروف).]] يتجوز فيه ما لا يتجوز في غيره، ألا ترى أن الظروف تقع مواقع لا يقعها غيرها [["الحجة للقراء السبعة" 5/ 226.]]. ومما جاء مثل هذا في التنزيل قوله تعالى: ﴿لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ﴾ [غافر: 10]، فالظرف الذي هو (إذ) يتعلق بالمقت الأول؛ لأن المعنى: لمقت الله إياكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم الآن، فقوله: ﴿إِذْ تُدْعَوْنَ﴾ يتعلق بالمقت الأول، وقد وقع بعد الاختلاف عنه بقوله أكبر من مقتكم الآن، وهذا يحمل على أحد الوجهين الذين ذكرناهما من تقدير الحذف، كأنه قيل: مقتكم إذ تدعون، أو على أنه ظرف يتجوز فيه. قال أبو علي الفارسي: (ولم نعلم في التنزيل مجيء [[في نسخة (س): (جيء).]] شيء من هذا إلا في الظرف) [["الحجة للقراء السبعة" 5/ 226.]]. ويجوز أن يكون الموعد في هذه الآية اسمًا لزمان الوعد، كقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا﴾ [الكهف: 59]، فيكون مجيء الموعد اسمًا للزمان، كقولهم: كان هذا مقدم الحاج، ومبعث الجيوش، ومضرب الشُّوْل [[الشُّوْل من النوق: التي قد أتى عليها سبعة أشهر من يوم نتاجها، فلم يبق في ضروعها إلا شَول من اللبن، أي: بقية وأما الناقة الشائل بغير هاء: فهي التي ضربها الفحل فشالت بذنبها، أي: رفعته تري الفحل أنها لا قح، وذلك آية لقاحها. انظر: "تهذيب اللغة" (شال) 2/ 1811، "مقاييس اللغة" (شول) 3/ 230، "القاموس المحيط" (شالت) (1021)، "الصحاح" (شول) 5/ 1742، "لسان العرب" (شول) 4/ 2363.]] أي: وقت قدومهم ووقت بعثهم، ووقت ضربها، وأنشد أبو الحسن [[البيت لعمرو بن أبي ربيعة. انظر: "ديوانه" ص 323، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 228.]]: كُلَّمَا قُلْتُ: غَدًا مَوعِدنا ... غَضِبَتْ هِنْدٌ وَقالَت بَعْدَ غَدْ والموعد في هذا البيت اسم للزمان، والكلام في انتصاب مكانًا على هذا الوجه يكون كما ذكرنا في الوجه الأول في موعد؛ لأن التقدير: اجعل بيننا وبينك وقت وعد، أو زمان وعد لا نخلفه نحن ولا أنت في مكان سوى. والذي يختاره أبو علي في وجه نصب ﴿مَكَانًا﴾: (أن يكون مفعولًا ثانيًا لجعلت بمنزلة قوله: ﴿جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾ [الحجر: 91]، وقوله: ﴿وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا﴾ [الزخرف: 19]، في أنه انتصب على أنه مفعول ثان لجعلت) [["الحجة للقراء السبعة" 5/ 228.]]. وعلى هذا يجب أن يكون الموعد اسمًا للمكان، ويجوز أن يكون بدلًا منه. وأما معنى (سوى) قال الزجاج: (﴿مكانا سوى﴾ ويقرأ: سُوى بالضم [[قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي: (مكانا سِوى) بكسر السين. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة: (مكانا سُوى) بضم السين. انظر: "السبعة" ص 418، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 223، "المبسوط في القراءات" ص 248، "التبصرة" 259.]]. ومعناه: مَنْصفًا أي مكانًا يكون النَّصفَ فيما بيننا وبينك، وقد جاء في اللغة سواء ممدود مفتوح بهذا المعنى تقول: هذا مكان سواء، أي متوسط بين المكانين) [["معاني القرآن" للزجاج 3/ 360.]]. وقال أبو عبيدة: (مكان سُوى وسِوى بضم أوله وبكسر، مثل: طُوى وطِوى وهو المكان المنصف فيما بين القريتين) [["مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 20.]]، وأنشد لموسى بن جابر الحنفي [[البيت لموسى بن جابر الحنفي. انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 20، "جامع البيان" 16/ 134، "النكت والعيون" 3/ 408، "المحرر الوجيز" 10/ 43، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 224، "الخزانة" 1/ 146، "الأغاني" 10/ 107، "لسان العرب" (سوى) 4/ 2163.]]: وإِنَّ أَبانا كانَ حَلَّ بِبَلدَةٍ ... سِوى بين قَيْسٍ عَيْلاَنَ والفِزْرِ فسِوى مثل: بِلى، وقِرى، ومِعى، ورِيي، وقِمع، وضِلع، وقِطع. وسُوى بالضم مثل: ضُحى وسُدى وهُدى ومثل: صُرَد وحُطَم ونحو ذلك. وقال أبو علي: (سِوى فِعَلْ من التسوية، فكأن المعنى: يستوي مسافته على الفريقين فتكون مسافة كل فريق إليه كمسافة الفريق الآخر، وهذا ما يقل في الصفات ومثله: قوم عِدىً، [وأما فُعَلْ فهو في الصفات أكثر من فِعَل نحو: دَليلٍ خُنَعْ] [[ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، ومثبت في بقية النسخ.]]، ومالٍ لُبَدْ، ورَجلٍ حُطَمٍ) [["الحجة للقراء السبعة" 5/ 224.]]. هذا كلام أهل اللغة في هذا الحرف [["معاني القرآن" للفراء 2/ 181، "معاني القرآن" للزجاج 3/ 360 ن "الحجة للقراء السبعة" 5/ 224، "تهذيب اللغة" (سوى) 2/ 1795، "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 279.]]. فأما قول المفسرين فقال قتادة: (نصفا) [["تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 16، "جامع البيان" 16/ 176، "الدر المنثور" 4/ 540.]]. وقال مقاتل: (عدلا بيننا وبينك) [["الكشف والبيان" 3/ 19 ب، "معالم التنزيل" 5/ 279، "تفسير مقاتل" ص 3.]]. ونحوه قول السدي [["جامع البيان" 16/ 176، "بحر العلوم" 2/ 236، "النكت والعيون" 3/ 408، "الدر المنثور" 4/ 540.]]. وقال مجاهد: (منصفا بيننا وبينك) [["جامع البيان" 16/ 176، "تفسير كتاب الله العزيز" 3/ 42، "بحر العلوم" 2/ 346، "معالم التنزيل" 5/ 279، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 212.]]. وقال ابن مسلم: (وسطًا بين القريتين) [["الكشف والبيان" 3/ 19 ب، "بحر العلوم" 2/ 346، "النكت والعيون" 3/ 408، "معالم التنزيل" 5/ 279، "زاد المسير" 5/ 205.]]. وهذه الأقوال بمعنى واحد. وقال ابن زيد: (مكانًا مستويًا يتبين الناس ما بيننا فيه) [["جامع البيان" 16/ 176، "النكت والعيون" 3/ 408، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 212، "الدر المنثور" 4/ 540.]]. وعلى هذا التسوية من صفة المكان، لا من صفة المسافة إليه، كأنه قيل: مكانًا لا يحجز الناظر إليه من [[في (س): (شيء من الخفاء).]] انخفاض وارتفاع. وقيل (مكانا سوى) أي: تستوي حالنا في الرضا به [["التفسير الكبير" 22/ 72، "روح المعاني" 16/ 217.]]. وقال الكلبي: ((سوى) يعني سوى هذا المكان) [["الكشف والبيان" 3/ 19 ب، "معالم التنزيل" 5/ 279، "القرطبي" 11/ 212.]]. يعني الذي كان فرعون فيه وقت خطابه موسى. و (سوى) على هذا القول يكون بمعنى: غير، ويحتاج إلى تقدير محذوف. وقال عطاء عن ابن عباس: ((مكانا سوى) يريد موضعًا معروفاً) [[ذكرت نحوه كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "ابن كثير" 3/ 173، "الفتوحات الإلهية" 3/ 97، "روح المعاني" 16/ 217.]]. وهذا القول يشبه معنى قول ابن زيد. والقول ما عليه الجمهور. ومعنى الآية: اجعل بيننا وبينك موعدًا لنجيء بسحر مثل الذي جئت به، فننظر أينا يغلب صاحبه.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب