الباحث القرآني

فقال: ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا﴾ ذكرنا الكلام في (كلا) عند قوله: ﴿أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا﴾ [الإسراء: 23]، وأما ﴿كِلْتَا﴾ فذهب سيبويه إلى أنها فعلى بمنزلة الذكرى، وأصلها كلوى، فأبدلت الواو تاء كما أبدلت في أنحت وبنت [["الكتاب" لسيبويه 3/ 364.]]. والذي يدل على أن لام "كلتا" معتلة قولهم في مذكرها: كِلَى، وكِلَى فِعَل، ولامه معتلة بمنزلة لام حِجَى وَرِضَى، وهما من الواو لقولهم: حَجَى يَحْجُو، والرضوان، ولذلك مثلها سيبويه بما اغتسلت لامه فقال: (هي بمنزلة شروى) [["الكتاب" لسيبويه 3/ 364.]]. وأما أبو عمرو الجرمي فذهب إلى أنها معتلة وأن التاء فيها علامة تأنيثها [[انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 10/ 402، "البحر المحيط" 6/ 123، "الدر المصون" 7/ 336، "روح المعاني" 15/ 274.]]. وخالف سيبويه، وشهد بفساد هذا القول أن التاء لا تكون علم تأنيث الواحد إلا وقبلها فتحة، مثل: حَمْزَة وطلحة وقاعدة، أو تكون قبلها ألف نحو: سعلاة وعزهاة، والسلام في كلتا ساكنة كما ترى. ووجه آخر: أن علامة التأنيث لا تكون أبدًا وسطا، إنما تكون آخرا لا محالة، وكلتا اسم مفرد يفيد معنى التثنية فلا يجوز أن يكون علامة تأنيثه التاء، وما قبلها ساكن، وأيضًا فإن فعلى مثال لا يوجد في الكلام أصلاً، فيحمل هذا عليه، فإن سميت بـ (كلتا) رجلاً لم تصرفه في قول سيبويه معرفة ولا نكرة؛ لأن ألفها للتأنيث بمنزلة ألف ذكرى، وتصرفه نكرة في قول أبي عمرو، لأن أقصى أحواله عنده أن يكون كتائهة وقاعدة وعزة وحمزة [[انظر: "البحر المحيط" 6/ 123، "الدر المصون" 7/ 336، "روح المعاني" 15/ 274.]]. وقوله تعالى: ﴿آتَتْ أُكُلَهَا﴾ قال الأخفش: (جعل الفعل واحدًا ولم يقل: آتتا، لأنه جعل ذلك لقوله: ﴿كِلْتَا﴾ هو في اللفظ، ولو جعله على معنى قولك: كلتا، لقال: آتتا) [["معاني القرآن" للأخفش 1/ 619.]]. ونحو هذا قال الزجاج [["معاني القرآن" للزجاج 3/ 285.]]. ومعنى ﴿آتَتْ أُكُلَهَا﴾ صاحبها أكلها أي: أدت إليه ريعها تامًا من غير نقصان، وهو قوله: ﴿وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ قال ابن عباس والمفسرون: (لم تنقص منه شيئًا) [["جامع البيان" 15/ 244، "معالم التنزيل" 5/ 171، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 93، "الدر المنثور" 4/ 403.]]. يقال: ظلمهُ حقه إذا نقصه، وقد مر. ﴿وَفَجَّرْنَا﴾ أي: أنبطنا [[النبط: الماء الذي ينبط من قعر البئر إذا حفرت. انظر (نبط) في: "تهذيب اللغة" 4/ 3497، "القاموس المحيط" ص (689)، "معجم مقاييس اللغة" 5/ 381.]] وأخرجنا ﴿خِلَالَهُمَا﴾ وسط الجنتين ﴿نَهَرًا﴾ أخبر أن شربهما كان من ماء نهر، وهو من أعذب الشرب، والكلام في التفجير والخلال قد مر في سورة بني إسرائيل [[عند قوله تعالى في سورة الإسراء الآية: (90، 91): ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا﴾.]]. قوله تعالى: ﴿وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ﴾ أي: كان للأخ الكافر أموال كثيرة، قال ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة في قوله: ﴿ثَمَرٌ﴾ يقول: (مال) [["جامع البيان" 15/ 245، "النكت والعيون" 3/ 306، "المحرر الوجيز" 9/ 308، "تفسير القرآن العظيم" 3/ 93.]]. وقال مجاهد: (ذهب وفضة) [["جامع البيان" 15/ 245، "معالم التنزيل" 5/ 171، "الكشاف" 2/ 390، " الدر المنثور" 4/ 403.]]. وقال قتادة: (يقول ومن كل المال) [["جامع البيان" 15/ 245، "المحرر الوجيز" 9/ 358، "النكت والعيون" 3/ 306، "البحر المحيط" 6/ 125.]]. واختلف القراء في قوله: ﴿ثَمَرٌ﴾ علي ثلاثة أوجه: ثُمُر بضم الثاء والميم وهو قراءة أكثر القراء، وقرأ أبو عمرو: بضم الثاء وسكون الميم، وقرأ عاصم: بفتحهما [[قرأ أبو عمرو البصري: (ثُمْر) بضم الثاء وسكون الميم. وقرأ عاصم: (ثَمَر) بفتح الثاء والميم. وقرأ الباقون (ثُمُر) بضم الثاء والميم. انظر: "الحجة للقراء السبعة" 5/ 142، "السبعة" ص 39، "المبسوط في القراءات" ص 234، "التبصرة" ص 248، "النشر في القراءات العشر" 2/ 310.]]. قال الليث: (الثَمَر: حمل الشجر) [["تهذيب اللغة" (ثمر) 1/ 498.]]. والثُمُر أنواع المال، يقال: أثمر الرجل إذا كثر ماله، وثَمَّر الله مال فلان ، أي: كثره. وروى الفراء بإسناده عن مجاهد قال: (ما كان في القرآن من ثُمُر فهو مال، وما كان من ثَمَر فهو من الثمار) [["معاني القرآن" للفراء 2/ 144.]]. وقال ابن زيد: (الثُّمُر الأصل، والثَّمَرة ما يجتنى من ذي الثمر) [["جامع البيان" 15/ 246، "النكت والعيون" 3/ 306، "البحر المحيط" 6/ 125.]]. ويجمع ثَمَرَات مثل: رَقَبَة ورَقَبات، قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ﴾ [النحل: 67]، وثِمَار أيضًا مثل: رِقَاب في جمع رَقَبَة، ويجوز أن يُكسَّر ثَمَار على ثُمُر ككِتَاب وكُتُب، ويجوز في جمع ثَمَرَة وجهان آخران: ثَمَر مثل: بَقَرة وبَقَر، وثُمْر أيضًا كبَدَنة وبُدْن وخَشَبَة وخُشْب. فقراءة أبي عمرو بالتخفيف تحتمل ثلاثة أوجه أحدها: أن يكون جمع ثِمَار، فخفِّف نحو كتُب في جمع [[قوله: (في جميع) ساقط من الأصل، ومثبت في بقية النسخ.]] كِتَاب. الثاني: أن يكون جمع ثمرة مخفف نحو خُشْب جمع في [[كلمة: (في) ساقط من الأصل، ومثبت في بقية النسخ.]] خَشَبَة. الثالث: أن يكون ثُمُر واحد مثل ثَمَر فخفف نحو [[كلمة: (نحو) ساقط من الأصل، ومثبت في بقية النسخ.]] عَنُق وطُنُب. فعلى أي: هذه الوجوه كان، جاز إسكان العين [[في (س): (العنق).]] وساغ [["الحجة للقراء السبعة" 5/ 143.]]. وأما قراءة العامة بضمتين ، فلأن أهل اللغة فرقوا بين الثُمر والثمَر فقالوا: الثَمَر المال، والثُمُر المأكول. وأكثر المفسرين على أن الثَمَر هاهنا: الأموال، وعلى قول ابن زيد الثُمُر: الأصول التي تحمل الثمرة لا نفس الثمرة. وهذه القراءة أقوى الوجوه لقوله: ﴿فأصبحَ يُقلِّب كفَّيه عَلَى ما أَنْفَقَ فيها﴾ أي: في الجهة، والنفقة إنما تكون على ذوات الثمر في أغلب العرف [["جامع البيان" 15/ 245 - 246، "الحجة للقراء السبعة" 5/ 143.]]. وقال أبو إسحاق: (الثُمُر هاهنا أحسن؛ لأن قوله: ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا﴾ قد دل على الثَمَر) [["معاني القرآن" للزجاج 3/ 285.]]. وحكي عن أبي عمرو أنه قال: (الثَمَر والثُمُر أنواع المال) [["الحجة للقراء السبعة" 5/ 143، "البحر المحيط" 6/ 125، "التفسير الكبير" 21/ 125.]]. وهو المراد في هذه الآية، لا الثمرة التي تُجنى، دل على هذا قوله: "وأحيط بثَمَره" أي: أهلك جنته وماله وأصول نخله وشجره، وإذا كان كذلك فمن قرأ: بثُمْره وثُمُره كان قوله أبين، وأما قراءة عاصم في قوله: "وكان له ثَمَر" يعني ثَمَر [[قوله: (ثمر) ساقط من الأصل.]] نخله وكرمه، فليس بالجيد [[قول المؤلف -غفر الله له-: (فليس بجيد). ليس بجيد، فإن أراد القراءة، فهي سبعية ثابتة عن النبي -ﷺ-، ولا يجوز ردها ولا تضعيفها. وإن أراد المعنى، فقد وافقت وجهًا صحيحًا من أوجه اللغة العربية.]] ، لأن هذا قد فُهم من قوله: ﴿آتَتْ أُكُلَهَا﴾ وفي قوله: "وأحيط بثمره" كأنه أخبر عن بعض ما أصيب وأمسك عن بعض، وقراءة الباقين في قوله: "وأحيط بثمرة" جيدة عامة في الثَمَرة والأصول ، لأنه لا يكون أن يصاب الأصل ولا يصاب الثمرة. وقال محمد بن سلام: (قال سلام أبو المنذر القارئ [[سلام بن سليمان المزني الضري أبو المنذر، المقرئ، عالم باللغة والنحو، والقراءات، من علماء خرسان، قرأ على عاصم الجحدري، وروى عن الحسن، ومطر الوراق، وثابت وغيرهم، وقرأ عليه يعقوب الحضرمي، وكان صدوق، صالح الحديث، توفي رحمه الله سنة 171 هـ انظر: "الجرح والتعديل" 4/ 259، "تهذيب التهذيب" 4/ 284، "الكاشف" 1/ 413، "ميزان الاعتدال" 2/ 177، "غاية النهاية" 1/ 309، "معرفة القراء الكبار" 1/ 132.]]: من قرأ: "ثَمَر" قال: من كل المال، ومن قرأ: "ثُمُر" فهو جمع ثَمَره. فأخبرت بذلك يونس فقال: هما سواء) [["تهذيب اللغة" (ثمر) 1/ 498.]]. وهذا على أنه جعل الثُمْر جمع ثَمَرة، كما ذكرنا في خَشَبَة وخُشب، والصحيح الفرق بين القراءتين على ما ذكرنا. والثمّر في جمع الثَّمَرة صحيح، غير أن الثُّمُر هاهنا الأولى أن يحمل على الأموال كما بينا [[وعلى هذا قول أكثر المفسرين. انظر: "جامع البيان" 15/ 245، "إرشاد العقل السليم" 5/ 221، "الدر المصون" 7/ 80.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب