الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ الأصحُّ أن هذه الأيام يرادُ بها: أيامُ التشريق [[سميت أيام التشريق بذلك؛ لأن الناس كانوا يشرقون اللحم تلك الأيام، وتشريق اللحم هو تقديده وبسطه في الشمس ليجف، وقيل: لأن الهدي والضحايا لا تنحر حتى تشرق الشمس، أي: تطلع. ينظر: "النهاية" لابن الأثير ص 475.]] وأيامُ رَمْي الجمار [[قد حكى جماعة كثيرة من العلماء الإجماع على أن المراد بالأيام المعدودات هي أيام منى، منهم: الماوردي في: "النكت والعيون" 1/ 263، وابن عبد البر، نقله عنه القرطبي في "تفسيره" 3/ 1، والجصاص في "أحكام القرآن" 1/ 394، والكيا الهراسي في "أحكام القرآن" 1/ 178، والرازي في "تفسيره" 5/ 208، والقرطبي في "تفسيره" 3/ 1. وقال النووي في "المجموع" 8/ 281: نقل القاضي أبو الطيب والعبدري وخلائق: إجماع العلماء على أن المعدودات هي أيام التشريق. وذكر الطبري في "تفسيره" 2/ 302 - 303 هذا القول عن مفسري السلف، وقال: وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، ثم أسند التفسير به عن ابن عباس وعطاء ومجاهد وإبراهيم والحسن وقتادة والسدي والربيع ومالك والضحاك وابن زيد. ينظر: "الإجماع في التفسير" 216 وما بعدها.]]، سماها معدودات [[زيادة من (ي).]] لِقِلَّتِهَا [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 275.]]، كقوله: ﴿دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾ [يوسف: 20]. وجَمْعُها على الألف والتاء يدل أيضًا على القلة، نحو: دُرَيْهِمَات وحمامات [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 275، قال القرطبي في "تفسيره" 3/ 1: قال الكوفيون: الألف والتاء في (معدودات)؛ لأقل العدد، وقال البصريون: هما للقليل والكثير.]]. وروي أن حسان بن ثابت عرضَ شعره وهو صبي بعكاظ على النابغة وأنشده قوله: لنا الجَفنَاتُ الغُرُّ يَلْمَعْن بالضُّحَى ... وأسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَةٍ دمَا [[البيت في "ديوانه" ص 221. "المقتضب" 2: 188 "الكتاب" لسيبويه 3/ 578 "الخصائص" 2/ 206، "المحتسب" 1/ 187، والغُر: البيض، جمع غرّاء، يريد بياض الشحم، يقول: جفاننا معدة للضيفان ومساكين الحي بالغداة وأسيافنا تقطر بالدم، لنجدتنا وكثرة حروبنا.]] فقال: يا غلام! قَلَّلْتَ جِفَانك، يريد: أنه جَمَعَ بالألف والتاء، ولم يَقُلْ الجِفَان. قال الزجاج: وهذا الخبر عندي مصنوع؛ لأن الألف والتاء قد تأتي للكَثْرة قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ﴾ [الأحزاب: 35]. وقال: ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾ [يونس: 9]. وقال: ﴿الْغُرُفَاتِ﴾ [سبأ: 37]، فقد يرد هذا الجمع في الكثير، ولكنه أدلُّ على القليل، من حيث كانَ أقرب إلى الواحد؛ لأنه على التثنية، تقول: حمام وحمامان وحمامات، فتؤدي بناءَ الواحد [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 275 - 276، وقد استشهد سيبويه في "الكتاب" 3/ 578 ببيت حسان على الجمع الكثير.]]. والمراد بالذكر في هذه الأيام: التكبير أدبار الصلوات وعند الجمرات، يكبر مع كل حصاة [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 302، "تفسير الثعلبي" 2/ 614، "زاد المسير" 1/ 217.]]. وأكثر العلماء على ما ذكرنا وهو أن الأيام المعدودات: أيام التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد النحر: أولها: يوم القَرّ، وهو اليوم الحادي عشر من ذي الحجة، يستقرُّ الناس فيه بمنى. والثاني: يوم النَّفْر الأول؛ لأن بعض الناس ينفرون في هذا اليوم من منى. والثالث: يوم الثالث عشر، وهو يوم النفر الثاني [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 204، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 140 - 142، وقال القرطبي 3/ 1. أمر الله سبحانه عباده بذكره في الأيام المعدودات، وهي الثلاثة التي بعد يوم النحر، وليس يوم النحر منها، لإجماع الناس أنه لا ينفر أحد يوم النفر، وهو ثاني يوم النحر، ولو كان يوم النحر في المعدودات لساغ أن ينفر من شاء متعجلا يوم النفر؛ لأنه قد أخذ يومين من المعدودات.]]. وهذه الأيام الثلاثة مع يوم النحر كلها أيام النحر، وأيام رمي الجمار [[كونها أياما لرمي الجمار لا خلاف فيه، وكونها أياما للنحر وقع فيه الخلاف على أقوال: الأول: أن آخر أيام النحر اليوم الثاني من أيام التشريق، فتكون أيام النحر ثلاثة، يوم النحر ويومان بعده، وهذا قول عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأنس، وهو قول أبي حنيفة ومالك والثوري. والثاني: أن آخر أيام النحر هو آخر أيام التشريق، روي عن علي، وبه قال عطاء والحسن، وهو مذهب الشافعي. والثالث: أن النحر في يوم النحر فقط وهو قول ابن سيرين. والرابع: أن آخرها لأهل الأمصار يوم النحر، ولأهل منى اليوم الثاني من أيام التشريق، وبه قال سعيد بن جبير وجابر بن زيد. والخامس: أن آخرها هلال المحرم، وبه قال أبو سلمة بن عبد الرحمن وعطاء بن يِسار. ينظر: "المغني" لابن قدامة 13/ 386.]]. وهي الأيام الأربعة مع يوم عرفة أيام التكبير أدبار الصلوات، يبتدأ مع الصبح يوم عرفة، ويختم مع العصر يوم الثالث عشر، وهو مذهب أمير المؤمنين علي [[رواه عن علي: ابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 165، وابن المنذر في "الأوسط" 4/ 300، والبيهقي في "تفسيره" 3/ 314.]]، رضي الله عنه، وهو أكمل المذاهب. والأظهر من مذهب الشافعي رحمه الله أنه يبتدئ التكبيرَ من صلاة الظُّهر يوم النحر إلى صلاة الفجر من آخر أيام التشريق، اقتداءً بالحاجّ، قال: لأنهم يقطعون التلبية ويأخذون في التكبير يوم النحر، من صلاة الظهر، والصبح آخر صلاة يصليها الحاج، والناس لهم تبع [[ينظر: "الأم" 1/ 275، "معرفة السنن والآثار" 5/ 104، "المجموع" 5/ 31، وقد وقع الخلاف في ابتداء التكبير عقب الصلوات المفروضات وانتهائه على ستة أقوال: الأول: ما ذكره المؤلف من مذهب علي، وبه قال عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود والثوري وأبو ثور، والشافعي في بعض أقواله، وأبو يوسف ومحمد، وهو مذهب أحمد لمن كان محلا، أما إن كان محرما فيبتدئ بالظهر من يوم النحر. الثاني أنه من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر، قاله ابن مسعود وعلقمة والنخعي وأبو حنيفة. الثالث: من بعد صلاة الظهر يوم النحر إلى ما بعد العصر من آخر أيام التشريق، قاله ابن عمر وزيد بن ثابت وابن عباس وعطاء. والرابع: أنه يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى ما بعد صلاة الظهر من يوم النفر، وهو الثاني من أيام التشريق، قاله الحسن. والخامس: أنه يكبر من الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، قاله مالك وهو أحد قولي الشافعي. والسادس: أنه يكبر من صلاة المغرب ليلة النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وهذا قول للشافعي. ينظر: "زاد المسير" 1/ 217، "المغني" 3/ 288، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 142، "تفسير القرطبي" 3/ 4.]]. وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ معناه: فمن تعجل في يومين من أيام التشريق فنفر في اليوم الثاني، فلا إثم عليه في تَعَجُّلِه، ومن تَأَخَّرَ عن النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق إلى اليوم الثالث حتى نفر فيه، فلا إثم عليه في تأخُّرِه [["تفسير الثعلبي" 2/ 622، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 305، "زاد المسير" 1/ 218، "تفسير القرطبي" 3/ 4.]]. فإن قيل: إنما يخاف الإثم المتعجل. فما بال المتأخر أُلحق به، والذي أتى أفضل؟ قيل: معناه: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فهو مبرور مأجور. فقال: (فلا إثم عليه) وهو يريد هذا المعنى لتوافق اللفظةُ الأولى الثانيةَ، وتكون على مثلِ سبيلها، وقد ذكرنا أنه حُمِلَ على موافقة اللفظ بما لا يصلح في المعنى [[في (أ) و (م): ليوافق اللفظ ما لا يصح في المعنى.]] وهو قوله: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ﴾ [الشورى: 40]، وقوله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾ [البقرة: 194]، فَلأَن يحمل على موافقة اللفظ بما يَصِحُّ في المعنى أولى؛ لأن المبرور المأجور يصح في المعنى نفيُ الإثم عنه. وقيل: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه في استعماله الرخصة، ومن تأخر فَتَرْكُه استعمالَ الرخصةِ غيُر مؤثم له أيضًا. وقيل: فمن تَعَجَّل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه من آثامهما التي كانت عليهما قبل أن يَحُجَّا، يدل على صحة هذا الوجه: ما روى منصور [[هو: منصور بن المعتمر بن عبد الله السلمي، أبو عتاب الكوفي، أحد الأئمة الثقات، وكان أثبتَ أهلِ الكوفة، اشتهر بالعبد والصلاح، ذكر العجلي أن فيه تشيعا قليلا وليس بمغال، توفي سنة 132 هـ ينظر: "الجرح والتعديل" 6/ 92، "تاريخ بغداد" 11/ 120.]]، عن أبي حازم [[هو: سلمان أبو حازم الأشجعي الكوفي، روى عن ابن عمر وأبي هريرة، وروى == عنه منصور والأعمش، كان ثقة وله أحاديث صالحة، قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقة، توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز. ينظر: "تهذيب التهذيب" 4/ 140، "التقريب" ص 246 (2479).]]، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: "من حجَّ هذا البيتَ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُق خرج من ذنوبه كيومِ ولدتْه أمه" [[أخرجه البخاري (1820) كتاب الحج، باب: قول الله: ولا فسوق ولا جدال في الحج، ومسلم (1350) كتاب الحج، باب: في فضل الحج والعمرة.]]. وذهب بعض المتأولين: إلى أن المراد بوضع الإثم عنه المتعجلُ دون المتأخر، ولكن ذُكرا معًا والمراد أحدُهما، كقوله: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ [البقرة: 229] والجناح على الزوج؛ لأنه أخذ ما أعطى، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ [البقرة: 229] ومثل هذا قوله: ﴿نَسِيَا حُوتَهُمَا﴾ [الكهف: 61]، نسب النسيان إليهما، والناسي أحدُهما، وقوله ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾ [الرحمن: 22]، وإنما يخرج من أحدهما [[ينظر في ذكر هذه الأجوبة على هذا الإشكال الذي طرحه الواحدي: "تفسير الطبري" 2/ 305 - 307، "زاد المسير" 2/ 218، "التفسير الكبير" 5/ 210 - 211، "البحر المحيط" 2/ 112.]]. وقوله تعالى: ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ قال النحويون: المعنى: ذلك لمن اتقى، أي: طَرْح المآثم عن المتعجل والمتأخر يكون إذا اتَّقَيَا في حَجَّهما تضييع شيء مما حَدَّه الله وأمر به، حتى لا يظن أن من تعجل أو تأخر خرج عن الآثام دون أن يتقي، فيكون قوله: ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ خبرًا لمبتدأ محذوف [[ينظر: "المحرر الوجيز" 2/ 185، "التبيان" ص 126 - 127، وقال في "البحر المحيط" 2/ 112: قيل هو متعلق بقوله: واذكروا الله، أي: الذكر لمن اتقى، وقيل: المعنى: ذلك التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر لأجل الحاج المتقي لئلا يختلج في قلبه شيء منهما فيحسب أن أحدهما آثام في الإقدام عليه،]]، وهذا معنى قول قتادة [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 309، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 625.]] وابن مسعود [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 309، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 363.]]، وكان يقول: إنما جعلت مغفرة الذنوب لمن اتقى الله في حجه، وكذلك كان يقرأ: ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ [[من قوله: كان يقرأ القرآن ... ساقطة من (م). وهذه العبارة وردت مكررة في (أ) وفي الأولى منهما (لمن اتقى الله حجه).]] [[رواه أبو عبيد في "فضائل القرآن" ص 291، والطبري في "تفسيره" 2/ 208 عن ابن جريج، وذكر القراءة: الثعلبي في "تفسيره" 2/ 626، وأبو حيان في "البحر المحيط" 2/ 113.]]. وقال ابن عباس في رواية العوفي والكلبي: طرح المأثم عن المتعجل والمتأخر يكون إذا اتَّقَيَا قَتْلَ الصيد، لا يحلُّ لأَحَدْ أن يَقْتُلَ صيدًا حتى تخلو أيام التشريق [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 309، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 363 كلاهما من غير طريق العوفي والكلبي، وفي "الدر المنثور" 1/ 423، عزاه إلى سفيان بن عيينة وابن المنذر. رواية العوفي أخرجها الطبري 2/ 309، وذكرها الثعلبي 2/ 625، ورواية الكلبي ذكرها الثعلبي 2/ 625، وأخرجها ابن أبي حاتم 2/ 363، من طريق سفيان عن رجل قد سماه عن أبي صالح عن ابن عباس به.]]، فمتى [[في (ي) (فإذا).]] لم يتقياه كان عليهما مأثم. وقال أبو العالية: ذهب إِثْمُهُ كُلُّه إن اتقى فيما بقي من عمره [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 308، وفي "الدر المنثور" 1/ 425 عزاه إلى عبد بن حميد، وذكر النحاس في "معاني القرآن" 1/ 147، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 625.]]. ومعناه: التحذير من الاتكال على ما سلف من أعمال الحج والبر فيه، فبين أن عليهم مع ذلك ملازمةَ التقوى، ومجانبةَ الاغترار بالحال الأولى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب