الباحث القرآني
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ قال ابن عباس: لم حرّم الله تعالى الرِّبا أباحَ السَّلَم فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾ [[رواه عبد الرزاق في "المصنف" 8/ 5، والشافعي في "الأم" 3/ 93، والطبري في "تفسيره" 3/ 116 - 117، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 554.]] الآية.
التداين: تفاعل، من الدَّيْن، ومعناه: داين بعضكم بعضًا وتبايعتم بدين [[من قوله: (التداين)، ساقط من (ي).]]، قال أهل اللغة: القرضُ غير الدينِ؛ لأن القرض أن يقترض الإنسانُ دراهمَ أو دنانيرَ أو حَبًّا وتمرًا وما أشبه ذلك ولا يجوز فيه الأجل، والأجل في الدَّيْن جائز [[ينظر "اللسان" 1/ 32 (مادة: أجل).]].
ويقال من الدَّين: ادَّانَ: إذا باع سلعته [[في (م) (سلعة).]] بثمن إلى أجل، ودان بدين: إذا أَقْرضَ، ودان استقرض، وأنشد الأحمر [[هو: علي بن الحسن المعروف بالأحمر، مؤدب المأمون العباسي، وشيخ النحاة في عصره، كان جنديًا على باب الرشيد، وأخذ العربيةَ عن الكسائي الذي أوصله إلى الرشيد، كان قوي الذاكرة يحفظ 40 ألف بيتِ شعرٍ، توفي سنة 194هـ. انظر بغية الوعاة 2/ 158 - 159، "الأعلام" 4/ 271.]]:
نَدِيْنُ ويَقْضِي اللهُ عَنّا وقد نَرَى ... مَصارعَ قَوْمٍ لا يَدِينُونَ ضُيَّعا [[البيت للعجير السلولي، في "لسان العرب" 3/ 1468 (مادة: دين)، "تاج العروس" (مادة: دين)، وبلا نسبة في "تهذيب اللغة" 2/ 1137، ينظر: "المعجم المفصل في شواهد اللغة" 4/ 249. قال ابن بَرِّي: صوابه ضُيّعِ بالخفض على الصفة لقوم وقبله:
فَعِد صاحبَ اللَّحَّام سيفًا تبيعُه ... وزد درهمًا فوق المُغَالينَ واخْنَعِ]]
فهذا على معنى يستقرض، وادّان: إذا كثر عليه الدّين، وتديّن واستدان: إذا أخذ الدين [[ينظر في دين: "تهذيب اللغة" 2/ 1137، "المفردات" ص181، "اللسان" 3/ 1468.]]، قال:
يُعَيّرُني بالدَّيْن قَوْمِي وإنَّما ... تَدَيَّنْتُ في أَشْيَاءَ تُكْسِبُهُم حَمْدًا [[البيت للمقنع الكندي، ينظر "اللسان" 3/ 1468 مادة: (دين)، "تهذيب اللغة" 2/ 1138، "البحر المحيط" 2/ 8 ويروى البيت هكذا:
يعاتبني في الدين قومي وإنما ... ديوني في أشياء تكسبهم حمدًا]]
قال المفسرون: كل حق مؤجل فهو داخل تحت قوله: ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾ [["تفسيرالثعلبي" 2/ 1783.]].
قال ابن الأنباري: إنما ذكر الدَّيْن مع أن ﴿تَدَايَنْتُمْ﴾ يدل عليه؛ لأن التداين يكون بمعنيين، أحدهما: التداين بالمال، والآخر: التداين بمعنى: المجازاة، من قولهم: كما تدين تُدان، والدين: الجزاء، فذكر الله تعالى الدين لتلخيص أحد المعنيين [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1783، وقيل: إنها جاءت للتوكيد، كقوله: ﴿وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: 38]. و"تفسير الطبري" 3/ 117، و"المدخل لتفسير كتاب الله": للحدادي 296 ص، و"تفسير أبي المظفر السمعاني" 2/ 461.]].
وقوله تعالى: ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ معنى الأجل في اللغة: الوقتُ المضروبُ لانقضاء الأمد، وأَجَلُ الإنسان هو الوقت لانقضاء عمره، وأَجَلُ الدين: محَلُّه، لانقضاء التأخير فيه، وأصله من التأخير، يقال: أَجِلَ الشيء يَأْجَلُ أُجُولًا: إذا تأخر، والآجل: نقيضُ العاجل.
وقوله تعالى: ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ الكِتابةُ والإِشهادُ اللذان ذكرا في هذه الآية للتداين، والمبايعة في قوله: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ قد اختلف الناس فيهما، فأوجبهما جماعة من أهل العلم، وقالوا: إن الله تعالى أمر في الحقوق المؤجلة بالكِتابة والإشهادِ حفظًا منه للأموال، وذلك أن الذي عليه الدين إذا كانت عليه الشهود والبينة قلّ تحديثه نفسه بالطمع في إذهابه، وهذا مذهب عطاء [[المغني 6/ 381.]] وابن جريح [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 117.]] وإبراهيم [[المغني 6/ 381.]] واختيار محمد بن جرير [["تفسير الطبري" 3/ 119 - 120.]]، قال إبراهيم: يشهد ولو على دَسْتَجة [[الدَّسْتَجَة: الحزمة. ينظر: "القاموس" ص 189 (مادة: دستج).]] بَقْل.
وقال قوم: هذا أمر ندب وإباحة كقوله: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ [المائدة: 2]، ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا﴾ [الجمعة: 10] وهذا اختيار الفراء؛ لأنه يقول: هذا الأمر ليس بفريضة، إنما هو أدب ورحمة من الله، فإن كتب فحسن، وإن لم يكتب فلا بأس [["معاني القرآن" للفراء.]].
قال ابن الأنباري: وهو اختيارنا؛ لاتفاق أكثر العلماء عليه، ولأن الأمر لو كان حتمًا لم يكن المسلمون ليقدموا على خلاف نصّ القرآن في أسواقهم، ولكان فيه أعظم التشديد على الناس والتغليظ، والنبي ﷺ يقول: "بُعِثْتُ بالحنفية السمحة" [[رواه أحمد 5/ 266. قال السخاوي في "المقاصد الحسنة" ص109: وسنده حسن.]].
وقال آخرون: كانت الكتابة والإشهاد أو الرهن فرضًا، ثم نسخ ذلك بقوله: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ إن أشهدت فَحَزْم [[في (م) (فجزم).]]، وإن تركت ففي حلٍّ وسعة [[وهذا قول الشعبي، رواه الثوري في "تفسيره" ص 73، وأبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 145، وابن أبي شيبة في "المصنف" 6/ 97، والطبري في "تفسيره" 3/ 118، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 570، وابن الجوزي في نواسخ القرآن ص 263، وقال: وهذا ليس بنسخ؛ لأن الناسخ ينافي المنسوخ، ولم يقل هاهنا: فلا تكتبوا ولا تشهدوا، وإنما بين التسهيل في ذلك. وينظر: "تفسير القرطبي" 3/ 383، و"النسخ في القرآن" لمصطفى زيد 2/ 683.]].
وقال التيِمي: سألت الحسن عنها فقال: إن شاء أشهدَ، وإن شاء لم يُشْهِدْ، ألا تسمع قوله: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 118، وفي "النكت والعيون" 1/ 354 بمعناه.]].
قال أبو عبيد: والعلماء اليوم من أهل الحجاز وأهل العراق وغيرهم على هذا القول [[سقطت من (م).]]، أن شهادة المبايعة ليست بحتم على الناس، والآية الناسخة بعدها قوله: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ ويرون [[في (ش) (ويروي).]] أن البَيِّعينِ مخيَّرانِ في الشهادة والترك [[وينظر في المسألة: "المغني" 6/ 381 - 383، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 248، "تفسير القرطبي" 3/ 383.]].
وقوله تعالى: ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾ أي: ليكتب كتاب الدين بين المستدين والمدين كاتب بالعدل، أي: بالحق والإنصاف، لا يكتب لصاحب الدين فضلًا على الذي عليه، ولا يُنْقِصُه [[في (ي) (ولا ينقصه عليه).]] من حَقِّه، ولا يقدِّم الأجلَ، ولا يؤخِّرُه، ولا يكتب شيئًا يبطل به حقًّا لأحدهما لا يعلمه هو، فهذا العدل [["تفسير الثعلبي" 2/ 1789.]].
وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ﴾ أي: لا يمتنع، يقال: أبى فلان الشيء يَأبَاهُ، إذا امتنع عنه [[في (م) (منه).]] ولم يفعله، ويقال: أَخَذَه أُبَاءٌ، إذا كان يأْبى الطعامَ فلا يشتهيه [[ينظر في أبى: "تهذيب اللغة" 1/ 114، "اللسان" 1/ 14 قال الراغب في "المفردات": الإباء شدة الامتناع، وليس كل امتناع إباء.]].
قال مجاهد [[رواه عبد الرزاق في "المصنف" 8/ 365، والطبري في "تفسيره" 3/ 119، و"ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 556.]] والربيع [[رواه الطبري في "تفسيره" 3/ 120، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 555.]]: واجب على الكاتب أن يكتبَ إذا أُمر؛ لأن الله تعالى أَمَره أن لا يَأْبى. قال الفراء: أُمِرَ الكاتبُ أن لا يأبى، لقلةِ الكُتّاب كانوا على عهد رسول الله ﷺ [["تفسير الثعلبي" 2/ 1789.]].
وقال الحسن: ذاك إذا لم يقدر على كاتب سواه فيضر بصاحب الدين إن امتنع [[ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1789، والبغوي في "تفسيره" 1/ 349.]].
وقال الضحاك: كانت هذه عزيمة واجبة على الكاتب والشاهد، فنسخها قوله: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 120، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1790، والبغوي في "تفسيره" 1/ 349، وفي "النكت والعيون" 1/ 355، "تفسير القرطبي" 3/ 384، وقال معلقًا: هذا يتمشى على قول من رأى أو ظن أنه قد وجب في الأول على كل من اختاره المتبايعان أن يكتب، وكان لا يجوز له أن يمتنع، حتى نسخه قوله تعالي: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ وهذا بعيد؛ فإنه لم يثبت وجوب ذلك على كل من أراده المتبايعان كائنا من كان، ولو كانت الكتابة واجبة ما صح الاستئجار لها؛ لأن الإجارة على فعل الفروض باطلة، ولم يختلف العلماء في جواز أخذ الوثيقة على كَتْب الوثيقة. وينظر "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 248.]].
وقوله تعالى: ﴿كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ﴾ أي: لا يأبَ أن يكتبَ كما أمره الله عز وجل من الحق، فعلى هذا يكون قوله: ﴿كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ متصلًا بقوله: ﴿أَن يَكْتُبَ﴾ كما أمره الله، ويحتمل أن يتمَّ الكلامُ عند قوله: ﴿أَن يَكتُبَ﴾ ثم قال: ﴿كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ﴾ أي: كما فضله الله بالكتابة.
وقال ابن عباس: كما أفهمه الله، ولا يمنعن المعروف بكتابة [[هو من رواية عطاء التي تقدم الحديث عنها في قسم الدراسة.]].
والوجهان ذكرهما الزجاج [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 362.]].
وقوله تعالى: ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ الإِمْلال والإِملاءُ لغتان [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1790.]]، قال الفراء: أمْلَلْتُ عليه الكتابةَ لغةُ الحجاز وبني أسد، وأَمْلَيتُ لغة تميم [[في (ي) (بني تميم).]] وقيس، نزل القرآن باللغتين [[نقله عنه في "تهذيب اللغة" 4/ 3452 (مادة: ملل)، وينظر "اللسان" 7/ 4271 (مادة: ملل).]]، قال الله تعالى في اللغة الثانية: ﴿فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفرقان: 5] ومعنى الآية: أن [[سقطت من (أ) و (م).]] الذي عليه الدين يُملي؛ لأنه المشهود عليه، فيُقر على نفسه بلسانه، ليُعلم ما عليه.
وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ البَخْسُ: النُّقْصَان، يقال: بَخَسه حَقَّه، إذا نَقَصَه [[ينظر في بخس: "تهذيب اللغة" 1/ 221: "المفردات" ص 48، قال الراغب: البخس: نقص الشيء على سبيل الظلم.]].
أُمِر من عليه الحق أن يُقرَّ بمبلغ المال الذي عليه ولا ينقص شيئًا.
وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا﴾ قال مجاهد: جاهلا [[سقطت من (ي).]] بالإملاء [[رواه عبه الطبري في "تفسيره" 3/ 122، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 559، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1791.]].
وقال الضحاك [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 122، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1791.]] والسدي [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 122، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 559.]]: طفلًا صغيرًا.
(أو ضعيفًا) يعني: عاجزًا أحمق، عن السدي [[انظر المصدرين السابقين.]] وابن زيد [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 123.]].
(أو لا يستطيع أن يملّ هو) لخَرَسٍ أو عِيِّ أو [[غير واضح في (م).]] جَهْلٍ بما له وعليه [["تفسيرالثعلبي" 2/ 1791.]].
﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾. قال الضحاك [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 123 بمعناه.]] وابن زيد [[المرجع السابق.]]: أي: ولي السفيه والعاجز والطفل، يعنى: قيمه أو وارثه أو من يقوم مقامه في حقه.
وقال ابن عباس [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 123، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1792، والبغوي في "تفسيره" 1/ 349.]] والربيع [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 123، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1792.]] ومقاتل [["تفسير مقاتل" 1/ 229.]]: يعني: ولي الحق، وهو صاحب الدين؛ لأنه أعلم بدينه. ﴿بِالْعَدْلِ﴾: بالصدق والحق والإنصاف. والقول الأول اختيار الزجاج [["معاني القرآن" 1/ 363.]] وصاحب النظم، وهو الأظهر والأصح.
قال الزجّاج: إن الله عز وجل أمر أن لا يؤتى السفهاء الأموال، وأمر أن يقام بهم [[في (ي) و (ش) (لهم).]] فيها، فقال: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ [النساء: 5]، فوليُّه: الذي يقوم مقامه في ماله. قال: وقول من قال: إنه ولي الدين، بعيد، كيف يقبل قول المدعي، وما حاجتنا إلى الكتابة والإشهاد، والقول قوله [["معاني القرآن" 1/ 363.]]؟ وقال صاحب "النظم": الذي يدل عليه نظم هذا الفصل أنه ولي السفيه، لأن ولي السفيه [[قوله: (لأن ولي السفيه)، ساقط من (ي).]] يقوم مقام [[في (م) (مقامه).]] السفيه، والسفيه هو الذي عليه الحق، وقد وسم الله عز وجل في أول الفصل صاحب الحق بوسْمٍ، وكان ما وسمه به أن قال: ﴿فَلْيَكْتُبْ﴾ ووسم الذي عليه الحق [[سقطت من (م).]] بوسم آخر، فقال: ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ [[في (ي) (قال فلما قال).]] فلما قال هاهنا: ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾، عُلِمَ أنه يعني: وليَّ السفيه؛ لأنه أقامه مقام السفيه، وهو الذي عليه الحق، ولو أراد صاحب الحق لقال: فليكتب وليه بالعدل، كما وسمه [[في (ي) (قال) بدل (وسمه به).]] به في أول القصة.
وأجاز الفراء القولين جميعًا [["معاني القرآن" للفراء 1/ 183.]].
وقوله تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا﴾ أي: أَشْهِدُوا، يقالُ: أَشْهَدتُّ الرجلَ واستشهدته بمعنى [[ينظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1944 (مادة: شهد).]]، وبه فسر قول النبي ﷺ: "يَشْهَدُون [[سقطت من (ي).]] ولا يُستشهدون" [[رواه البخاري (3750) كتاب: فضائل أصحاب النبي ﷺ، باب فضائل أصحاب النبي ﷺ، ومسلم (5235) كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل الصحابة، عن عمران بن حصين.]] أي: لا يشهدون.
وقوله تعالى: ﴿شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ يعني: من أهل ملتكم من الأحرار البالغين، دون الصبيان والعبيد [["تفسير الثعلبي" 2/ 1792، وينظر "الأم" 6/ 251، "مختصر الطحاوي" 335، "المغني" 14/ 185، وأجاز أنس بن مالك وابن سيرين وشريحٌ شهادةَ العبيد، وأجاز الحسن وإبراهيم. والشعبي والنخعي والحكم شهادتهم في الشيء التافه. ينظر صحيح البخاري (2659) كتاب: الشهادات، باب: شهادة الإماء والعبيد، و"المصنف" لابن أبي شيبة 6/ 77، و"المغني" 14/ 186.]].
وقوله تعالى: ﴿فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ قال الزجاج: أي: [[سقطت من (ي).]] فالذي يُستشهد إن لم يكن رجلان فرجل [[في (أ) و (م) و (ش) (رجل).]] وامرأتان [["معاني القرآن" 1/ 363.]].
قال الفراء: فليكن رجل وامرأتان فرفع بالرد على الكون [["معاني القرآن" للفراء 1/ 184.]].
وقال صاحب "النظم": أي: فليكفكم رجل وامرأتان [[من قوله: (قال الفراء). ساقط من (أ) و (م).]]. وقيل: فرجل وامرأتان [[من قوله: (قال الفراء). ساقط من (أ).]] يشهدون. كل هذه التقديرات جائز حسن.
قال أبو علي الفارسي: قال أبو الحسن الأخفش: التقدير: فليكن رجل وامرأتان [["معاني القرآن" للأخفش 1/ 189.]]، كما قال الفراء، ثم قال من عنده: يجوز أن تكون [[في (ي): (إن كانت كان).]] (كان) المضمرة في الآية الناصبة للخبر [[في (م): (للحال).]]، ويجوز أن تكون التامة التي لا توجب خبرًا، فإن أضمرت التي تقتضي الخبر كان تقدير إضمار الخبر: فليكن من يشهدون رجل أو امرأتان، وإن [[في (م): (فإن).]] أضمرت التامة [[سقطت من (ي).]] التي بمعنى الحدوث والوقوع كان أولى؛ لأنك إذا أضمرتها أضمرت شيئًا واحدًا، وإذا أضمرت الأخرى احتجت أن تضمر شيئين، وكلما قل الإضمار [[في (أ) و (م): (إضمار).]] كان أسهل [[ذكر في "البحر المحيط" 2/ 346 أن الصحيح أن خبر كان لا يحذف لا اقتصارًا ولا اختصارًا.]]، وأيهما أضمرت فلابدّ من تقدير المضاف، المعنى: فليحدث شهادة رجل وامرأتين، أو يقع، ألا ترى أنه ليس المعنى: فليحدث رجل وامرأتان، ولكن لتحدُث شهادتهما أو تقع، أو تكون شهادة رجلٍ وامرأتين [[في (ي): (أمرأة).]] فيما يشهدون [[من "الحجة" 2/ 419 - 421 بتصرف، وينظر في إعراب الآية: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 344، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 144، "التبيان" 1/ 167، "البحر المحيط" 2/ 346.]].
واجماع أن شهادة النساء جائزة [[سقطت من (م).]] في الأموال [[حكى الإجماع الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1793، وابن المنذر في "الإجماع" ص 78، وينظر: "اختلاف الفقهاء" للمروزي ص 284، "المغني" 14/ 130، "فتح الباري" 5/ 266، ووقع الخلاف في غير الأموال، فيرى مالك والأوزاعي والشافعي وأبو عبيد وأحمد وأبو ثور: أنها لا تجوز إلا في الأموال، ويرى أبو حنيفة وسفيان: أنها جائزة في كل شيء ما عدا الحدود والقصاص.]].
وقوله تعالى: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ قال ابن عباس: يريد: من أهل الفضل والدين [[ذكره في "زاد المسير" 1/ 338، وفي "الوسيط" 1/ 405.]]، كما في الطلاق، ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ [الطلاق: 2]. ودل هذا القول: أن في الشهود من ينبغي أن لا يُرضى [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 363.]]، وجملة القول فيمن تقبل شهادته، أن يجتمع فيه عشر خصال: يكون حرًا، بالغًا، مُسلمًا، عدلًا، عالمًا بما يشهد به، ولا يجرُّ بشهادته إلى نفسه منفعة، ولا يدفع عن نفسه مضرةً، ولا يكون معروفًا بكثرة الغلط، ولا بترك المروءة، ولا يكون بينه وبين من يشهد عليه عَصَبيّة [[ينظر في ذكر الشروط: "تفسير الثعلبي" 2/ 1796، و"الكافي" لابن عبد البر 2/ 892، و"المغني" 14/ 145، و"روضة الطالبين" 14/ 145، "البحر المحيط" 2/ 347. وبين المذاهب خلاف في بعض هذه الشروط.]].
وقوله تعالى: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ أن تتعلق بفعل مضمر، دل عليه ما قبله من الكلام، وذلك أن قوله: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ يدل على: فاستشهدوا رجلًا وامرأتين، فتعلق أن إنما [[سقطت من (ي).]] هو بهذا الفعل المدلول عليه [[من "الحجة" 2/ 419.]]، ويجوز أن يتعلق الشيء بما ذكرنا من الفعل المقدر، في قول الفراء وأبي الحسن [[تقدمت أقوالهما عند قوله تعالى: ﴿فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾.]] وهو: فليكن رجل وامرأتان، ويجوز أن يتعلق بشيء ثالث، وهو الخبر المضمر فيمن جعل التقدير: فرجل وامرأتان يشهدون [[من "الحجة" 2/ 421.]] [[ينظر في إعراب الآية: "معاني القرآن" للفراء 1/ 184، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 345، "الحجة" 2/ 419، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 144، "التبيان" ص 167.]].
وقوله تعالى: ﴿أَنْ تَضِلَّ﴾ قال ابن عباس [[ذكره في "زاد المسير" 1/ 338.]] وجميع أهل التفسير والمعاني: تَضلّ: تنسى، والضلال يكون بمعنى النسيان؛ لأن الناسي للشيء عادل عنه وعن ذكره، قال الله عز وجل: ﴿قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ﴾ [الشعراء: 20] أي: الناسين الذين ضلوا وجه الأمر، ومن هذا قولهم: ضَلِلْتُ الطريق والدار أَضِلُّه ضلالًا: إذا لم تدر أين هو [[ينظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2129 - 2131 (مادة: ضلّ)، "تفسير الثعلبي" 2/ 1805، "المفردات" 300 - 302، وأطال النفس في ذكر أنواعه، "لسان العرب" 5/ 2601 - 2604 (مادة: ضلل)، وفيه قال أبو عمرو بن العلاء: إذا لم تعرف المكان قلت: ضلَلته، وإذا سقط من يدك شيء قلت: أضللته، يعني: أن المكان لا يضل وإنما أنت تضل عنه.]]، قال الفرزدق:
ولَقَدْ ضَلَلْتَ أباَكَ يَدْعُو دَارِمًا ... كضَلالِ مُلْتَمِسٍ طَرِيقَ وَبَارِ [[البيت من الكامل، وهو للفرزدق في "ديوانه" ص 450، "لسان العرب" 5/ 2601 مادة: (ضلل).]]
وقال أبو عمرو: أصل الضلال في اللغة: الغيبوبة [[نقله عنه في "تهذيب اللغة" 3/ 2130 (مادة: ضل).]].
وقوله تعالى: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا﴾ أي: تغيب عن حفظِها، أو يغيب حفظُها عنها، وإحدى: تأنيث الواحد.
قال أبو علي: أنثوه على غير بنائه، و (إحدى) لا تستعمل إلّا مضمومة إلى غيرها ومضافة، لا يقولون: رأيت إحدى، ولا جاءني إحدى. وروى أبو العباس عن ابن الأعرابي قال: [[في "الحجة": (وقال أحمد بن يحيى) ولم يروه عن ابن الأعرابي كما هنا.]] يقال: أحد في جمع إحدى. يقال: فلان إحدى الإحد، وأحَدُ الأَحَدِيْن، وواحِدُ الآحَاد، كما يقال: واحد لا مثل له، وأنشد:
حتى استثاروا بي [[في (ي): (في).]] إحْدَى [[في (م): (أحد).]] الإِحَدِ ... لَيْثًا هِزَبْرًا ذا سِلاحٍ مُعْتَدِي [[رجز للمرار الفقعسي. ينظر: "الأغاني" 10/ 324، "الخزانة" 3/ 293.]]
قال أبو العباس: جعلوا الألف في (إحدى) بمنزلة التاء في الكسرة، فقالوا [[في (ش): (فقال).]] في جمعها: إِحَد، كما قالوا: كِسَر لما جَعَلُوه مثلها في الكبر والكبرى، والعُلْيا والعُلَى، فكما جعلوا هذه كظُلْمَة وظُلَم، جعلوا الأول بمنزلة كِسَرٍ وسِدَرٍ [[في (ش): (سدد).]]، وكما جعلوا الألف المقصورة بمنزلة التاء فيما ذكرنا جعلوا الممدودة أيضًا بمنزلتها في قولهم: قَاصِعَاءُ وقَوَاصعُ، ودَامَّاءُ ودَوَامّ [["الحجة" 2/ 422 - 423. وينظر في أحد: "اللسان" 1/ 35، "عمدة الحفاظ" 1/ 71 - 73.]].
وموضع (أن) نصب، لأن المعنى: استشهدوا امرأتين، لأن تُذَكّر إحداهما الأخرى، ومن أجل أن تذكر [[ينظر في الإعراب: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 364، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 144، "التبيان" ص 168.]].
فإن قيل: إذا كان المعنى هذا فلم جاز: أن تضل، والشهادة لم توقع للضلال الذي هو النسيان، إنما وقعت للذكر والإذكار؟ والجواب عنه: أن الإذكار لما كان سببه الإضلال، جاز أن يذكر (أن تضل)؛ لأن الضلال هو السبب الذي به وجب الإذكار، كما تقول: أعددت هذا [[في "معاني القرآن": (أعددت هذا الجذع)، وفي "الكتاب" لسيبويه 3/ 53: أعددته.]] أن يميل الحائط فأدعمه [[في (ش) (فأدغمه).]]، وإنما أعددت للدعم لا للميل، ولكن ذكر الميل لأنه سبب الدعم، كما ذكر الضلال لأنه سبب الإذكار، هذا قول سيبويه، وعليه البصريون [[ينظر: "الكتاب" لسيبويه 3/ 53، وعنه نقل الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 364، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 144، "التبيان" ص 168.]].
وقال الفراء: معنى الآية: فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء، كي تُذَكِّر إحداهما الأخرى إن ضلت، فلما تقدم [[في (م) (قدم).]] الجزاء اتصل بما قبله ففتحت أن، قال: ومثله من الكلام؛ إنه ليعجبني أن يسأل السائل فيعطى، معناه: إنه ليعجبني أن يعطى السائل أن سأل؛ لأنه إنما [[في (ش) (إنه).]] يعجبه الإعطاء لا السؤال [["معاني القرآن" للفراء 1/ 184، "تفسير الثعلبي" 2/ 1804.]]، فلما قدموا السؤال على العطية أصحبوه أن المفتوحة ليكشف المعنى، فعنده (أن) في قوله: ﴿أَنْ تَضِلَّ﴾ للجزاء، إلا أنه قدم وفتح، وأصله التأخير. وأنكر البصريون هذا القول [[ينظر في رد هذا القول: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 345، "التبيان" ص 168.]].
قال أبو إسحاق: لست أعرف لم صار الجزاء إذا تقدم وهو في مكانه وغير مكانه وجب أن تفتح أن [["معاني القرآن" 1/ 364.]].
وقال أبو علي: ما ذكره الفراء دعوى لا دلالة عليها، والقياس يفسدها [[في (ي): (يفيدها).]]، ألا ترى أنا نجد الحرف العامل إذا تغيرت حركته لم يوجب ذلك تغيرًا في عمله ولا معناه، وذلك ما رواه أبو الحسن فتح اللام الجارة مع المظهر، عن يونس وأبي عبيدة وخلف الأحمر، فقال: لَزَيْدٍ، فكما أن هذا اللام لما فتحت لم يتغير من عملها ومعناها شيءٌ عما كان عليه من الكسر، كذلك (إن) الجزاء لو فُتِحَتْ لم يجب على قياس اللام أن يتغيَّرَ له معنى ولا عمل، ومما [[في (ي): (ما).]] يبعد ذلك: أن الحروف العاملة إذا تقدمت كانت مثلها إذا تأخرت، لا تتغير بالتقدم عما [[في (أ) و (ش): (كما).]] كانت عليه في التأخير، ألا ترى أن من قال: بزيدٍ مررتُ، وإلى عمروٍ ذهبتُ، فقدم الحرف كان تقديمُه مثلَ تأخيرِه لا يُغَيِّرُ التقديم شيئًا كان عليه في التأخير [[من "الحجة" 2/ 433 بتصرف.]].
وقال صاحب النظم في هذه الآية: التقدير: مخافة أن تضل وخوفًا لكم، أن تضل أن تنسى، لما فيهن من النقص عن ذكر الرجال وحفظهم، كما قال عمرو بن كلثوم:
فَعجَّلْنَا القِرَى أن تَشْتِمُونَا [[شطره الأول:
نزلتم منزل الأضياف منا
والبيت من معلقته، ينظر: "شرح القصائد العشر" للتبريزي ص 361، "جمهرة أشعار العرب" 1/ 412، "منتهى الطلب" 1/ 116، "شرح شواهد المغني" ص 44.]]
قيل فيه: مخافة أن [[في (أ) و (م) (لا يشتمونا).]] يشتمونا، وهذا لا بأس به لو لم يكن بعد قوله: ﴿أَنْ تَضِلَّ﴾ ﴿فَتُذَكِّرَ﴾، ولما عطف قوله: ﴿فَتُذَكِّرَ﴾ على ﴿أَنْ تَضِلَّ﴾ فسد هذا القول؛ لأن الخوف على الضلال يصح، والخوف على التذكير لا يصح؛ لأن إشهاد امرأتين للتذكير لا لخوف التذكير [["إعراب القرآن" للنحاس 1/ 346، وقال في "التبيان" ص 168: ولا يجوز أن يكون التقدير: مخافة أن تضل؛ لأنه عطف عليه ﴿فَتُذَكِّرَ﴾، فيصير المعنى. مخافة أن تذكر إحداهما الأخرى إذا ضلت، وهذا عكس المراد. وينظر "البحر المحيط" 2/ 349.]].
وقرأ حمزة (إن تَضَلَّ) بكسر الألف (فَتُذَكِّرُ) بالرفع [[وقرأ الباقون (أن تضل إحداهما فتُذَكِّر) بفتح همزة (أن) ونصب الراء من (تذكر) غير أن ابن كثير وأبا عمرو خففا الكاف وشددها الباقون. ينظر "السبعة" ص 194، "الحجة" 2/ 418 - 419.]]، جعل (إن) للجزاء، و (تضل) في موضع جزم، وحركت بالفتح لالتقاء الساكنين، كقوله: ﴿مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ﴾ [المائدة: 54]. والفاء في قوله: ﴿فَتُذَكِّرَ﴾ جواب الجزاء، وقياس قول سيبويه في قوله: ﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ﴾ [المائدة: 95] أن يكون بعد الفاء في ﴿فَتُذَكِّرَ﴾ مبتدأ محذوف [[في (ي): (محذوف الضمير في).]]، ولو أظهرته لكان: فيما [[في (ش): (فيهما). وفي (أ): (كأنها: فهما)، والمثبت من "الحجة".]] تُذَكِّرُ إحداهما الأخرى، والذكر [[في (ي) (والذكرى).]] العائد إلى المبتدأ المحذوف: الضميرُ في قوله: ﴿إِحْدَاهُمَا﴾.
وموضع الشرط وجوابه رفع بكونهما وصفًا للمنكرين [[في (ش) (وضعا للمنكورين)، وفي (ي) (للمنكورين).]]، وهما المرأتان في قوله: ﴿فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾، لأن الشرط والجزاء جملة يوصف بها، كما يوصف [[في "الحجة": (يوصل).]] بها في نحو قوله: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ [الحج: 41] [[من "الحجة" 2/ 426 - 427 بتصرف وتقديم وتأخير.]].
وقوله تعالى ﴿فَتُذَكِّرَ﴾ قرئ بالتشديد والتخفيف [[في (ي) (بتشديد الكاف وتخفيف).]] [[قرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الكاف، وقرأ الباقون بالتشديد. ينظر: "السبعة" ص 194، "الحجة" 2/ 419.]]، والذكر فعل يتعدى إلى مفعول واحد، فإذا ضعفت منه العين أو نقلته بالهمزة تعدى إلى مفعول آخر، مثل: فَرَّحْتُه وأَفْرَحْتُه، وغَرَّمْتُهُ وأَغْرَمْتُه، وكَرَّمْتُه وأَكْرَمْتُه. فمن قرأ بالتشديد كان ممن جعل التعدية بالتضعيف ومن حجته: قوله تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: 55] وقوله: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾ [الغاشية: 21]، والتشديد أكثر استعمالًا من التخفيف، أنشد أبو علي:
على أنَّنِي بَعْدَما قَدْ مَضَى ... ثَلاثُون للهَجْرِ حَوْلًا كَمِيلا
يُذَكّرُنيِكِ حَنِينُ العَجُولِ ... ونَوْحُ الحَمَامَةِ تَدْعُو هَدِيلا [[البيتان للعباس بن مرداس الصحابي في "ديوانه" ص 136، "الحجة" 2/ 431، "لسان العرب" 7/ 3930 مادة: (كمل). والحنين: ترجيع الناقة صوتها إثر ولدها، والعَجُول من الإبل: الواله التي فقدت ولدها بذبح أو موت أو هبة، ونوح الحمامة. صوت تستقبل بها صاحبها، والهديل: قال ابن قتيبة في "أدب الكاتب" ص 210: العرب تجعله مرةً فَرْخُا تزعم الأعراب أنه كان على عهد نوح لله، فصاده جارح من جوارح الطير، قالوا: فليس من حمامة إلا وتبكي عليه. ومرة يجعلونها الطائر نفسه، ومرة يجعلونه الصوت. ينظر "الخزانة" 1/ 573 وشرح أبيات المغني 7/ 203، وتحقيق "الحجة" 2/ 431.]] ومن قرأ بالتخفيف جعل التعدية إلى المفعول الثاني بالنقل بالهمزة، والمفعول الثاني محذوف، المعنى: فتذكّر إحداهما الأخرى الشهادة التي احتملتاها [[من "الحجة" 2/ 431 - 432 بتصرف وتقديم وتأخير، وينظر: "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 151، "علل القراءات" للأزهري 1/ 100.]].
وعامة المفسرين على أن هذا التذكير والإذكار من النسيان، إلا ما يروى عن سفيان بن عيينة أنه قال في قوله: ﴿فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ أي: تجعلها ذَكَرًا [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 125، وذكره النحاس في "معاني القرآن" 1/ 318، وابن زنجلة في "حجة القراءات" ص 151، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1806، والبغوي 1/ 351، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 338.]]، يعني: أنها إذا شهدت مع أخرى صارت شهادتهما كشهادة ذكر، وقد روي هذا أيضًا عن أبي عمرو بن العلاء [[ذكره في "زاد المسير" 1/ 338، "المحرر الوجيز" 2/ 511 - 512، "البحر المحيط" 2/ 349.]]، أخبرناه أبو الحسن بن أبي عبد الله الفسوي، وأحمد بن محمد الفقيه، وأبو محمد الكراني [[في (أ) و (م) (المكداني).]]، حدثنا عبد الله بن شبيب [[عبد الله بن شبيب أبو سعيد الربعي، إخباري علامة، لكنه واهٍ ذاهب الحديث، كان يقلب الأخبار ويسرقها. ينظر: "ميزان الاعتدال" 3/ 152، "تاريخ بغداد" 9/ 474.]]، حدثنا المنقري، حدثنا الأصمعى، قال: قال أبو عمرو بن العلا: من قرأ: ﴿فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ بالتشديد فهو من طريق التذكير بعد النسيان، تقول لها: هل تذكرين يوم شهدنا في موضع كذا وبحضرتنا فلان أو فلانة، حتى تذكر الشهادة، ومن قرأ: (فتذكر) بالتخفيف، قال: إذا شهدت المرأة ثم جاءت الأخرى فشهدت معها أذكرتها، لأنهما تقومان مقام رجل، ونحو هذا روى أبو عمر عن ثعلب سواء.
وأنكر المفسرون هذا التفسير، وضعّفوه، من حيث إن النساءَ لو بلغن ما بلغن ولم يكن معهن رجل لم تجز شهادتهن حتى يكون معهنَّ رَجُل، فإذا كان الأمر على هذا لم تُذْكِرْها، والحاجة في نفاذ الشهادة إلى الرجل قائمة، ومما يبعد هذا التفسير: أن الضلال في قوله: ﴿تُضِلَّ إِحْدَاهُمَا﴾ فسر بالنسيان، والذي [[في (ي) (فالذي).]] ينبغي أن يعادله ما هو مقابل للنسيان من التذكير، وأيضًا فإن المرأة إذا انضمت إلى المرأة لو صيرتها ذكرًا لكانت شهادة المرأتين بمنزلة شهادة رجل في جميع الأحكام [[ينظر في الرد: "الحجة" 2/ 433، وعنه نقل المؤلف أكثر الكلام، "تفسير الثعلبي" 2/ 1806، "المحرر الوجيز" 1/ 511 - 512، "البحر المحيط" 2/ 349، وعده الزمخشري في "الكشاف" من بدع التفاسير، وقال ابن عطية: وهذا تأويل بعيد غير فصيح، ولا يحسن في مقابلة الضلال إلا الذكر، وذكر أبو حيان في "البحر" أن هذا التأويل ينبو عنه اللفظ من جهة اللغة ومن جهة المعنى، ثم فصل ذلك.]].
وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن هذا في تحمل الشهادة، وكل من [[في (ش) و (كلما).]] دعي لتحمل شهادة وجب عليه ترك الإباء، في قول قتادة [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 126، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 563.]] والربيع [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 127، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 563.]].
قال الشعبي: هذا إذا لم يوجد غيره فيتعين عليه الإجابة، فإن وجد غيره ممن يتحمل فهو مخير [[نفسه.]].
القول الثاني: أن هذا في إقامة الشهادة وأدائها، قال ابن عباس، في رواية عطاء: يريد: إذا استودعته الشهادة ثم احتجت إلى شهادة فلا ينبغي له أن يتخلف عنك حتى يأتي معك إلى الحاكم فيؤديها [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 127، و"ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 563، "الوسيط" 1/ 405.]].
وهو قول مجاهد [[في "تفسيره" 1/ 118، ورواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 110، والطبري في "تفسيره" 3/ 128.]] وعكرمة [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 128، "ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 563، "الوسيط" 1/ 405.]] والسدي [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 128.]] وسعيد بن جبير [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 128، "ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 563.]].
القول الثالث: أن هذا في الأمرين جميعًا التحمل والأداء، إذا كان فارغًا، ولم يكن له عذر، وهذا قول الحسن [[رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 110، وسعيد بن منصور في "مسنده" 3/ 996، وابن أبي شيبة في "المصنف" 7/ 71، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 563.]] واختيار أبي إسحاق. قال: والدليل على أن الشاهد ينبغي له إذا ما دعي ابتداءً أن يجيب قولهُ تعالى ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا﴾ أي: لا تملوا أن تكتبوا ما شهدتم عليه، فقد أمروا بهذا، فهذا يؤكد أن أمر الشهادة فى الابتداء واجب، وأنه لا ينبغي أن تملوا [["معاني القرآن" 1/ 365.]].
والسآمة: المَلاَلَةُ والضَّجَر، يقال: سَئِمْتُ الشيءَ أَسْأَمُهُ سَأَمًا وسَآمةً [[ينظر في سئم: "المفردات" ص 226، "تفسير الثعلبي" 2/ 1809، "اللسان" ==3/ 1907، قال في "اللسان": سئم الشيء وسئم منه وسئمت منه أسام سأَما وسأْمة وسآمة. وقال الراغب: السآمة: الملالة مما يكثر لبثه فعلًا كان أو انفعالًا.]].
يقول: لا يمنعكم [[في (ش) (لا يمنعنكم).]] الضَّجَر والملالةُ أن تكتبوا ما شهدتم عليه من الحقِّ صَغُر أو كَبُر، قلَّ أو كَثُر، و (أن) مع الفعل مصدر في محل النصب بوقوع السآمة عليه [[ينظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 346، "تفسير الثعلبي" 2/ 1810.]].
والهاء في ﴿تَكْتُبُوهُ﴾ تعود على الحق، وكذلك الهاء في الأجل [["تفسيرالثعلبي" 2/ 1810.]].
هذا ما قيل في تفسير هذه الآية، وأظهر من هذا أن يُجْعَلَ قوله: ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ﴾ خطابًا لأولياء الحق، يقول: لا تَمَلُّوا أن تكتبوا حقُوقَكُم التي دفعتموها إلى الناس دقّت أو جلَّت، وتذكروا في الكتاب أَجَلَها ومَحَلَّها، ويؤكد هذا الوجه: أن الآية من ابتدائها خطاب لأرباب الأموال والديون.
والقيراط والحبة لا تدخل في الندب إلى الكتاب؛ لأن هذا مضمن بالعادة وليس في العادة أن يكتبُوا التَّافِه.
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ﴾ أي: الكتاب ﴿أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أي: أعدل [["تفسير الثعلبي" 2/ 1811.]]، وذكرنا الكلام في قسط وأقسط عند قوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا﴾ [النساء: 3] [[ينظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2959، "التبيان" ص 231، قال الراغب في "المفردات" ص 404: والقسط هو أن يأخذ قسط غيره وذلك جور، والإقساط أن يعطي قسط غيره، وذلك إنصاف، ولذلك قيل: قسط الرجل إذا جار، وأقسط إذا عدل.]] وإنما كانت الكتابة أعدل؛ لأن الله أمر به، واتباع أمره أعدل من تركه [["تفسير الثعلبي" 2/ 1811.]].
﴿وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ﴾ لأن الكتاب يذكر الشهود، فتكون شهادتهم [[في (أ) و (م): (الشهادة).]] أقوم من أن لو شهدوا على ظن ومخيلة.
ومعنى ﴿وَأَقْوَمُ﴾ أبلغ في الاستقامة التي هي ضد الاعوجاج، وذلك أن المنتصب القائم يكون ضد المنحني المعوج، ﴿وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾ أي: أقرب إلى أن لا تشكوا في مبلغ الحق والأجل [["تفسير الثعلبي" 2/ 1811.]].
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ﴾ أي: إلا أن تقع [[من قوله: (تديرونها)، ساقط من (ش).]] تجارة حاضرة في هذه الأشياء التي اقْتُصَّت وأمر فيها بالتوثقة بالإشهاد والارتهان، فلا جناح في ترك ذلك فيه؛ لأن ما يخاف في النَّسَاء والتأجيل يؤمن في البيع يدًا بيدٍ [[ينظر "تفسير الثعلبي" 2/ 1811 - 1812.]].
والكونُ هنا بمعنى: الوقوع والحدوث، كما بينا في قوله: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ﴾ [البقرة: 280].
وقال الفراء [[قوله: (وقال الفراء)، سقطت من (ش).]]: وان شئت جعلت ﴿تُدِيرُونَهَا﴾ في موضع نصب، فيكون لـ (كان) مرفوع ومنصوب [["معاني القرآن" للفراء 1/ 185.]].
وعلى الوجه الأول تكون [[من قوله: (في موضع نصب)، ساقط من (أ) و (م).]] في موضع رفع كأنه قيل: إلا أن تقع تجارةٌ حاضرةٌ دائرة بينكم [[ينظر: "تفسير الطبري" 3/ 132 - 133، و"الحجة في القراءات السبع" لابن خالويه ص 103، و"الكشف عن وجوه القراءات السبع" لمكي 1/ 321.]].
وقرأ عاصم ﴿تِجَارَةً حَاضِرَةً﴾ بالنصب [[قرأ عاصم وحده (تجارة) نصبًا، وقرأ الباقون بالرفع. ينظر: "السبعة" ص 194، "الحجة" 2/ 436.]]، قال أبو إسحاق: المعنى: إلا أن تكون المداينةُ تجارةً حاضرةً [["معاني القرآن" 1/ 366.]].
قال أبو علي: لا يجوز أن يكون التداين اسم كان؛ لأن التداين معنى، والتجارة الحاضرة يراد بها العين، وحكم الاسم أن يكون الخبر في المعنى، والتداين حق في ذمة المستدين، للمدين المطالبة به، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون اسم كان؛ لاختلاف التداين والتجارة الحاضرة، ولا يجوز أيضًا [[سقطت من (ش).]] أن يكون اسمها (الحق) الذي في قوله: ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ للمعنى الذي ذكرنا في التداين؛ لأن ذلك الحق دين فإذا لم يجز هذا، لم يخل [[في (م) (يجز).]] اسم كان من أحد شيئين:
أحدهما: أن هذه الأشياء التي اقْتُصَّتْ من الإشهاد والإرتهان قد عُلِمَ من فحواها التبايع، فأضمر لدلالة الحال عليه، كما أضمر لدلالة الحال في ما حكى سيبويه من قولهم: إذا كان غدًا فأتني، وينشد على هذا:
أَعَيْنَيّ هَلّا تَبْكِيَانِ عِفَاقا ... إذا كان طَعنًا بينهم وعِناقا [[ذكره الفراء في "معاني القرآن" 1/ 186 ولم ينسبه، وعفاق: اسم رجل، وقد يكون هذا عفاق بن مري الذي يقول فيه صاحب القاموس: أخذه الأحدب بن عمرو الباهلي في قحط وشواه وأكله، وقوله: إذا كان أي: إذا كان القتال والجلاد.]] أي: إذا كان الأمر.
والثاني: أن يكون أضمر التجارة، كأنه قيل: إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة، ومثله: ما أنشده الفراء:
فِدًى لِبَني ذُهَلِ بنِ شَيْبَانَ نَاقتي ... إذا كان يومًا ذا كَوَاكِبَ أشْهَبَا [[البيت لمقَّاس العائذي، في "الكتاب" 1/ 47، "المقتضب" 4/ 96 "الحجة"، 2/ 439 مع اختلاف في الرواية. وأشهب يعني يوم الحرب، جعله كالليل تبدو فيه الكواكب، ووصفه بالشبهة، وهي البياض، إما لكثرة السلاح الصقيلية فيه، وإما لما ذكره من النجوم، وذهل بن شيبان من بكر بن وائل، وكان مقّاس نازلًا فيهم ينظر: "لسان العرب" 7/ 3959 - 3963 مادة: كون.]]
أي: إذا كان اليوم يومًا [[من "الحجة" 2/ 440 بتصرف، والبيت الأول: أعيني هلا تبكيان، لم يذكره في "الحجة".]].
فأما التِّجَارَةُ فهي: تقليبُ الأموال وتصريفُها لطلبِ النَّمَاء [[من "الحجة" 2/ 441.]]، يقال: تَجَرَ الرجل يَتْجَر تِجَارَةً فهو تاجر [[ينظر في تجر: "تهذيب اللغة" 1/ 429، "المفردات" ص 85، "اللسان" 1/ 420، وضبط فيهما المضارع يتجر، بضم الجيم، قال في "المفردات": وليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذا اللفظ، فأما تجاه فأصله وجاه، تجوب: التاء للمضارعة.]]، قال الشاعر:
قد تَجَرَتْ في سُوقِنَا عَقْربٌ ... لا مرحبًا بالعَقْرَبِ التَّاجِرَة [[البيت للفضل بن عباس في "لسان العرب" 5/ 3039 (مادة: عقرب).]]
والتجارة، اسمُ حَدَثٍ، لأنه اسمٌ للتَّقْليب والتَّصَرُّف، إلا أن المراد به في هذه الآية العين، ويكون المعنى: إلا أن تقع [[في (م) (يقع).]] ذو تجارة، أي: متاع تجارة، أو يراد بالتجارة المُتَّجَرُ فيه، فيكون كقولهم: هذا الدرهم ضرب الأمير، وهذا الثوب نسج اليمن، أي: مضروبه ومنسوجه، وكذلك قوله: ﴿بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ﴾ [المائدة: 94] أي: المصيدة لأن الأيدي والرماح إنما تنالان الأعيان، وبين [[في (ش) (ويبين).]] أن المراد بالمصدر الذي هو تجارة العروض وغيرها مما يتقابض وصفها بالحضور وبالإدارة بيننا. وهذا من أوصاف الأعيان [[من كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 442، وذكر وجهًا ثالثًا وهو: أن يوصف بالمصدر فيراد به العين، كما يقال: عدل ورضا، يراد به: عادل ومرضي.]].
وقوله: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ قد ذكرنا ما في هذا في أول الآية [[من قوله: (وقوله: وأشهدوا)، ساقط من (أ) و (م).]].
وقوله تعالى: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ نهى الله عز وجل الكاتبَ والشاهدَ عن المضارَّة، وهو أن يزيد الكاتب أو ينقص أو يحرف، وأن يشهد الشاهد بما لم يستشهد عليه، أو يمتنع من إقامة الشهادة، وهذا قول طاوس [[رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 111، والطبري في "تفسيره" 3/ 134 - 135.]] والحسن [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 135، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 567.]] وقتادة [[رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 110، والطبري في "تفسيره" 3/ 135، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 567.]] وابن زيد [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 135، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1815.]]، وعلى هذا القول أصله: يُضَارِرَ، والكاتب والشاهد فاعلان، ثم أدغمت الراء في الراء لحقّ التضعيف، وهما ساكنان، الأولى سكنت للإدغام، والثانية للنهي، ثم حركت بالفتح [[ينظر "تفسير الطبري" 3/ 135، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 366، "تفسير الثعلبي" 2/ 1814.]].
وقال ابن مسعود [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 136.]] وعطاء [[المرجع السابق.]] ومجاهد [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 136، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 567.]]: معنى الآية: لا يُدْعَى الكاتب وهو مشغول لا يمكنه ترك شغله إلا بضرر يدخل عليه، وكذلك لا يدعى الشاهد ومجيئه للشهادة
يُضِرُّ به، وعلى هذا القول، أصله: يُضَارَرَ على الفعل المجهول فاعله.
والقول الأول اختيار الزجاج، قال: لقوله: ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ والفاسق أشبه بغير العدل، وبمن حَرَّف الكتابة منه بالذي دعا شاهدًا ليشهد وكاتبًا ليكتب وهو مشغول، وليس يسمى هذا فاسقًا، ولكن يسمَّى من كذب في الشهادة ومن حَرَّفَ في الكتاب فاسقًا [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 366.]]. ومَنْ نَصَرَ القولَ الثاني قال في الفسوق ما قاله ابن عباس، قال: يريد: إثمٌ عليكم وعصيان [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 138، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 568.]].
وإذا أَضَرَّ بالكاتِبِ والشاهِدِ فقد أثم وعصى بترك أمر الله، ومعنى الفسوق: هو الخروج، وهذا خارج [[في (ي) (خروج).]] عن أمر الله إذا ارتكب من الضرار ما نهي عنه، ويؤكد هذا الثاني: قراءة عمر [[عزاها إليه ابن خالويه في "مختصر شواذ القرآن" ص 21، والفراء في "معاني القرآن" 1/ 150، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1816.]] وأبي [[وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1816.]] وابن مسعود [[ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1816، والنحاس في "معاني القرآن" 1/ 324، وابن خالويه في "مختصر شواذ القرآن" ص 24، والقرطبي 3/ 406.]] ومجاهد [[عزاها إليه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1816، وأبو حيان في "البحر" 2/ 353، والسمين في "الدر المصون" 2/ 676.]] ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ بإظهار التضعيف على ما لم يسم فاعله [[ينظر في معنى الآية واختلاف المعنى باختلاف التصريف: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 366، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 347، "تفسير الثعلبي" 2/ 1814، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 145، "البحر المحيط" 2/ 353، وقد ذكر النحاس أن عمر يقرأ بكسر الراء الأولى، وابن مسعود يقرأ بفتح الراء الأولى، وقال السمين في "الدر المصون" 2/ 676: وذكر الداني أيضًا عنهم أنهم قرؤوا الراء الأولى بالفتح، قلت: ولا غروَ في هذا؛ إذ الآية محتملة للوجهين، فسروا وقرؤوا بهذا المعنى تارة وبالآخر أخرى، وقد ذكر النحاس أن القراءتين على التفسير ولا يجوز أن تخالف التلاوة التي في المصحف.]].
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا تَدَایَنتُم بِدَیۡنٍ إِلَىٰۤ أَجَلࣲ مُّسَمࣰّى فَٱكۡتُبُوهُۚ وَلۡیَكۡتُب بَّیۡنَكُمۡ كَاتِبُۢ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَلَا یَأۡبَ كَاتِبٌ أَن یَكۡتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُۚ فَلۡیَكۡتُبۡ وَلۡیُمۡلِلِ ٱلَّذِی عَلَیۡهِ ٱلۡحَقُّ وَلۡیَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا یَبۡخَسۡ مِنۡهُ شَیۡـࣰٔاۚ فَإِن كَانَ ٱلَّذِی عَلَیۡهِ ٱلۡحَقُّ سَفِیهًا أَوۡ ضَعِیفًا أَوۡ لَا یَسۡتَطِیعُ أَن یُمِلَّ هُوَ فَلۡیُمۡلِلۡ وَلِیُّهُۥ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَٱسۡتَشۡهِدُوا۟ شَهِیدَیۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ فَإِن لَّمۡ یَكُونَا رَجُلَیۡنِ فَرَجُلࣱ وَٱمۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَاۤءِ أَن تَضِلَّ إِحۡدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحۡدَىٰهُمَا ٱلۡأُخۡرَىٰۚ وَلَا یَأۡبَ ٱلشُّهَدَاۤءُ إِذَا مَا دُعُوا۟ۚ وَلَا تَسۡـَٔمُوۤا۟ أَن تَكۡتُبُوهُ صَغِیرًا أَوۡ كَبِیرًا إِلَىٰۤ أَجَلِهِۦۚ ذَ ٰلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقۡوَمُ لِلشَّهَـٰدَةِ وَأَدۡنَىٰۤ أَلَّا تَرۡتَابُوۤا۟ إِلَّاۤ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً حَاضِرَةࣰ تُدِیرُونَهَا بَیۡنَكُمۡ فَلَیۡسَ عَلَیۡكُمۡ جُنَاحٌ أَلَّا تَكۡتُبُوهَاۗ وَأَشۡهِدُوۤا۟ إِذَا تَبَایَعۡتُمۡۚ وَلَا یُضَاۤرَّ كَاتِبࣱ وَلَا شَهِیدࣱۚ وَإِن تَفۡعَلُوا۟ فَإِنَّهُۥ فُسُوقُۢ بِكُمۡۗ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۖ وَیُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق