الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾ يريد: الذين يعاملون به، وخص الأكل لأنه معظم الأمر كما قال: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى﴾ [النساء: 10] وكما لا يجوز أكل مال اليتيم لا يجوز إتلافه، لكنه [[في (ي) ولكنه.]] نبه بالأكل على ما سواه [[ينظر: "تفسير الطبري" 3/ 103، "تفسير الثعلبي" 2/ 1705، "تفسير السمعاني" 2/ 452.]]. والربا في اللغة: الزيادة، يقال: رَبَا الشيءُ يَرْبُو رَبْوًا، ومنه قوله: ﴿اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾ [الحج: 5] أي: زادت، وأرْبى الرجل، إذا عامل في الربا، ومنه الحديث: "من أجْبَى فقد أربى" [[رواه الطبراني في "الكبير" 20/ 336 برقم 795، 22/ 48 برقم 117، وفي "المعجم الصغير" 2/ 284 برقم 1176، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 5/ 173 برقم 2708، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده" 1/ 388 برقم 292، والبيهقي في "شعب الإيمان" 2/ 159 برقم 1433، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 75، 9/ 374 وقال: فيه بقية ولكنه مدلس وهو ثقة. قال في "النهاية" 1/ 237: في كتاب: وائل بن حجر ومن أجبا فقد أربى الإجباء: بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه، وقيل: هو أن يغيب إبله عن المصَدِّق من أجبأته إذا واريته. والأصل في هذه اللفظة الهمز، ولكنه هكذا روي غير مهموز، فإما أن يكون تحريفًا من الراوي، أو يكون ترك الهمز للازدواج بأربى. وقيل: أراد بالإجباء العينة، وهو أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى، ثم يشتريها منه بالنقد بأقل من الثمن الذي باعها به.]] أي: عامل بالربا، والإِجْبِاءُ: بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه، هذا معنى الربا في اللغة [[ينظر: في الربا: "تهذيب اللغة" 2/ 1334 - 1335، "المفردات" ص193، "اللسان" 3/ 1572 - 1574.]]. فأما في الشرع: فهو اسم للزيادة على أصل المال من غير بيع [[ينظر: "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 241 - 242، "تفسير القرطبي" 3/ 348.]]. وما يجري فيه الربا مما لا يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلًا لا يمكن ذكره هاهنا، يطول الكلام فيه [[ينظر: "الأم" 3/ 15 - 31، و"اختلاف الفقهاء" للمروزي ص 246، و"المجموع" 9/ 401، و"أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 241 - 242، و"تفسير القرطبي" 3/ 348 وما بعدها.]]. وقوله تعالى: ﴿يَقُومُونَ﴾ يعني: يوم القيامة من قبورهم [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1709.]]. ﴿إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ﴾ والتَّخَبُّطُ: معناه: الضَّرْبُ على غير استواءِ، وخَبَطَ البَعِيرُ الأرضَ بأخفافه، ويقال للرجل الذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه: تَخَبَّطَ خَبْطَ عشْواءٍ، قال زهير: رأيتُ المَنَايا خَبْطَ عَشْوَاءَ من تُصِبْ ... تُمِتْهُ وَمَنْ تخطئ يُعمّر فيهرَمِ [[البيت في "ديوان زهير" ص 29،. "تهذيب اللغة" 11/ 979 "الوسيط" للواحدي 1/ 394. وقوله: بْطَ عشواء، وهي الناقة التي في بصرها ضعف تخبِط إذا مشت لا تتوقى شيئًا. فهو يقول: رأيت المنايا تخبط الخلق خَبْطَ العشواء من الإبل، وهي التي لا تبصر، فهي تخبطُ الكل لا تبقي على أحد فممّن خبطته المنايا من تميته، ومنهم من تُعِلّه فيبرأ، والهرمُ غايته ثم الموت. ينظر "اللسان" 2/ 1093.]] وتخبّطه الشيطان: إذا مسّه بخبْلٍ أو جنونٍ؛ لأنه كالضرب على غير استواءٍ في الإدهاش، ويسمى إصابة الشيطان بالجنون والخبل: خَبْطَةٌ، ويقالُ: به خَبْطة من جنون [[ينظر في خبط: "تهذيب اللغة" 1/ 978 - 979، "معجم مقاييس اللغة" 2/ 241، "المفردات" 148، "اللسان" 2/ 1093 - 1095.]]. والمَسُّ: الجنونُ، يقال: مُسَّ الرجلُ فهو مَمْسُوس، وبه مَسٌّ وأَلْسٌ، أنشد ابن الأنباري: أُعلّلُ نَفْسِي بما لا يكونُ ... كذِي المَسِّ جُنّ ولم يخنق [[جاء في: "البيان والتبيين" 1/ 388 بيتًا شبيهًا بهذا وهو: أعلل نفسي بما لا يكون ... كما يفعل المائق الأحمق.]] وأصله: من المَسِّ باليد، كأن الشيطان يَمَسُّ الإنسانَ فيُجِنُّه، ثم سُمِّىِ الجنونُ مسًّا، كما أن الشيطان يتخبطه ويَطَؤُهُ برجْلِه فيخبّله، فسمي الجنونُ خَبْطَةً، فالتخبط بالرِّجل، والمَسّ باليد [[ينظر في المس: "تفسير غريب القرآن" ص 87 - 88، "تفسير الطبري" 3/ 103،== "تهذيب اللغة" 4/ 3394 - 3395، "المفردات" ص 470، "اللسان" 7/ 4201 - 4202، قال الراغب: المس كاللمس، لكن اللمس قد يقال لطلب الشيء وإن لم يوجد كما قال الشاعر: وألمسه فلا أجده. والمس يقال فيما يكون معه إدراك بحاسة اللمس، واللمس يقال في كل ما ينال الإنسان من أذى:]]. فأما التفسير: فقال قتادة: إن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونًا، وذلك عَلَم لأكلة الربا يعرفهم به أهل الموقف، يُعْلَم أنهم أكلة الربا في الدنيا، يبعثون وبهم خبْلٌ من الشيطان [[رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 110، والطبري في "تفسيره" 3/ 102، وذكره ابن أبى حاتم في "تفسيره" 2/ 544.]]. قال الزجاج: لا يقومون في الآخرة إلا كما يقوم المجنون من حال جنونه [["معاني القرآن" 1/ 358.]]. فعلى هذا معنى الآية: أنهم يقومون مجانين كمن أصابه الشيطان بجنون. وقال ابن قتيبة: يريد: أنه إذا بعث الناس من قبورهم خرجوا مسرعين، لقوله: ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا﴾ [المعارج: 43] إلا أكلةُ الرِّبا، فإنهم يقومون فيسقطون، كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان ويسقط؛ لأنهم أكلوا الرِّبَا في الدنيا فأرباه الله في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم، فهم ينهضون ويسقطون، ويريدون الإسراع فلا يقدرون [[ذكره ابن الجوزي عنه في "زاد المسير" 1/ 330.]]، وهذا المعنى غير الأول؛ لأنه يريد أن أكلة الربا لا يمكنهم الإسراع في المشي، كالذي خَبَّله الشيطان وأصابه [[في (ي) (فأصابه).]] بخبل في أعضائه من عَرَجٍ أو زَمَانة، فهو يقوم ويسقط، وهذا ليس من الجنون في شيء، والأول قول أهل التفسير، ويؤكد هذا الثاني: ما روي في قصة الإسراء: أن النبي ﷺ انطلق به جبريل إلى رجال كثيرٍ، كلُّ رجلٍ منهم بطنُهُ مثلُ البيتِ الضَّخْم، يقومُ أحدُهم فيميل به بطنه فيصرع [[في (م): (فيهرع).]]، قال: قلت: "يا جبريل من هؤلاء؟ " قال: الذين يأكلون الربا، لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المس [[يريد حديث أبي سعيد الخدري رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 25/ 365، ومن طريقه رواه الطبري في "تفسيره" 15/ 11 والبيهقي في "دلائل النبوة" 2/ 390، والأصبهاني في "الترغيب والترهيب" 2/ 185، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1711، وفي إسناده أبو هارون العبدي متروك، وفي الباب: حديث أبي هريرة، رواه ابن ماجه (2273) كتاب: التجارات، باب: التغليظ في الربا، والإمام أحمد 2/ 353، وضعَّف إسناده ابن كثير في "تفسيره" 1/ 350، وقال البوصيري في "مصباح الزجاج" 2/ 23: هذا إسناد ضعيف لضعف علي بن زيد.]]. وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ أي: ذلك الذي نزل بهم بقولهم هذا، واستحلالهم إياه، وذلك لأن المشركين قالوا: الزيادة على رأس المال بعد محل الدين كالزيادة بالربح في أول البيع. وكان أحدهم إذا حلَّ له مال على إنسان قال لغريمه: زدني في المال حتى أزيدك في الأجل. فكذبهم الله سبحانه فقال: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [[ينظر: "تفسير مقاتل" 1/ 145، "تفسير الطبري" 3/ 103، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 545، "تفسير الثعلبي" 2/ 1714.]]. قال أصحابنا: هذه الآية مجملة، والمجمل: ما لا يعرف المراد من ظاهره إلا بقرينة تقترن به، كقوله: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الأنعام: 141] أوجبَ الإِيتَاءَ، وليس يعرف من هذه الآية أن الحق الذي يجب إيتاؤه كم هو، وإنما يعرف ذلك بدليل آخر، كذلك قوله: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾ اقتضى أن يكون كلّ بيع حلالًا. وقوله تعالى: ﴿وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ اقتضى أن يكون كلُّ بيع حَرامًا، لأن الربا هو الزيادة، ولا بيع إلا ويقصد به الزيادة، فأول الآية إباح جميع البيوع، وآخرها حرم الجميع، فلا يعرف الحلال من الحرام بهذه الآية، ولكن يعرف ذلك ببيان رسول الله ﷺ. وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ أي وَعْظٌ، ولذلك جاز تذكير (جاءه) [[ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 358، "تفسير الثعلبي" 2/ 1715.]]. قال السدي: الموعظة: القرآن [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 104، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 545.]] ﴿فَانْتَهَى﴾ عن أكل الربا ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ قال الزجاج: أي: قد صُفح له عما سلف [["معاني القرآن" 1/ 358.]]، أي: مضى من ذنبه قبل النهي [["تفسير الثعلبي" 2/ 1715.]]، وقال السُدّي: فله ما أكل من الربا [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 104، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 546.]]، أي: ليس عليه رد ما سلف، فأما ما لم يُقْضَ بعدُ فلا يجوز له أخذه، وهذا له رأس ماله فقط، وهذا أجود من الأول؛ لأن قبل النهي الربا لم يكن حرامًا فلم يكن [[في (ش): (فلا يكون).]] أخذه ذنبًا [[سقطت من (أ) و (م).]]. ومعنى سلف، أي: تقدم ومضى، والسُّلُوف: التقدُّم، وكل شيء قدمته أمامك فهو سَلَفُكَ، ومنه: الأمم السَّالِفَة، والسَّالِفَةُ: العنق؛ لتقَدُّمِه في جهة العلوّ، والسُّلفة ما تَقَدَّم قبل الطعام، وسُلاَفَةُ الخَمْرِ: صَفْوُها، لأنه أول ما يخرج من عصيرها [[ينظر في سلف: "تهذيب اللغة" 2/ 1735، " المفردات" ص 244، "اللسان" 4/ 2068، وذكر الأزهري أن السلف يطلق في المعاملات على معنيين: القرض== والسلم، وله معنيان آخران: أحدهما: ما قدمه العبد من عمل صالح، أو ولد فرط تقدمه فهو سلف، والثاني: من تقدمك من آبائك وذوي قرابتك الذين هم فوقك في السن والفضل.]]. وقوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ قال أبو إسحاق: أي: الله وليه [["معاني القرآن" 1/ 358.]]. وقيل: وأمره إلى الله بعد النهي، إن شاء عصمه حتى ثبت على الانتهاء، وإن شاء خذله حتى يعود [["تفسير الطبري" 3/ 104، "معاني القرآن" للنحاس 1/ 307، وقال. هذا قول حسن بين، "تفسير الثعلبي" 2/ 1715.]] ﴿وَمَنْ عَادَ﴾ أي: إلى استحلال الربا [["تفسير الثعلبي" 2/ 1716.]] ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ قال أبو إسحاق: وهؤلاء قالوا: إنما البيع مثل الربا، ومن اعتقد هذا فهو كافر [["معاني القرآن" 1/ 359.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب