الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ الآية. قال المفسرون: أمر رسولُ الله -ﷺ- عليًّا -رضي الله عنه- أن يتخذ طعامًا ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين ففعل ذلك علي، ودخل عليهم رسول الله -ﷺ- وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى التوحيد، وقال: "قولوا: لا إله إلا الله، لتطيعكم العرب وتدين لكم العجم، فأبوا ذلك عليه" [[في جميع النسخ: (عليهم)، والصواب ما أثبته؛ لأن الضمير يعود على الرسول -ﷺ-.]]. وكانوا يسمعون من النبيّ -ﷺ- ويقولون -بينهم متناجين-: هو ساحرٌ، وهو مسحور، وما أشبه ذلك من القول [[ورد هذا المقطع في "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 243 بنصه.]]، فأخبر الله نبيه -عليه السلام- بذلك، وأنزل عليه: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ﴾ [[ورد بنحوه مختصرًا -ودون ذكر قول النبيّ -ﷺ- في "تفسير الثعلبي" 7/ 110 ب، وورد بنصه -ودون قول النبيّ -ﷺ- في "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 505، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 42، و"الفخر الرازي" 20/ 223 بنصه، و"القرطبي" 10/ 272، ولم أقف على أثر -في كتب أسباب النزول ولا في كتب التفسير المتقدمة المتداولة- غير الثعلبي - بأن الآية نزلت في هذه الحادثة، والمعلوم أن إثبات سبب نزول آية ما يفتقر إلى دليل صحيح. وورد نحوٌ من هذه الحادثة - وفيها قول النبيّ -ﷺ- في سبب نزول صدر سورة (ص)؛ جاء في السيرة أن أشراف قريش جاؤوا أبا طالب في شأن النبيّ -ﷺ- فبعث إليه أبو طالب، فجاءه فقال: يا ابن أخي، هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك، فقال رسول الله -ﷺ-: "يا عم، كلمةٌ واحدةٌ يُعْطُونيها تملكون بها العرب وتدينُ لكم بها العجم"، فقال أبو جهل: نعمْ وأبيك وعَشْر كلمات، قال: تقولون: لا إله إلا الله، فنفروا وقالوا ما حكاه القرآن: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾ [ص: 5]، فأنزل الله صدر سورة (ص). ورواية الطبري فقال أبو طالب: وإلام تدعوهم؟ قال. أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة تدينُ لهم بها العرب ويملكون بها العجم. يفي رواية أحمد والترمذي والبيهقي: "تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجمُ الجزية". قال== الترمذي: هذا حديث حسن، وصححه أحمد شاكر، ورواية الحاكم والواحدي في "أسباب النزول": تَذِلّ، بدل: تدين. قال الحاكم: هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. انظر سيرة النبي لابن هشام 2/ 27، و"المسند" 1/ 227، 362، و"سنن الترمذي" (3232): تفسير، سورة ص، و"تفسير الطبري" ط. شاكر 10/ 553، و"المستدرك " 2/ 108، و"دلائل البيهقي" 2/ 345، و"أسباب النزول" ص 380، و"تفسير ابن كثير" 3/ 50، و"شرح المسند" 2/ 314، وكل الروايات جاءت عن ابن عباس - ما عدا رواية الطبري فهي عن السدّي.]] يحتمل أن تكون التاء زائدة. والمعنى: نحن أعلم بما يسمعون إذ يسمعون إليك، وأنت تقرأ القرآن وتدعوهم إلى الإسلام، أخبر الله تعالى أنه عالمٌ بتلك الحالة، وبذلك الذي كانوا يسمعونه إذ يستمعون إلى الرسول. وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ هُمْ نَجْوَى﴾ قال ابن عباس: يريد يتناجون بينهم بالتكذيب والاستهزاء [[ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 505، بنصه.]] قال أبو عبيدة: نجوى مصدر ناجيت [["مجاز القرآن" 1/ 381، بنصه.]]، وذكرنا هذا الحرف عند قوله: ﴿خَلَصُوا نَجِيًّا﴾ [يوسف: 80]، قال أبو إسحاق: النجوى اسم المصدر، والمعنى: وإذ هم ذَوُو [[في (ع) مطموسة، وفي باقي النسخ (ذوي)، وهو خطأ نحوي ظاهر، والمثبت موافق للمصدر.]] نجوى [["معاني القرآن وإعرابه" 3/ 243 بتصرف يسير.]]؛ أي يتناجون ويُسَارّ [[من الإسرار، وهو: الكتم والإخافاء.]] بعضهم بعضًا. ﴿إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ﴾، قالوا: يعني الوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، وأبا جهل وحويطبًا، وقرناءهم من المشركين [[ورد بنحوه مختصرًا في "تفسير مقاتل" 1/ 215 ب، و"الثعلبي" 7/ 110 ب، و"الماوردي" 3/ 237.]]. ﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ﴾: ما تتبعون، ﴿إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾، كلام المفسرين في هذه الآية يدل على أنهم قالوا هذا القول فيما بينهم مُسَارِّين، فأطلع الله نبيه على ذلك، وعلى هذا يحتاج إلى تقدير محذوف في الآية؛ لأن هؤلاء لم يتبعوا رسول الله -ﷺ- فيصحَّ أن يقال لهم: ﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ﴾، ولكن التقدير: إذ يقول الظالمون، إذا تبعتموه لم تتبعوا إلا رجلاً مسحروًا، وإن كان هذا القول منهم للمسلمين فهو ظاهر ولا يحتاجون إلى إضمار، والمسحور [[في جميع النسخ: (المستحق)، والصواب ما أثبته.]]: الذي قد سُحِرَ فاختلط عليه أمرُه، وأُزيل عن حدّ الاستواء، هذا قول أكثر أهل اللغة [[ورد في "تهذيب اللغة" (سحر) 2/ 1645، بنحوه، انظر: (سحر) في "جمهرة اللغة" 1/ 511، و"المحيط في اللغة" 2/ 479، و"مجمل اللغة" 1/ 487، و"مقاييس اللغة" 3/ 138، و"الصحاح" 2/ 678، و"المحكم" 3/ 131.]]. وقال ابن الأعرابي: المسحور: الذَاهبُ العَقْلِ المُفْسد، وأنشد [[للنابغة الذبياني.]]: فقالتْ: يَمينُ اللهِ أفعَلُ إنّني. . .رأيتُكَ مَسْحورًا يمينُكَ فاجرَهْ [["ديوانه" ص 121، وورد في "تهذيب اللغة" (سحر) 2/ 1640، و"اللسان" (سحر) 4/ 1952.]] قال: وطعامٌ مَسْحورٌ إذا أُفْسِدَ عَمَلُه، وأرضٌ مسحورة: أصابها من المطر أكثرُ مما ينبغي فأفْسَدَها [[ورد في "تهذيب اللغة" (سحر) 2/ 1640، بنصه تقريبًا]]. وقال أبو عبيدة: يريد بشرًا ذا رِئَةٍ [["مجاز القرآن" 1/ 381 - باختصار، وواضح أنه اقتبسه من "الغريب" لابن قتيبة 1/ 256 لوروده بنصه. وبقيةكلام أبي عبيدة- كما في "تفسير القرطبي" 10/ 272 == فهو لا يستغني عن الطعام والشراب، فهو مثلكم وليس بمَلَك، وتقول العرب للجبان: قد انتفخ سَحْره، ولكل من أكل من آدمي وغيره أو شرب مسحور ومُسَحَّر، انظر: "تفسير الطبري" 15/ 96، و"أبي حيان" 6/ 44.]]. قال ابن قتيبة: ولست أدري ما الذي اضطره إلى هذا التفسير المُسْتَكْرَه، وقد سبق التفسير من السلف بما لا استكراه فيه. قال مجاهد في قوله: ﴿رَجُلًا مَسْحُورًا﴾: أي مخدوعًا [[ورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 161، و"السمرقندي" 2/ 271، و"الماوردي" 3/ 247، انظر: "تفسير السمعاني" 3/ 246، و"البغوي" 5/ 98.]]؛ لأن السحر حيلة وخديعة [["الغريب" لابن قتيبة 1/ 256 بنصه.]]. وروى عطاء عن ابن عباس، في قوله: ﴿مَسْحُورًا﴾ قال: يريد مخلوقًا [[أي بشرًا مخلوقًا.]]. وهذا يؤكد قول أبي عبيدة: ذو سحْر [["مجاز القرآن" 1/ 381 بمعناه، والظاهر أن القول مقتبس من "الغريب" لابن قتيبة ص 256 لوروده بنصه]]، ويجوز أن يكون من السَّحْر بمعنى: الغذاء [[وهو قول الليث؛ ورد في "تهذيب اللغة" (سحر) 2/ 1641 بلفظه.]]، ومنه قول امرئ القيس: ونُسْحَرُ بالطَّعام وبالشرابِ [[صدره: أَرَانا مُوْضِعِين لأمْر غَيْب "ديوانه" ص 43، وورد في: "البيان والتبيين" 1/ 198 و"الغريب" لا بن قتيبة 1/ 256، و"جمهرة اللغة" 1/ 511، و"تهذيب اللغة" (سحر) 2/ 1641، "الصحاح" (سحر) 2/ 679، و"المحكم" (سحر) 3/ 132، و"تفسير ابن عطية" 9/ 102، و"ابن الجوزي" 6/ 42، و"اللسان" (سحر) 4/ 1952، وفي بعض المصادر (لحَتْمِ) بدل == (لأمر)، قال ابن بري: (مُوضِعِين): سائرين مسرعين، و (لأمر غيب): يريد الموت، وأنه قد غُيِّب عنا وقتُه، ونحن نُلْهَى عنه بالطعام والشراب؛ فكأنَّما نُخدع.]] والاختيار هو القول الأول؛ لقوله تعالى إخبارًا عن فرعون: ﴿إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا﴾ [الإسراء: 101] لا يجوز أن يكون أراد مخلوقًا، وذاسحْر، وإنما أراد: مخدوعًا، والمشركون كانوا يذهبون إلى أن النبيّ -ﷺ- يُعَلَّم ما يأتي به ويُخْدع بذلك، يدلّ على هذا قوله: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ [النحل: 103]، فلذلك قالوا له: ﴿مَسْحُورًا﴾.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب