قوله تعالى: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ﴾ الآية، أكثر المفسرين على أن المراد بدعوة الحق هاهنا كلمة التوحيد والإخلاص، روى عكرمة عن ابن عباس [[عبد الرزاق 2/ 334، والطبري 13/ 127، والفريابي، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، والبيهقي في "الأسماء والصفات" كما في "الدر" 4/ 100، والثعلبي 7/ 129 ب، والقرطبي 9/ 300، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 485.]]: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ﴾ قال: لا إله إلا الله، وهذا اختيار الفراء [[في (ب) زيادة هاهنا: [فمن دعاه دعا الحق].]]، والزجاج [["معاني القرآن" 2/ 61.]]
وهو قول قتادة [["معاني القرآن وإعرابه" 3/ 143.]]، وابن زيد [[الطبري 13/ 128، والقرطبي 9/ 300، وعبد الرزاق 2/ 334.]]، والمعنى على هذا: لله من خلقه الدعوة الحق، ولكن أضيفت الدعوة إلى الحق لما اختلف اللفظان، وقد ذكرنا مثل هذا، ويجوز أن يكون المعنى: دعوة الدين الحق، وقال الحسن [["زاد المسير" 4/ 317، والقرطبي 9/ 300.]]: الله الحق، وقال في رواية عطاء والضحاك: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ﴾ معناه: هو الذي دعا إلى توحيده والاعتراف بأنه لا شريك له، وتفسير دعوة الحق [[هنا تكرار في (ب) لما سبق فقال: [معناه هو الذي دعا إلى توحيد والاعتراف بأنه لا شريك وتفسير دعوة الحق].]] على هذا القول: له دعاء الحق ة لأنه دعاء إلى [عبادته وتوحيده] [[في (أ)، (ج): (عادته وتوحده).]]، وكان ذلك حقًّا.
قال أبو إسحاق: وجائز أن يكون (دعوة الحق)، أنه من دعا الله موحدًا استجيب له دعاه.
قال أبو بكر: الدعوة على هذا التفسير يريد بها الدعوات فاكتفي من الجمع بالواحد، كقوله: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ [التحريم: 4]، ومعنى الدعوات: دعوات الداعين إياه، يلتمسون الإجابة وهم محقون في ذلك لأنهم سألوا من لا يخيب سائله ويقدر على الإجابة، وإنالة المطلوب، وهذا هو الوجه؛ وهو الأليق بما بعده من سياق الآية؛ لأنه ذكر أن الأصنام لايستجيبون للداعين، فقال: ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ﴾ يعني الأصنام، يدعونها المشركون من دون الله، في قول جميع المفسرين [[الطبري 13/ 128، والثعلبي 7/ 129 ب، و"زاد المسير" 4/ 317، وابن كثير 2/ 556، والقرطبي 9/ 300.]]، وعبّر عنها كما يعبر عن المذكرين من العقلاء؛ لأنهم وصفوا أصنامهم بأوصاف الرجال العقلاء، فخاطبهم الله بما يعقلون وقد ذكرنا هذا عند قوله: ﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ﴾ [الأعراف: 195].
وقوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ﴾ قال ابن عباس: يريد ليس لهم [[(لهم) ساقط من (أ)، (ج).]] ثواب، يعني للداعين إياه، لا ثواب لهم عندها، وقوله تعالى: ﴿إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاه﴾ فُسِّر هذا على ثلاثة أوجه، قال مجاهد [[الطبري 13/ 129، والثعلبي 7/ 129 ب، وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في "الدر" 4/ 101.]]: يدعو الماء بلسانه ويشير إليه بيده؛ فلا يأتيه أبدًا، وهو اختيار أبي إسحاق [["معاني القرآن وإعرابه" 3/ 144.]]؛ لأنه قال معناه: إلا كما يستجاب للذي يبسط كفيه إلى الماء، يدعو الماء إلى فيه، والماء لا يستجيب، فأعلم الله أن دعاءهم الأصنام كدعاء العطشان الماء إلى بلوغ فيه.
﴿وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ﴾ وما الماء ببالغ فاه، بدعوته إياه، والتقدير: إلا كاستجابة باسط كفيه، ويكون المصدر مضافًا إلى المفعول ثم حذف المضاف، الوجه الثاني من التفسير هو مذهب الكلبي [["تنوير المقباس" ص 156.]] وغيره، قال: كماد يده إلى الماء من مكان بعيد وهو مشرف على ذلك الماء فلا يبلغه، ولا يبلغ الماء فاه، وقال عطاء [["زاد المسير" 4/ 317، ورواه الطبري 13/ 129 عن علي -رضي الله عنه-، وأخرجه أبو عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عطاء كما في "الدر" 4/ 101، والثعلبي 7/ 129 ب.]]: كالرجل العطشان الجالس على شفير البئر يمد يده إلى البئر فلا يبلغ قعر البئر، والماء لا يرتفع إلى يده، وهذا الوجه اختيار الفراء [["معاني القرآن" 2/ 61.]]، قال: يعني أن الأصنام لا تجيب داعيها بشيء إلا كما ينال الظمآن المشرف على ماء ليس معه ما يستقي به. فذلك قوله: ﴿إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ﴾ وهذا الوجه كالأوّل، إلا أن في الوجه الأوّل شبهوا بمن يدعو الماء البعيد إلى نفسه والماء لا يستجيب، وفي الوجه الثاني شبهوا بمن يمد يده إلى الماء البعيد ليناله من غير آلة.
الوجه الثالث: هو مذهب أبي عبيد [["مجاز القرآن" 1/ 327.]] وابن قتيبة [["مشكل القرآن وغريبه" لابن قتيبة ص 231.]]، وهو أن العرب يضربون المثل لمن سعى [[في (أ)، (ج): (يبتغي).]] فيما لا يدركه، وتعاطى ما لا يجد منه شيئًا، بالقابض على الماء، وذلك أن القابض على الماء لا يحصل في يده منه شيء، المعنى لا يصير في أيديهم إذا دعوهم إلا ما يصير في يدي من قبض على الماء ليبلغ فاه، وأنشد أبو عبيدة قول ضابئ البُرْجُمِيِّ [[في "مجاز القرآن" 1/ 327، تقدمت ترجمته، وفيه (تسقيه) من غير تاء، وانظر: "مقاييس اللغة" 6/ 109، و"الخزانة" 4/ 80، و"مشكل القرآن وغريبه" ص 231، والطبري 13/ 129، والقرطبي 9/ 301، و"طبقات فحول الشعراء" ص 145، و"تاريخ الطبري" 5/ 137، 7/ 213، و"اللسان" (وسق) 8/ 4836. == والبيت من قصيدة له في السجن، وكان أعد حديدة يريد أن يغتال بها عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وقوله (لم تسقه) من و (سقت الشيء أسقه وسقًا) إذا حملته.]]:
فإنِّي وإيَّاكم وشَوْقًا إليْكُم ... كقابِضِ ماءٍ تَسْتقِيه أنَامِلُه قال أبو عبيدة: تسقه: تجبه.
وقال ابن الأنباري: يجمعه ويسقه يحمله، وأنشد أيضًا [[البيت للأحوص بن محمد الأنصاري في "مجاز القرآن" 1/ 327، والطبري 13/ 129، والقرطبي 9/ 300 (فأصبحت).]]:
فأصْبَحْتُ مِمّا كان بَيْني وبَيْنَها ... من الوُدِّ مِثْلَ القَابِضِ المَاءِ باليَدِ
قال ابن قتيبة: وهذا من الاختصار؛ لأن التقدير: إلا كباسط كفيه إلى الماء ليقبض عليه، أو قابضًا عليه ليبلغ فاه.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء [["تنوير المقباس" ص 156.]]: يريد عبادة الكافرين الأصنام في ضلال، وروى جويبر [[الثعلبي 7/ 130 أ، و"زاد المسير" 4/ 318، والقرطبي 9/ 301.]]: وما دعاء الكافرين ربهم إلا في ضلال؛ لأن أصواتهم محجوبة عن الله، وهذا التفسير لا يليق بما سبق من الآية؛ لأنه ذكر في الآية دعاء الكافرين الأصنام، وهو قوله: ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ﴾،والذم لاحق بذلك الدعاء، وهو دعاهم إياها، ولم يذكر دعاهم الله تعالى، وجويبر ضعيف، والصحيح ما ذكرنا في رواية عطاء، ولعل ما رواه جويبر، رواه في نظير هذه الآية في سورة المؤمن، ﴿وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾ [غافر: 50]، وذلك صحيح المعنى في تلك السورة [[ما رجحه الواحدي هو الصحيح والمناسب لسياق الآية، وهو الذي ذهب إليه الطبري 13/ 131، والثعلبي 7/ 130 أ، ومقاتل كما في "زاد المسير" 4/ 318، وابن كثير 2/ 557، والقرطبي 9/ 301.]].
{"ayah":"لَهُۥ دَعۡوَةُ ٱلۡحَقِّۚ وَٱلَّذِینَ یَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ لَا یَسۡتَجِیبُونَ لَهُم بِشَیۡءٍ إِلَّا كَبَـٰسِطِ كَفَّیۡهِ إِلَى ٱلۡمَاۤءِ لِیَبۡلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَـٰلِغِهِۦۚ وَمَا دُعَاۤءُ ٱلۡكَـٰفِرِینَ إِلَّا فِی ضَلَـٰلࣲ"}