الباحث القرآني
قوله تعالى: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ﴾ الآية. قد ذكرنا أن هذه الآية معطوفة على ما قبلها في المعنى، كأنه قيل: أرأيت [[ساقط من (م).]] كالذي حاج، أو كالذي مر [[من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 342.]]، والعرب تحمل على المعاني كثيرًا [[ينظر: "البحر المحيط" 2/ 290، وقال: والعطف على المعنى نصوا على أنه لا ينقاس.]]، قال الفرزدق: فكيْفَ بلَيْلَةٍ لا نَجْمٍ فيها ... ولا قَمَرٍ لسَاريهَا مُنِيرِ [[سبق تخريجه.]]
أراد: فكيف بليلة ليست بليلة نجم ولا قمر، وقال آخر:
وَجَدْنَا الصَّالِحِينَ لَهُم جَزَاءً ... وجَنَّاتٍ وعَيْنًا سَلْسَبِيلًا [[البيت لعبد العزيز بن زرارة الكلابي، كما في "أدب الكاتب" 1/ 288، وهو من شواهد "المقتضب" 3/ 284، ومعنى سلسبيلًا: أي سهلًا لذيذًا سلسًا، ينظر: "المفردات" ص 237.]]
فنصب الجنات بالنسق على الجزاء وجنات وعينا [[البيت وما بعده ساقط من (أ) و (م).]]، وقال آخر:
مُعَاوِيَ إنَّنا بَشَرٌ فاسْجَحْ ... فلَسْنَا بالجِبَالِ ولا الحَدِيدَا [[البيت لعقبة أو لعقيبة الأسدي في: "الإنصاف" 384، "لسان العرب" 6/ 3496 (مادة: غمز).]]
أراد: فلسنا الجبال والحديد [[في (ي): (ولا الحديدا)، وفي (ش): (ولا الحديد).]]، فحمل على [[ساقط من (ي).]] المعنى وترك اللفظ. وذهب أبو الحسن الأخفش إلى أن الكاف زائدة، وعطف الذي على الذي من قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي﴾ [["معاني القرآن" للأخفش 1/ 182، ورده الطبري في "تفسيره" 3/ 28، وذكر أبو حيان في "البحر" 2/ 290: أن الكاف قد تكون اسمًا على مذهب الأخفش، فتكون في موضع جر معطوفة على (الذي)، والتقدير: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم، أو إلى مثل الذي مر على قرية، ومجيء الكاف اسمًا فاعلة ومبتدأة ومجرورة بحرف الجر ثابت في "لسان العرب"، وتأويلها بعيد، فالأولى هذا الوجه، وإنما عرض لهم الإشكال من حيث اعتقاد حرفية الكاف حملًا على مشهور مذهب البصريين.]] والقول الأول اختيار أبي علي، وهو وجه حسن [[ينظر في إعراب الآية: "معاني القرآن" للفراء 1/ 170، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 138، "التبيان" 154، "البحر المحيط" 1/ 290.]].
واختلفوا في الذي مَرَّ. فقال قتادة [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 28، " ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 500.]] والربيع [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 28، وذكره الثعلبي 2/ 1494، والقرطبي 3/ 289.]] وعكرمة [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 28، وذكره الثعلبي 2/ 1494، والبغوي في "تفسيره" 1/ 317.]] والضحاك [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 28، وذكره الثعلبي 2/ 1495، والبغوي في "تفسيره" 1/ 317.]] والسدي [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 28، "ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 500.]]: هو عزير [[وهذا الذي صححه أبو المظفر السمعاني في "تفسيره" 2/ 409، وقال ابن كثير 1/ 337: وهذا القول هو المشهور.]].
وقال وهب [[رواه عنه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 99، والطبري في "تفسيره" 3/ 29، "ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 502.]] وعطاء عن ابن عباس [[ذكره البغوي في "تفسيره" 1/ 317، وابن الجوزي في "تفسيره" 1/ 255.]]: هو أرميا؟ وهو الخضر. وقال مجاهد: هو رجل كافر [[ليست في (ي).]] شك في البعث [[ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1496، وروى الطبري في "تفسيره" 3/ 40، وذكر ابن أبي حاتم 2/ 500 عن مجاهد: أنه رجل من بني إسرائيل.]].
وقوله تعالى: ﴿عَلَى قَرْيَةٍ﴾ قال وهب [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 30، وذكره الثعلبي 2/ 1496.]] وعكرمة [[انظر المصدرين السابقين.]] وقتادة [[انظر المصدرين السابقين.]] والربيع [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 30، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 308 - 309.]]: إيليا، وهي بيت المقدس.
وقال [[في (أ) (قال).]] ابن زيد: هي القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 30، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 309.]].
وقوله تعالى: ﴿وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ قال أبو عبيد عن أبي زيد والكسائي: خَوَت الدار [[في (ي) (الديار).]] تَخْوِي خُوُيًّا، إذا خلت، قال الكسائي: ويجوز: خويت الدار [[نقله عنهما في "تهذيب اللغة" 1/ 1123 (مادة: خوى).]]. الأصمعي: خَوَى البيتُ فهو يَخْوِي خَوَاءً، ممدود، إذا ما خلا من أهله [[نقله عنه في "تهذيب اللغة" 1/ 1123 (مادة: خوى)، وضبطت يخوي في نسخة (أ) بكسر الواو، وفي التهذيب بفتح الواو.]].
والخَوَى: خُلُوّ البطن من الطعام، وأصل معنى هذا الحرف: الخُلوّ. ومن هذا ما ورد في الحديث أن النبي ﷺ كان إذا سجد خَوَّى [[رواه مسلم (497) كتاب: الصلاة، باب: ما يجمع صفة الصلاة.]] أي: أخلى ما بين عَضُدَيْهِ وجَنْبَيْهِ وبَطْنِهِ وفَخِذَيْه، وخَوَاءُ الفرس: ما بين قوائمه، وخَوَاءُ الأرض: بَرَاحُها [[من قوله: (وخواء). ساقط من (ي).]] قال أبو النَّجْم يصف فرسًا طويلًا:
يَبْدُو خَوَاءُ الأرْضِ من خَوَائِه [[ورد هذا الشطر منسوبا لأبي النجم في "تهذيب اللغة" 1/ 1122، "اللسان" 3/ 1296 (مادة: خوى).]] ثم يقال للبيت إذا سَقَطَ وتَهَدَّم: خوي؛ لأنه بِتَهَدُّمه يَخْلُو من أهله، وكذلك خَوَتِ النجوم وأَخْوَت: إذا سَقَطت ولم تمطر؛ لأنها خَلَتْ من المطر [[ينظر في خوى: "تهذيب اللغة" 1/ 1122، "تفسير الثعلبي" 2/ 1497، "المفردات" ص 167، "اللسان" 3/ 1296 مادة (خوا).]].
والعَرْشُ: سَقْفُ البيت، والعُرُوش: الأَبْنِيَة، والسُّقُوفُ من الخَشَب، يقال: عَرَشَ الرجلُ يَعْرِشُ ويَعْرُشُ، إذا بنى بناءً من خَشَبٍ [[ينظر في عرش: "تهذيب اللغة" 3/ 2391، "تفسير الثعلبي" 2/ 1497، "المفردات" 332، "لسان العرب" 5/ 2881.]].
وقوله تعالى: ﴿وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ أي: متهدِّمة ساقطة خراب، قاله ابن عباس [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 31، وذكره في "النكت والعيون" 1/ 331.]] والربيع [[انظر المصدرين السابقين.]] والضحاك [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 31، "ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 500، وذكره في "النكت والعيون" 1/ 331.]]. ومعنى: ﴿عَلَى عُرُوشِهَا﴾ أي: حيطانها كانت قائمة، وقد تهدمت سقوفها ثم انقعرت [[في (ش) (انقرعت).]] الحيطان من قواعدها، فتساقطت على السقوف المتهدمة [[ينظر: "تفسير غريب القرآن" ص 85، "تفسير الطبري" 3/ 31، "تفسير الثعلبي" 2/ 1498.]]. ومعنى الخاوية: بمعنى المنقعرة وهي المنقلعة من أصولها، يدلك على ذلك قوله تعالى: ﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ [الحاقة: 7]. وقوله تعالى في موضع آخر: ﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ﴾ [القمر: 20] وهذه الصِّفَةُ في خراب المنازل من أبلغ ما يوصف به.
قال الأزهري: وإنما قيل للمنقعر: خاو؛ لأن الحائط إذا انقلع خَوِي مكانه، أي: خلا منه، فيقال: خَوِي البيت، أي: خلا عن الجدار، ثم يقال: خَوِي الحائط: إذا تهدّم [[ينظر: "تهذيب اللغة" 1/ 1122 (مادة: خوى).]].
وقال بعضهم ﴿وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ أي: خالية عن عروشها لتهدمها، جعل (على) بمعنى عن كقوله: ﴿الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2)﴾ [المطففين: 2] أي: عنهم.
وقوله تعالى: ﴿أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ قال وهب: إن بُخْتَنَصّر دخل هو وجنوده بيت المقدس، وقتل بنى إسرائيل حتى أفناهم وسبى ذرارِيَهم، وخرب بيت المقدس، فلما رجع إلى بابل ومعه سبايا بني إسرائيل أقبل أَرْمِيا على حمار له، معه عصير عنب في زُكرة [[في (ش) (ركوة). والزُّكرة: وعاءٌ أو زِقٌ من أدم يجعل فيه شراب أو خلّ.]] وسلة تين، حتى غشي إيليا، فلما وقف عليها ورأى خرابها قال: ﴿أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [[حديث وهب ستأتي تتمته بعد قليل، فينظر تخريجه هناك.]].
ومن قال: المار عزير، قال: هذا من قوله [[ينظر "تفسير الطبري" 35/ 35، "تفسير ابن أبي حاتم" في تفسيره 2/ 501، "بحر العلوم" 1/ 226، "تفسير الثعلبي" 2/ 1505.]].
وفي قول مجاهد قوله: ﴿أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ يكون إنكارًا للبعث؛ لأنه جَعَل المارَّ كافرًا، وعلى قول غيره: لا يكون إنكارًا للبعث، ولكن تأويله: أنه أحب أن يزداد بصيرة في إيمانه، فقال: ليت شِعْرِي كيف يحيي الله الأموات [[في (ي): (الموتى).]]؟ كما قال إبراهيم: ﴿أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى﴾ [البقرة: 260] والمراد بإحياء القرية: عمارتها [[ينظر: "تفسير الطبري" 3/ 35، "تفسير الثعلبي" 2/ 1505.]].
وقال آخرون: إنه لما رأى خلاءها [[كتبت في (ي) و (ش) (خلاها)، وفي (أ) و (م): (حلآها).]] من السكان وتهدم أبنيتها استبعد أن يعمرها الله، لا منكرًا للقدرة، ولكن متعجبًا منها لو كانت [[ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 342، "تفسير الثعلبي" 1/ 1505، "التبيان" ص 155، "البحر المحيط" 2/ 291.]].
ومعنى أنى: من أين، كقوله: ﴿أَنَّى لَكِ هَذَا﴾ [آل عمران: 37] يعني: من أين يفعل الله ذلك، على معنى: أنه لا يفعله. فأحب الله تعالى أن يُرِيَه آيةً في نفسه، وفي إحياء القرية، فأماته الله مائةَ عَامٍ. قال وهبٌ: ربط أرميا حمارَه بحبل جديد، فألقى الله عليه النوم، فلما نام نزع الله منه الروحَ مائة عام، وأماتَ حماره، وعصيرُه وتِيْنُه عنده، وأعمى الله سبحانه عنه العيون، فلم يَرَهُ أحدٌ، وذلك ضُحَى، ومنع اللهُ السباعَ والطيرَ لحمَه، فلما مضى من موته سبعون سنة أرسل الله عز وجل مَلَكًا إلى ملك [[ساقط من (ي).]] من ملوك فارس عظيم، يقال له: نوشك، فقال: إن الله عز وجل يأمرك أن تنفر بقومك فَتَعْمُر بيتَ المقدس وإيليا وأرضَها حتى تعودَ أَعْمَر ما كان، فانتدب الملك لعمارتها، وأهلك الله بُخْتَنَصّر، ورَدّ من بقي من بني إسرائيل إلى بيت المقدس، فعمروها ثلاثين سنة، وكثروا حتى كانوا على أحسن ما كانوا عليه، فلما مضت المائة أحيا الله منه عينيه، وسائرُ جسدِه ميت، ثم أحيا جسدَه وهو ينْظُر، ثم نظر إلى حماره فإذا عظامه بيض متفرقة [[في (ي): (متفرقة بيض).]] تلوح، فسمع صوتًا من السماء: أيتها العظام البالية، إن الله يأمرك أن تكتسي لحمًا وجلدًا، فكان كذلك، ثم قام بإذن الله تعالى ونهق، فذلك قوله: ﴿فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ [[حديث منبه هذا، رواه الطبري في "تفسيره" في "تفسيره" 3/ 32، وفي "تاريخ الرسل والملوك" 1/ 548، وذكره الثعلبي بطوله 2/ 1498 - 1508، وذكره ابن كثير في "قصص الأنبياء" 2/ 320.]].
وقوله تعالى: ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتَ﴾ فيه وجهان من القراءة: الإدغام، والإظهار [[قرأ ابن كثير ونافع وعاصم في كل القرآن بإظهار الثاء هنا، وفي مثله، كقوله: "لبثتم" [الكهف 19] [المؤمنون 112] وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي بالإدغام. ينظر "السبعة" ص 188، "الحجة" 2/ 367.]].
فمن أظهر فلتباين المخرجين، وذلك أن الظاءَ والذالَ والثاءَ من حَيِّز، والطاءَ والدالَ والتاءَ من حَيِّز، فلما تباين المخرجان واختلف الحَيِّزَان لم يُدْغِم.
ومن أدغم: أجراهما مجرى المثلين، من حيث اتفق الحرفان في أنهما من طرف اللسان وأصول الثنايا، واتفقا في الهمس، ورأى الذي بينهما من الاختلاف في المخرج خلافًا يسيرًا. فأدغم، أَجْراهما مجرى المِثْلين، ويقوي ذلك اتفاقُهم في الإدغام في سِتٍّ، ألا ترى أن الدالَ أُلْزِمَتْ الإدغامَ في مقَارِبِهِ وإن اخْتَلَفَا في الجَهْرِ والهَمْس [[من "الحجة" 2/ 367 - 368 بتصرف. والجهر في اصطلاح المجودين: قوة التصويت بالحرف لقوة الاعتماد عليه في المخرج حتى منع جريان النفس معه، والهمس هو: ضعيف التصويت بالحرف لضعف الاعتماد عليه في المخرج حتى النفس معه، وحروفه مجموعة في قولك (فحثه شخص سكت) والباقي حروف الجهر. ينظر "هداية القاري" 1/ 79.]].
(وكم) ههنا: استفهام عن مبلغ العدد الذي لبث، ومعناه: كم أقمت ومكثت هاهنا؟ [["تفسير الثعلبي" 2/ 1508.]].
قال: ﴿لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾، وذلك أن الله عز وجل أماته ضحى في أول النهار؟ وأحياه بعد مائة عام في آخر النهار قبل غيبوبة الشمس، فقال: ﴿لَبِثْتُ يَوْمًا﴾ وهو يرى أن الشمس قد غربت، ثم التفت فرأى بقيةً من الشمس، فقال: أو بعض يوم، جاء [[ليست في (ي).]] بمعنى: بل بعض يوم؛ لأنه رجعَ عن قوله: ﴿لَبِثْتُ يَوْمًا﴾ [["تفسير الثعلبي" 2/ 1509، وينظر: "تفسير الطبري" 3/ 35، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 343.]].
﴿قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ﴾. العام [[في (ي) (والعام).]] -وجمعه أعوام-: حولٌ يأتي على شتوة وصيفة، قيل: إن أصله من العوم، الذي هو السِّباحة؛ لأن فيه سَبْحًا طويلًا لما يمكن من التصرف فيه [[ينظر في العام: "تهذيب اللغة" 3/ 2290، "المفردات" 356، وقال: العام كالسنة، لكن كثيراً ما تستعمل السنة في الحول الذي يكون فيه الشدة أو الجدب، ولهذا يعمر عن الجدب بالسنة، والعام بما فيه الرخاء والخِصب، قال: "عام فيه يغاث الناس وفيه يحصرون" [يوسف: 49] ثم قال: وقيل سمي السنة عاما لعوم الشمس في جميع بروجها.]].
﴿فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ﴾ يعني: التين ﴿وَشَرَابِكَ﴾ يعني: العصير [["تفسير الثعلبي" 2/ 1509.]].
﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء: لم يتغير ولم ينتن بعد مائة سنة [[رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 503 من طريق عكرمة، وذكره في "زاد المسير" 1/ 311.]].
وقال أبو عبيدة: لم يأت عليها السنون فيتغير، يريد: أن مر السنين عليه لم يغيره.
وفيه قراءتان: إحداهما: إثبات الهاء في الوصل، والأخرى: حذفها، ولا اختلاف في إثباتها في الوقف [[قال ابن مجاهد: واختلفوا في إثبات الهاء في الوصل من قوله ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ و ﴿اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90]، و ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾ [الحاقة:28 - 29] و ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ﴾ [القارعة: 10] وإسكانها في الوصل، ولم يختلفوا في إثباتها في الوقف. فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر هذه الحروف كلها بإثبات الهاء في الوصل، وكان حمزة يحذفهن في الوصل، وكان الكسائي يحذف الهاء في الوصل من قوله (لم يتسنه) و (اقتده) ويثبت الهاء في الوصل والوقف في الباقي، وكلهم يقف على الهاء، ولم يختلفوا في ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ﴾ [الحاقة: 25] أنهما بالهاء في الوصل والوقف. "السبعة" ص 188 - 189.]]. وأصل هذا الحرف، من السنه، والسَّنه مترددة [[في (ي): (مرددة).]] بين أصلين: أحدهما: سَنَوَة، والآخر: سَنَهَة [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1510، "الحجة" 2/ 374.]]، فالذي يدل على أن أصلها سنوة، قولهم في الاشتقاق منها: أَسْنَتَ القومُ، إذا أصابتهم السَّنَةُ، وينشد قوله:
ورِجَالَ مَكَّةَ مُسْنِتُون عِجَافُ [[شطره الأول:
عمرو العلا هشم الثريد لقومه.
البيت لابن الزبعرى، كما قال ابن بري. ذكره: في "تاريخ الطبري" في "تفسيره" 1/ 504، "صبح الأعشى" 1/ 412، "المنتظم" 2/ 210، "الاشتقاق" ص 13 وفيه نسبته إلى مطرود بن كعب الخزاعي.]] وقولهم في جمعها: سَنَوات، وفي الفعل منها: سَانَيْتُ الرجل مُسَانَاةً، إذا عامَلْتَه سَنَةً سَنَةً، قال لبيد:
وسَانَيْتُ مِن ذِي بَهْجَةٍ وَرَقْيتُه ... عليه السُّموط عابِسٍ مُتَعصِّب [[البيت في "لسان العرب" 4/ 2130 (سنا) وفيه: عليه السموط عائصٍ متعصب، وأنشد الجوهري هذا البيت: عابس متعصب.]]
يقال: سَانَيْتُ الرجلَ أي: رَاضَيْتُهُ وأَحْسَنْتُ مُعَاشَرَتَه، ومعناه: عَامَلْتُه مُعَاملةَ من كأنه يريد صحبةَ السنين؛ لأن طولَ الصحبة بحسن [[في (ش): (تحسن)، وفي (م): (يحسن).]] العشرة، وقولهم في التصغير: سُنَيه، فمن حذف الهاء أخذه من التَّسَنِّي، بمعنى التغير من السنه، على أن أصلها سنوة، فيكون المعنى: فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتغير لما أتى عليه من طول الأيام، ألا ترى أن تطاول الأيام على العصير يُغَيِّرُهُ خَمْرًا أو خَلّا [[ينظر: "الإغفال" لأبي علي ص 543، "الحجة" 2/ 474 - 475، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 443، "تفسير الثعلبي" 2/ 1510.]].
وعند الفراء: يجوز أن تكون أصل سنة: سننه [[في (أ) كأنها (سنينه).]]، قال: لأنهم قد قالوا في تصغيرها: سُنَيْنَة، وإن كان ذلك قليلًا، فعلى هذا يجوز أن يكون: لم يَتَسَنَّ، لم يَتَسَنَّنْ، فَبُدِّلَتِ النونُ ياءً لما كثرت النونات، كما قالوا: تَظَنَّيْت [[ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 172، "تهذيب اللغة" 2/ 1781 (مادة: سنن) "تفسير الثعلبي" 2/ 1511. وتظنيت من ظننت.]]، وكقول العجاج:
تَقَضِّيَ البَازِي إذا البَازِي كَسَرْ [[هذه قطعة من مشطور الرجز، للعجاج، وقبله: == داني جناحيه من الطور فمر
"ديوانه" ص 17، "تفسير الطبري" 1/ 324، "الإغفال" 541، "المحتسب" 1/ 157، "سمط اللآلي" 2/ 710، "شرح ابن يعيش" 10/ 25، "اللسان" (قضض، ضبر) وتقضي: بمعنى: انقض وتقضض على التحويل، وكسر الطائر يكسر كسرًا وكسورًا، إذا ضم جناحيه حتى ينقض.]] ووجه آخر لمن حذف الهاء ذكره الفراء [["معاني القرآن" للفراء 1/ 172 - 173.]] وأبو عمرو الشيباني [[ينظر. "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 85، "معاني القرآن" للنحاس 1/ 280.]] [[سبق ترجمته.]] وهو: أن يكون مأخوذًا من قوله تعالى: ﴿مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ [الحجر: 26] يريد: متغير، فيكون قد بُدِّلَتْ نُونُه ياءً على ما ذكرنا [[ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 172، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 343، "تهذيب اللغة" 1/ 912 مادة "حمأ"، "تفسير الثعلبي" 2/ 1510.]].
واعترض الزجاج على هذا، وقال: هذا ليس من ذاك [[في (ش): (ذلك.)]]؛ لأن مسنون إنما هو مصبوب على سُنَّةِ الطريق [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 344.]].
قال أبو علي الفارسي: قد حكي عن أبي عمرو الشيباني أنه قال [[سقطت من (ي).]]: لم يتسن: لم يتغير من قوله: ﴿مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ [الحجر: 26] وأبدل من النون ياءً فإن كان هذا ثابتًا [[كتبت في النسخ (ثبتًا).]] عن أبي عمرو وقاله على [[في (ي): (عن).]] جهة الاستنباط من قوله: ﴿مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ فهو خلاف ما فسره أبو عبيدة، لأنه يقول: المسنون: المصبوب [["مجاز القرآن" 1/ 351.]]، وإن قال ذلك [[في (أ): (ذاك).]] من حيث رواه وسمعه، فذاك على أنه يجوز أن يكون قوله: (لم يتسن) ﴿مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ بمعنى مصبوب، فيكون (لم يتسن) بمعنى: لم يَتَصَبَّبْ، أي: أن الشراب على حاله وكما تركته لم يَتَصَبَّبْ، وقد أتى عليه مائة عام، والسَّنُّ في اللغة: هو الصَّبُّ وإن لم يكن على سُنَّةِ الطَّريق، قال:
تُضَمَّرُ بالأصائلِ كلَّ يَوْمٍ ... تُسَنُّ عَلَى سَنَابِكِها قُرُون [[البيت من الوافر، وهو لزهير بن أبي سلمى، في "ديوانه" ص 187، "لسان العرب" 4/ 2125 مادة: (سنن). (وقرن) 6/ 3609، "تهذيب اللغة" 2/ 1780 (سنن) وروايته:
نعوِدها الطِّراد فكلَّ يومٍ ... يُسَنُّ على سنابِكها القُرونُ]]
أي: تُصَب عليها دُفَعٌ من العرق [[ما تقدم من كلام أبي علي في "الإغفال" ص 545 بتصرف، وينظر: "الحجة" 2/ 374، "تهذيب اللغة" 2/ 1780، وقد وردت (رفع العرق) هكذا في "تهذيب اللغة"، وفي "الإغفال": يعني وقع العرق الذي يتصبب عليها في الحضر.]].
فعلى ما ذكرنا من هذه الأوجه الهاء تكون للوقف، فينبغي أن تُلْحَقَ في الوقف، وتسقط في الدَّرْج. وأما من أثبت الهاء في الوصل فإنه يجعل اللام في السنة الهاء [[ينظر: "الحجة" 2/ 374 - 376.]]، فيقول: إنها في الأصل سَنَهَة، وتصغيرها سُنَيْهَة، ويحتج بقولهم: سَانَهَتِ النخلةُ، بمعنى: عَاوَمَتْ، وآجَرْتُ الدارَ مُسَانهة، وأنشد الفراء: ليْسَتْ بِسَنْهَاءَ ولا رُجْبِيَّةٍ ... ولكن عَرَايَا في السِّنين الجَوَائِحِ [[البيت لسويد بن الصامت الأنصاري، ورد منسوبًا إليه في "معاني القرآن" للفراء 1/ 173، "تفسير الثعلبي" 2/ 1512، السجستاني 88، 93، "تهذيب اللغة" 2/ 1782 (سه) وروايتها: وليست. وفي "اللسان" 3/ 1584 مادة: رجب، 3/ 1584 مادة: قرح، 2/ 719 مادة: جوح، 4/ 2128 مادة: سنه، وأورده أبو عبيد بن سلام في "غريب الحديث" 1/ 231، 4/ 154، وابن فارس في "معجم المقاييس" 4/ 299، ونسباه لشاعر الأنصار دون تصريح. والشاعر يصف نخله بالجودة، وأنها ليس فيها سنهاء، وهي التي تحمل عامًا وتحيل عامًا، وقيل: القديمة، وقيل: التي أصابتها السِّنة، أي: أخَّر بها الجدب، والرُّجْبِيّة: التي يبنى تحتها لضعفها أو لطولها وكثرة حملها، والعرايا: جمع عرية التي يوهب ثمرها، والجوائح: السنون الشداد.]]
ويكون التَّسَنُّهُ بمعنى التغير، فعلى هذا من وقف بالهاء وقف على لام الفعل، وإذا وصل بالهاء كان بمنزلة: لم يَتَّقهِ زيد، ولم يجبهُ عمرو [[ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 172، "تفسير الثعلبي" 2/ 1511، "تهذيب اللغة" 2/ 1781 (مادة: سنن).]].
قال الأزهري: وأحسن الأقاويل في السنة: أن أصلها سَنَهَة، نَقَصُوا الهاء منها كما نقصوها من الشَّفَة، ولأن الهاء ضاهت حروف اللين التي تنقص. والوجه: أن يُقْرَأ بالهاء في الوقف والإِدراج [[من "تهذيب اللغة" 2/ 1781 - 1782 (سنه) بمعناه، ولفظه. وأجود ما قيل في تصغير السنة: سُنيهة، على أن الأصل سنْهَة، كما قالوا: الشفة، أصلها: شفهة، فحذفت الهاء منهما في الوصل ونقصوا الهاء من السنة والشفة؛ لأن الهاء مضاهية حروف اللين التي تنقص في الأسماء الناقصة، مثل زنة وثبة وعِزة وعِضة، وما شاكلها، والوجه في القراءة (لم يتسنه) بإثبات الهاء في الإدراج والوقف، وهو اختيار أبي عمرو. والله أعلم.]]، وهو اختيار أكثر القراء.
قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: إنه نظر إلى التين فإذا هو كما اجتناه، ونظر إلى العصير فإذا هو كهيئته لم يتغير [[ذكره في "الوسيط" 1/ 373.]]. فإن قيل: ذكر شيئين وأخبر عن أحدهما أنه لم يتغير؟ قيل: التَّغَيُّرُ راجعٌ إلى أقرب اللفظين، وهو الشراب، واكتفى بالخبر عن أحدهما عن الخبر عن الثاني؛ لأنه في معنى الثاني، كما قال الشاعر:
عِقَابٌ عَقَنْبَاة [[في (أ) و (م) و (ي): (عقبناه)، وما أتبت موافق لما في "تفسير الثعلبي" 2/ 1513، "لسان العرب" 7/ 4095 (مادة: لوح).]] كأنَّ وَظِيفَها ... وخُرطُومَها الأعْلَى بنانٌ مُلوّح [[البيت من الطويل، وهو لجران العود في "ديوانه" ص 4: "لسان العرب" 7/ 4095 مادة: (لوح)، وللطرماح في ملحق "ديوانه" ص 565، "لسان العرب" 5/ 3052 مادة: (عقنب). وقوله (عقاب عقبناه) على سبيل المبالغة: حديدة المخالب السريعة الخطبة، وظيفتها: عظم ساقها، والخرطوم: منقار الطائر.]]
ذكر الوظيف والخرطوم، وأخبر عن أحدهما، ويدل على صحة هذا التأويل: قراءة ابن مسعود [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1513، "تفسير القرطبي" 3/ "البحر المحيط" 2/ 292.]] فانظر إلى طعامك، وهذا شرابك لم يتسن [[من "تفسير الثعلبي" 2/ 1512.]].
وقوله تعالى: ﴿وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ﴾ وذلك أنه لما أحياه الله وقال له: ﴿بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ﴾ وأراه طعامه غير متغير، وكذلك شرابه، وأراه علامة مكثه مائة سنة ببلى عظام حماره، فقال: ﴿وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ﴾ [[من قوله: (وذلك أنه لما). ساقط من (ي).]] فرأى حماره ميتًا عظامُهُ بيضٌ تلوح، فأذن الله عز وجل له في الحياة، فاجتمعت أعضاؤه وانتظمت، حتى عاد إلى حالة الحياة، وجاءه فوقف عند رأسه ينهق.
وقوله تعالى: ﴿وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ﴾ قال بعضهم: هذه الواو مقحمة زائدة، والجالب للام في نجعلك (لبثت)، كأنه قال: بل لبثت مائة عام لنجعلك آية للناس [[من قوله: (كأنه قال). سقطت من (أ) و (م).]] ﴿فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ﴾ على هذا تقدير الآية ونظمها، وإقحام الواو جائز عند بعض الكوفيين، أجازوا ذلك في مواضع من التنزيل، سنذكرها إن شاء الله.
وقال الفراء: دخلت الواو لنية فعل بعدها مضمر [["معاني القرآن" للفراء 1/ 173.]]، لأنه لو قال: لنجعلك، كان شرطًا للفعل الذي قبله، كأنه قيل: ولنجعلك آية للناس فعلنا ذلك، يعني: ما فعله من الإماتة والإحياء، ومثله قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ﴾ [الأنعام: 105] معناه: وليقولوا دارست صرّفْناها، ومثله ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ [الأنعام: 75] أراد: وليكون من الموقنين نريه الملكوت [[ينظر في إعراب الآية: "تفسير الثعلبي" 2/ 1520، "التبيان" 1/ 155 - 156، "البحر المحيط" 2/ 293.]].
ومعنى كونه آية للناس: أنه لما أحيي بعد الإماتة كان ذلك دلالة على البعث بعد الموت في قول أكثر المفسرين [["تفسير الثعلبي" 2/ 1521.]]. وقال الضحاك وغيره: جعله الله آية للناس بأن بعثه شابًا أسودَ الرأس واللحيةِ وبنو بنيه شيب [[نقله عن الضحاك: الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1521، والبغوي في "تفسيره" 1/ 320، وروى سفيان الثوري في "تفسيره" ص 72 نحوه عن المنهال بن عمرو، وروى== الطبري في "تفسيره" 3/ 42 عن الأعمش نحوه، وروى ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 505 عن عكرمة نحوه.]].
وقوله تعالى: ﴿وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ﴾ أكثر المفسرين على أن المراد بالعظام عظام حماره، وأن اللام فيه بدل عن الكناية [[ينظر: "تفسير الطبري" 3/ 40، "تفسير الثعلبي" 2/ 1519، "النكت والعيون" 1/ 333، "زاد المسير" 1/ 312.]].
وقال آخرون: أراد به عظام هذا الرجل نفسه، وذلك أن الله تعالى لم يمت حماره وأحيا الله عينيه ورأسَه، وسائرُ جسده ميت، ثم قال له: انظر إلى حمارك، فنظر فرأى حماره واقفًا كهيئة يوم ربطه حيًّا، لم يطعم ولم يشرب مائة عام، وتقدير الآية على هذا: وانظر إلى عظامك كيف ننشرها، واللام في هذا القول بدل عن كاف الخطاب، وهذا قولُ قتادة [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 44، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1520.]] والربيع [[انظر المصدرين السابقين.]] وابن زيد [[انظر المصدرين السابقين.]]. وقال عطاء عن ابن عباس: يريد عظام نفسه وعظام حماره [[تقدم الحديث عن هذه الرواية في قسم الدراسة.]].
وقوله تعالى: ﴿كَيْفَ نُنْشِزُهَا﴾ [[قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (نُنْشِرها) بضم النون الأولى وبالراء، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي (ننشزها) بالزاي، لمحال ابن مجاهد: وروى أبان عن عاصم (كيف نَنْشُرها) بفتح النون الأولى وضم الشين والراء مثل قراءة الحسن. ينظر: "السبعة" ص 189، "الحجة" 2/ 379.]] أي: نحييها، يقال: أنشر الله الميت فنشر، قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ﴾ [عبس: 22]، وقال الأعشى: يا عَجَبًا للمَيتِ الناشِرِ [[صدر البيت:
حتى يقول الناس مما رأوا
والبيت في "ديوانه" ص 93، "معاني القرآن" للفراء 1/ 173، "الخصائص" 3/ 225، "تفسير الثعلبي" 2/ 1518، والناشر: الذي بعث من قبره. "البحر المحيط" 2/ 297.]]
وقد وصفت العظام بالإحياء في قوله: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا﴾ [يس:78 - 79] فكذلك في قوله: ننشرها [[ينظر: "الحجة" 2/ 379 - 380، "تهذيب اللغة" 4/ 3572 مادة "نشر"، "غريب القرآن" ص 85.]].
وقرئ (نَنْشُرُها) [[قرأ بها الحسن والمفضل. ينظر "معاني القرآن" للفراء 1/ 173، "غريب القرآن" ص 85، "تفسير الثعلبي" 2/ 1518.]] بفتح النون وضم الشين، قال الفراء: كأنه ذهب إلى النَّشْر بعد الطي [["معاني القرآن" للفراء 1/ 173.]]، وذلك أن بالحياة يكون الانبساط [[في (ش): (الانتشاط).]] في التصرف، فهو كأنه مطوي ما دام ميتًا، فإذا عاد حيًا صار كأنه نُشر بعد الطي.
وقال آخرون: يقال: نَشَر الميتُ ونَشَره اللهُ، مثل: حَسَرَتِ الدابةُ، وحَسَرْتُها أنا، وغاض الماء وغِضْتُه، قال العجاج:
كم قد حَسَرْنا من عَلاةٍ عَنْسِ [[في (ش) و (ي): (عبس).]] [[رجز أورده في "الحجة للقراء السبعة" 2/ 381، وصاحب "اللسان" 5/ 3129 (مادة: عنس)، ولم ينسباه، والعَنْس: الصخرة والناقة القوية، شبهت بالصخرة لصلابتها، والعلاة: السندان، ويقال للناقة علاة تُشَبَّه بها في صلابتها.]] [[بتصرف من "الحجة" 2/ 381، وينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 344، "تهذيب اللغة" 4/ 3572 مادة "نشز"، "المفردات" ص 495.]] وقرأ حمزة والكسائي نُنْشِزُها بالزاي على معنى: نرفع بعضها إلى [[في (ي): (على).]] بعض، وإنشاز الشيء: رَفْعُه، يقال: أَنْشَزْتُه فَنَشَزْ، أي: رفعته فارتفع، ويقال لما ارتفع من الأرض: نَشْزٌ، ومنه: نشوز المرأة، وهو أن تنبو عن الزوج في العشرة ولا تلائمه، وترتفع عن حد رضاه [[ينظر: "الحجة" 2/ 381 - 382، "تهذيب اللغة" 4/ 3572 (مادة: نشز)، "المفردات" ص 495.]].
ومعنى الآية على هذه القراءة: كيف نرفعها من الأرض فنردها إلى أماكنها من الجسد، ونركب بعضها على بعض [["غريب القرآن" ص 95، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 344، "المفردات" ص 495.]].
وقال الأخفش: يقال: نَشَزْتُه وأَنْشَزْتُه، أي: رفعته [["معاني القرآن" للأخفش 1/ 183.]].
وروي عن النخعي أنه كان يقرأ (نَنَشُزُها) بفتح النون وضم الشين والزاي [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1518، و"تفسير القرطبي" 3/ 188، "البحر المحيط" 2/ 293.]].
وقوله تعالى: ﴿قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ وذلك أنه لما شهد ما شاهد من إحياء الله وبعثه إياه بعد وفاته، أخبر عما تبيّنه وتيقنه مما لم يكن تبيّنه هذا التبيُّنَ الذي لا يجوز أن يعترض فيه إشكال، ﴿قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. أي: أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته قبل، وتأويله: أني قد علمت مشاهدة ما كنت أعلمه غيبًا [[سقطت من (ي).]].
وقرأ حمزة والكسائي [[وقرأ الباقون (أعلمُ). ينظر: "السبعة" ص189، "الحجة" 2/ 383.]]: (قال اعلمْ) موصولًا مجزومًا على لفظ الأمر، وذلك أنه لما تبين له ما تبين نَزَّلَ نفسه منزلة غيره، فخاطبها كما يخاطِبُ سِواها، وهذا مما تفعله العرب، يُنزّل أحدهم نفسه منزلة الأجنبي، فيخاطبها كما يخاطبه، ويجري التخاطب بينهما كما يجري بين الأجنبيين، قال الأعشى:
وَدِّع هُرَيْرَةَ إنّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ [[عجزالبيت:
وهل تطيق وداعًا أيُها الرَّجُلُ
وهو في "ديوانه" ص155، "الحجة" لأبي علي 2/ 384 "لسان العرب" 2/ 715 "جهم".]]
خاطب نفسه كما يخاطب غيره، كذلك [[في (ي): (وكذلك).]] قوله لنفسه: ﴿أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ نزله منزلة الأجنبي المنفصل منه؛ لينبهه على ما تبين له [[سقطت من (ي).]] [[من "الحجة" 2/ 383 - 384 بتصرف.]].
ويجوز أن يكون الله تعالى قال له: ﴿أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، يدل على صحة هذا التأويل قراءة عبد الله والأعمش: قيل: اعلم [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1527، "التبيان" ص 157، "البحر المحيط" 2/ 296.]].
{"ayah":"أَوۡ كَٱلَّذِی مَرَّ عَلَىٰ قَرۡیَةࣲ وَهِیَ خَاوِیَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ یُحۡیِۦ هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۖ فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِا۟ئَةَ عَامࣲ ثُمَّ بَعَثَهُۥۖ قَالَ كَمۡ لَبِثۡتَۖ قَالَ لَبِثۡتُ یَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ یَوۡمࣲۖ قَالَ بَل لَّبِثۡتَ مِا۟ئَةَ عَامࣲ فَٱنظُرۡ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمۡ یَتَسَنَّهۡۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجۡعَلَكَ ءَایَةࣰ لِّلنَّاسِۖ وَٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡعِظَامِ كَیۡفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكۡسُوهَا لَحۡمࣰاۚ فَلَمَّا تَبَیَّنَ لَهُۥ قَالَ أَعۡلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق