الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ يقال: رغبت عن الشيء أي: تركته عمدًا، وهو ضدُّ قولك: رغبتُ فيه [["تهذيب اللغة" 2/ 1432، "تفسير الثعلبي" 1/ 1194.]]. قال أبو إسحاق: معنى (مَنْ) التقريرُ والتوبيخُ، ولفظُها لفظُ الاستفهام والمعنى: ما يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سَفِهَ نَفْسَه [[انظر: "معاني القرآن" للزجاج بتصرف، 1/ 209 "البحر المحيط" 1/ 394.]]، وذكرنا معنى السفه فيما تقدم [[تقدم عند قوله تعالى: ﴿أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ [البقرة: 13].]]. واختلف النحويون في نصب (نفسَه). فقال الفرَّاءُ: العرب توقع [[في (م): (ترفع).]] سَفِهَ على النفس، وهى معرفة، وكذلك قوله: ﴿بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا﴾ [القصص: 58] وهو في المعرفة كالنكرة؛ لأنه مفسِّر، والمفسِّر في أكثر الكلام نكرة، كقولك: ضِقْتُ به ذَرْعًا، المعنى: ضاق به ذرعي، فالفعل للذرع، فلما جعلتَ الضيق مسندًا إليك فقلت: ضقت، جاء الذرع مفسرًا؛ ليدل على أنَّ [[في (م): (أن المعنى الضيق فيه).]] الضيقَ فيه، كما تقول: هو أوسعُكم دارًا، أدخلتَ الدارَ لِيُعْلَمَ أنَّ السعةَ فيها لا في الرجل [["معاني القرآن" للفراء 1/ 79، ونقله في "تفسير الثعلبي" 1/ 199.]]. ثم أجري على هذا قولهم: قد [[ساقطة من (ش)، (م).]] وَجِعَ بطنَه، وأَلِمَ رأسَه، وغَبِنَ رأيَه، ورَشِدَ أمرَه، فعند الفرَّاءِ التقدير: سَفِهَتْ نفسُه، فَأُضيفَ الفعلُ إلى صاحب النفس، فخرجت النفس مُفسّرةً، وهذا مذهب الكوفيين. واعترض الزجاج على هذا بأن قال: معنى التمييز لا يحتمل التعريفَ؛ لأنَّ التمييزَ إنما هو واحدٌ يدل على جنس أو خَلَّة يخلص من خِلال، فإذا عَرَّفته صار مقصودًا قصده، وهذا لم يقُلْهُ أحدٌ ممن تقدَّمَ [[في (م): (من المتقدمين).]] من النحويين [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 79، وينظر: "التبيان" للعكبري 93.]]. ثم حكى أقوالًا، فحكى عن الأخفش [["معاني القرآن" للأخفش 1/ 148.]]، عن أهل التأويل، إنهم قالوا: إن المعنى: سَفَّه نفسه. وقال يونس [[نقله عنه الأخفش في "معاني القرآن" 1/ 148.]] [[هو يونس بن حبيب الضبي بالولاء، البصري أبو عبد الرحمن، تقدمت ترجمته.]]: أُراها لغةً، ذهب إلى أن فَعِلَ للمبالغة كفَعُلَ، فذهب في هذا مذهب أهل التأويل، قال: ويجوز على هذا سفِهتُ زيدًا [["معاني القرآن" للزجاج.]]، بمعنى: سَفّهتُ زيدًا. قال ابن الأنباري: لا يعرف [[في (ش): (نعرف).]] هذا؛ لأن العرب لا تقول: سَفِهَ زيدٌ عمرًا بمعنى: سَفَّه، وحكى الزجّاج أيضًا، عن أبي عبيدة، أنه قال: معناه: أهلك نفسه، وأوبق نفسه [["مجاز القرآن" 1/ 56.]]، وهذا القول مثل ما حكى الأخفش عن أهل التأويل [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 210.]]. وقال أبو بكر: على هذا القول أهلكت في معنى سفه معنًى، وليس بتفسير، وإذا كان كذلك لم يجز نصبُ النفس به، وإيقاعُه عليه؛ لأن سَفِهَ يخالف أهلَكَ في التعدِّي، وإن كان بمعنى خِفْتُ. وحكى الزجّاج أيضًا عن الأخفش نفسه [[ساقطة من (م).]]: أن سَفِهَ نفسَه بمعنى سَفُه في نفسه، إلا أن (في) حذفت كما حُذفت حروف الجر في غير موضع، كقوله تعالى: ﴿أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ﴾ [البقرة: 233]، المعنى: أن تسترضعوا لأولادكم [[ساقطة من (ش).]]، فحذف حرف الجر من غير ظرف؛ لأن المعنى: لأولادكم، ومثله ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ [البقرة: 235]، أي: عليها، ومثلُه قول الشاعر: نغالي اللحم للأضياف نِيئًا ... ونبذُلُه إذا نَضجَ القُدُورُ [[البيت لرجل من قيس، في "جمهرة اللغة" ص 1317، "أساس البلاغة" (غلو) == ص 171 وبلا نسبة في "لسان العرب" 6/ 3290. ونسب للحطيئة في "أمالي المرتضي". انظر: حاشية "معاني القرآن" للزجاج 1/ 210، "معاني القرآن" للفراء 2/ 382، "المعجم المفصل" 3/ 327.]] المعنى: نغالي باللحم [["معاني القرآن" للأخفش 1/ 148 - 149، وينظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1385.]]. قال: ومثله: قول العرب: ضُرِبَ زيدٌ الظَهَر والبَطنَ، المعنى [[في (ش): (والمعنى).]]: على الظهر والبطن. قال: وهذا عندي مذهَبٌ صالح، ثم اختار أن يكون معنى سفِه نفسَه: جَهِلَ نفسه، فالمعنى والله أعلم: إلا من جهل نفسه، أي: لم يفكر في نفسه، فوضع سَفِهَ موضع جَهِل، وعُدِّى كما عُدَي [[بتصرف من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 210، وعنده: فحذف حرف الجر في غير الظرف.]]. وقد ارتضى هذا القول كثير من العلماء [[ينظر: "التبيان" 93، "البحر المحيط" 1/ 394.]]، وبه قال ابن كيسان فقال في تفسير قوله: ﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾: إلا من جهِل نفسه [[الثعلبي 1/ 1200، والبغوي في "تفسيره" 1/ 152. والواحدي في "الوسيط" 1/ 214، وهو اختيار الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 211.]]؛ لأن من عبد حجرًا أو قمرًا أو شمسا أو صنمًا [[في (ش): (ضيًا).]] فقد جهل نفسه؛ لأنه لم يعلم خالقها، ولم يعلم [[في (م): (ولا يعلم).]] ما يحق لله عليه. والعرب تضع سَفِهَ في موضع جَهِل، ومنه الحديث: "الكِبْرُ [[في (أ) و (م): (الكبير).]] أن تسفَهَ الحقَّ وتغمِصَ [[أي: تحقر وتزدري، ينظر: "القاموس" ص 625.]] الناسَ [[رواه الطبراني في "الكبير" 2/ 69، عن ثابت بن قيس، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 5/ 133، في طريق عبد الله بن عمرو: رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" وفيه عبد الحميد بن سليمان، وهو ضعيف، وقال: رواه أحمد والبزار ورجال أحمد ثقات. اهـ. ورواه أحمد 4/ 134 عن أبي ريحانة بلفظ: "إنما الكبر من سفه الحق وغمض الناس" ورواه مسلم (91) كتاب الإيمان، باب: تحريم الكبر وبيانه ولفظه: "الكبر بطر الحق وغمط الناس".]] " أي: تجهل الحق. ويؤيد هذا القولَ ما روي في الحديث [[ذكره في "تفسير الثعلبي" 1/ 1200، وقال: كما جاء في الخبر فذكره، وينظر: "تفسير البغوي" 1/ 153.]]: "مَنْ عرف نفسه فقد [[ساقطة من (أ).]] عرف ربه" [[ذكره الثعلبي في "تفسيره"، وعنه البغوي 1/ 153، وذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 214 قال النووي: ليس بثابت، ينظر: "المقاصد الحسنة" ص 490 (1149)، وقال ابن تيمية: موضوع، ينظر: "المصنوع في معرفة الموضوع" ص 189 (349)، وقال السمعاني: إنه لا يعرف مرفوعًا، ينظر: "المقاصد" ص490، "الموضوعات" ص 351. وقال العجلوني في "كشف الخفاء" 2/ 262: وقال أبو المظفر ابن السمعاني في "القواطع": إنه لا يُعرف مرفوعًا وإنما يُحْكى عن يحيى بن معاذ الرازي، يعني من قوله. وقال ابن الفرس بعد أن نقل عن النووي أنه ليس بثابت، قال: لكن كُتبُ الصوفية مشحونة به، يسوقونه مساق الحديث، كالشيخ محيي بن عربي، وغيره. قال: وللحافظ السيوطي فيه تأليف سماه "القول الأشبه في الحديث: من عرف نفسه فقد عرف ربه" والكتاب ضمن الكتب الموجودة في "الحاوي للفتاوى" للسيوطي، وذكره أبو نعيم في "الحلية" 10/ 208، عن سهل التستري.]]. قيل في معناه: إنما يقع الناس في البدع والضلالات لجهلهم أنفسهم، وظنّهم أنهم يملكون الضرّ والنفع دون الله. وحُكي عن أبي بكر الوراق [[الإمام المحدث أبو بكر محمد بن إسماعيل بن العباس البغدادي المستملي الوراق، تقدمت ترجمته [البقرة: 6].]] أنه قال في معنى هذا الحديث: من عرف نفسه مخلوقة مرزوقة بلا حول ولا قوة، عرف ربه خالقًا رازقًا بالحول والقوة [[ذكره في "الوسيط" 1/ 214.]]، وقد أوحى الله إلى داود: كيف عرفتني، وكيف عرفت نفسك؟ فقال: عرفتك بالقدرة والقوة والبقاء، وعرفتُ نفسي بالعجز والضعف والفناء، فقال: الآن عرفتني [[ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 215، والبغوي 1/ 153.]]. فإذا كان من عرف نفسه عرف ربه، كان من جهل نفسه جهل ربه حتى يرغب [[في (م): (حتى يذهب يرغب).]] عن ملة إبراهيم. ثم بعد هذه الأقوال، قد حكي عن الخليل قول حَسَنٌ، وهو أنه قال: تجيء أفعال تتعدى إلى النفس خاصة، نحو: سَفِه نفسَه وصَبَر نفسَه، ولا يقال: سَفهتُ زيدا [[في (م): (سفهت نفسه زيدًا).]] ولا صبرتُه، قال عنترة [[هو عنترة بن عمرو بن شداد العبسي، من أشهر فرسان العرب وشجعانهم، من أصحاب المعلقات، يعد من الطبقة السادسة لفحول شعراء الجاهلية. ينظر: "الشعر والشعراء" ص 149، "الأعلام" 5/ 91.]]: فصبرتُ عارفةً لذلك حُرّةً ... ترسُو إذا نفسُ الجبان تَطَلَّعُ [[البيت لعنترة، تقدم تخريجه [البقرة: 44].]] أراد: صبرتُ نفسًا عارفة. وبهذا قال الكسائي، فقال في قوله: ﴿سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ و ﴿بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا﴾ [القصص: 58]، ﴿أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: 150]، ووجع بطنَه، ورشِد أمرَهُ وخسِر نفسَه: هذه حروف تقولها العرب كأنها فعل واقع في هذا المكان، ولا يقولون: وجعتُ عبدَ الله، ولا خسرتُ عبدَ الله [[تقدم شيء منه قبل قليل.]]. قال الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله: ﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ قال: خسر نفسه [[ذكره الثعلبي 1/ 1191، وذكره البغوي في "تفسيره" 1/ 152، والخازن 1/ 112، وأبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 394.]]. وقال بعضهم: سفِه حقَّ نفسه، أي: جهِلَ [[ذكره الثعلبي 1/ 1200، عن المفضل بن سلمة عن بعضهم. وانظر: "البحر المحيط" 1/ 394.]]، فجعله من باب حذف المضاف. وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾ معنى اصطفيناه: اخترناه للرسالة، وهو افتعلنا من الصفوة، قلبت التاءُ طاءً؛ لأنها أشبه بالصاد [[ينظر: "الكتاب" لسيبويه 4/ 239 - 240، "تفسير الطبري" 1/ 559، "تفسير الثعلبي" 1/ 1195، "تفسير القرطبي" 2/ 122.]]، وتأويل: ﴿اصْطَفَيْنَاهُ﴾ أخذناه صافيًا من غير شائب [[ينظر: "الوسيط" للواحدي 1/ 215.]]. قال ابن عباس في معنى قوله: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾: يريد: أنه ليس في الأرض خلق إلا وهو [[في (م): (إلا ويذكره).]] يذكره بخير، وينتحل دينه [[لعله من رواية عطاء.]]، وقيل: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾ بالنبوة، وقيل: بالخُلّة. وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾، قال ابن عباس: يريدُ من نوح وآدم [[في "الوسيط" عزاه لعطاء، فلعله من رواية عطاء عن ابن عباس التي تقدم الحديث عنها في المقدمة، ولفظه: يريد: نوح وآدم.]]، وقال أبو صالح عنه: يريد مع آبائه الأنبياء في الجنة [[ذكره الثعلبي 1/ 1201، والبغوي 1/ 153، وذكره أبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 395.]]، وقال الحسن [[ذكره في "الوسيط" 1/ 215، "البحر المحيط" 1/ 395.]]: أي: من الذين يستوجبون على الله الكرامةَ وحسنَ الثواب، فلما كان خلوصُ الثواب في الآخرة دون الدنيا وصفه بما ينبئ عن ذلك. وقال الزجاج: يريد من الفائزين؛ لأن الصالح في الآخرة فائز [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 211.]]. وقال الحسينُ بن الفضل [[هو الحسين بن الفضل بن عمير البجلي، تقدمت ترجمته.]]: هذا على التقديم والتأخير، تقديره: ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين قال: ومثل هذا: الآية التي في النحل: ﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [النحل: 122] [[ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 1/ 201، والبغوي 1/ 153، والقرطبي 2/ 122، وأبو حيان 1/ 395 وقال: وهذا الذي ذهب إليه خطاء ينزه القرآن عنه.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب