الباحث القرآني

سُورَةُ الِانْشِراحِ مَكِّيَّةٌ وهي ثَمانِي آياتٍ ﷽ ﴿ألَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ ﴿ووَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ﴾ ﴿الَّذِي أنْقَضَ ظَهْرَكَ﴾ ﴿ورَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ ﴿فَإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا﴾ ﴿إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا﴾ ﴿فَإذا فَرَغْتَ فانْصَبْ﴾ ﴿وإلى رَبِّكَ فارْغَبْ﴾ . هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، ومُناسَبَتُها لِما قَبْلَها ظاهِرَةٌ، وشَرْحُ الصَّدْرِ: تَنْوِيرُهُ بِالحِكْمَةِ وتَوْسِيعُهُ لِتَلَقِّي ما يُوحى إلَيْهِ، قالَهُ الجُمْهُورُ، والأوْلى العُمُومُ لِهَذا ولِغَيْرِهِ مِن مُقاساةِ الدُّعاءِ إلى اللَّهِ تَعالى وحْدَهُ، واحْتِمالِ المَكارِهِ مِن إذايَةِ الكُفّارِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وجَماعَةٌ: إشارَةٌ إلى شَقِّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ صَدْرَهُ في وقْتِ صِغَرِهِ، ودَخَلَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهامِ عَلى النَّفْيِ، فَأفادَ التَّقْرِيرَ عَلى هَذِهِ النِّعْمَةِ وصارَ المَعْنى: قَدْ شَرَحْنا لَكَ صَدْرَكَ، ولِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ الماضِي وهو وضَعْنا، وهَذا نَظِيرُ قَوْلِهِ: ﴿ألَمْ نُرَبِّكَ فِينا ولِيدًا ولَبِثْتَ﴾ [الشعراء: ١٨]، وقَرَأ الجُمْهُورُ: (نَشْرَحْ) بِجَزْمِ الحاءِ لِدُخُولِ الجازِمِ، وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ بِفَتْحِها، وخَرَّجَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ في كِتابِهِ عَلى أنَّهُ ألَمْ نَشْرَحَنْ، فَأبْدَلَ مِنَ النُّونِ ألِفًا، ثُمَّ حَذَفَها تَخْفِيفًا، فَيَكُونُ مِثْلَ ما أنْشَدَهُ أبُو زَيْدٍ في نَوادِرِهِ مِن قَوْلِ الرّاجِزِ: ؎مِن أيِّ يَوْمَيَّ مِنَ المَوْتِ أفِرُّ أيْوَمٍ لَمْ يُقَدَّرَ أمْ يَوْمٍ قُدِّرَ وقالَ الشّاعِرُ: ؎أضْرِبَ عَنْكَ الهُمُومَ طارِقَها ∗∗∗ ضَرْبَكَ بِالسَّيْفِ قَوْنَسَ الفَرَسِ (p-٤٨٨)وقالَ: قِراءَةٌ مَرْذُولَةٌ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقَدْ ذَكَرَها عَنْ أبِي جَعْفَرٍ المَنصُورِ، وقالُوا: لَعَلَّهُ بَيَّنَ الحاءَ، وأشْبَعَها في مَخْرَجِها فَظَنَّ السّامِعُ أنَّهُ فَتَحَها. انْتَهى. ولِهَذِهِ القِراءَةِ تَخْرِيجٌ أحْسَنُ مِن هَذا كُلِّهِ، وهو أنَّهُ لُغَةٌ لِبَعْضِ العَرَبِ حَكاها اللِّحْيانِيُّ في نَوادِرِهِ، وهي الجَزْمُ بِلَنْ والنَّصْبُ بِلَمْ، عَكْسُ المَعْرُوفِ عِنْدَ النّاسِ، وأنْشَدَ قَوْلَ عائِشَةَ بِنْتِ الأعْجَمِ تَمْدَحُ المُخْتارَ بْنِ أبِي عُبَيْدٍ، وهو القائِمُ بِثَأْرِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما: ؎قَدْ كانَ سَمْكُ الهُدى يَنْهَدُّ قائِمُهُ ∗∗∗ حَتّى أُتِيحَ لَهُ المُخْتارُ فانْعَمَدا ؎فِي كُلِّ ما هَمَّ أمْضى رَأْيَهُ ∗∗∗ قُدُمًا ولَمْ يُشاوِرَ في إقْدامِهِ أحَدا بِنَصْبِ (يُشاوِرَ)، وهَذا مُحْتَمِلٌ لِلتَّخْرِيجَيْنِ، وهو أحْسَنُ مِمّا تَقَدَّمَ ﴿ووَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ﴾ كِنايَةٌ عَنْ عِصْمَتِهِ مِنَ الذُّنُوبِ وتَطْهِيرِهِ مِنَ الأدْناسِ، عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالحَطِّ عَلى سَبِيلِ المُبالَغَةِ في انْتِفاءِ ذَلِكَ، كَما يَقُولُ القائِلُ: رَفَعْتُ عَنْكَ مَشَقَّةَ الزِّيارَةِ، لِمَن لَمْ يَصْدُرْ مِنهُ زِيارَةٌ، عَلى طَرِيقِ المُبالَغَةِ في انْتِفاءِ الزِّيارَةِ مِنهُ. وقالَ أهْلُ اللُّغَةِ: أنْقَضَ الحِمْلُ ظَهْرَ النّاقَةِ، إذا سَمِعْتَ لَهُ صَرِيرًا مِن شِدَّةِ الحِمْلِ، وسَمِعْتُ نَقِيضَ المِرْجَلِ: أيْ صَرِيرَهُ، قالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْداسٍ: ؎وأنْقَضَ ظَهْرِي ما تَطَوَّيْتُ مِنهم ∗∗∗ وكُنْتُ عَلَيْهِمْ مُشْفِقًا مُتَحَنِّنا وقالَ جَمِيلٌ: ؎وحَتّى تَداعَتْ بِالنَّقِيضِ حِبالُهُ ∗∗∗ وهَمَّتْ بَوانِي زَوْرِهِ أنْ تَحَطَّما والنَّقِيضُ: صَوْتُ الِانْقِضاضِ والِانْفِكاكِ ﴿ورَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ هو أنْ قَرَنَهُ بِذِكْرِهِ تَعالى في كَلِمَةِ الشَّهادَةِ والأذانِ والإقامَةِ والتَّشَهُّدِ والخُطَبِ، وفي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ القُرْآنِ، وفي تَسْمِيَتِهِ نَبِيَّ اللَّهِ ورَسُولَ اللَّهِ، وذِكْرِهِ في كُتُبِ الأوَّلِينَ، والأخْذِ عَلى الأنْبِياءِ وأُمَمِهِمْ أنْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وقالَ حَسّانُ: ؎أغَرُّ عَلَيْهِ لِلنُّبُوَّةِ خاتَمُ ∗∗∗ مِنَ اللَّهِ مَشْهُودٌ يَلُوحُ ويَشْهَدُ ؎وضَمَّ الإلَهُ اسْمَ النَّبِيِّ إلى اسْمِهِ ∗∗∗ إذا قالَ في الخَمْسِ المُؤَذِّنُ أشْهَدُ وتَعْدِيدُ هَذِهِ النِّعَمِ عَلَيْهِ ﷺ، يَقْتَضِي أنَّهُ تَعالى كَما أحْسَنَ إلَيْكَ بِهَذِهِ المَراتِبِ، فَإنَّهُ يُحْسِنُ إلَيْكَ بِظَفَرِكَ عَلى أعْدائِكَ ويَنْصُرُكَ عَلَيْهِمْ، وكانَ الكُفّارُ أيْضًا يُعَيِّرُونَ المُؤْمِنِينَ بِالفَقْرِ، فَذَكَّرَهُ هَذِهِ النِّعَمَ وقَوّى رَجاءَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا﴾ أيْ مَعَ الضِّيقِ فَرَجًا، ثُمَّ كَرَّرَ ذَلِكَ مُبالَغَةً في حُصُولِ اليُسْرِ، ولَمّا كانَ اليُسْرُ يَعْتَقِبُ العُسْرَ مِن غَيْرِ تَطاوُلِ أزْمانٍ، جُعِلَ كَأنَّهُ مَعَهُ، وفي ذَلِكَ تَبْشِيرُ الرَّسُولِ ﷺ بِحُصُولِ اليُسْرِ عاجِلًا، والظّاهِرُ أنَّ التَّكْرارَ لِلتَّوْكِيدِ، كَما قُلْنا، وقِيلَ: تَكَرَّرَ اليُسْرُ بِاعْتِبارِ المَحَلِّ، فَيُسْرٌ في الدُّنْيا ويُسْرٌ في الآخِرَةِ، وقِيلَ: مَعَ كُلِّ عُسْرٍ يُسْرانِ مِن حَيْثُ إنَّ العُسْرَ مُعَرَّفٌ بِالعَهْدِ، واليُسْرَ مُنَكَّرٌ، فالأوَّلُ غَيْرُ الثّانِي، وفي الحَدِيثِ: (لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ) . وضَمَّ سِينَ (العُسُرِ)، (ويُسُرًا) فِيهِنَّ ابْنُ وثّابٍ وأبُو جَعْفَرٍ وعِيسى، وسَكَّنَهُما الجُمْهُورُ. ولَمّا عَدَّدَ تَعالى نِعَمَهُ السّابِقَةَ عَلَيْهِ، ووَعَدَهُ بِتَيْسِيرِ ما عَسَّرَهُ أمَرَهُ بِأنْ يَدْأبَ في العِبادَةِ إذا فَرَغَ مِن مِثْلِها ولا يَفْتُرَ، وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: ﴿فَإذا فَرَغْتَ﴾ مِن فَرْضِكَ ﴿فانْصَبْ﴾ في التَّنَفُّلِ عِبادَةً لِرَبِّكَ، وقالَ أيْضًا: ﴿فانْصَبْ﴾ في قِيامِ اللَّيْلِ، وقالَ مُجاهِدٌ: قالَ ﴿فَإذا فَرَغْتَ﴾ مِن شُغْلِ دُنْياكَ ﴿فانْصَبْ﴾ في عِبادَةِ رَبِّكَ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ: ﴿فَإذا فَرَغْتَ﴾ مِنَ الصَّلاةِ ﴿فانْصَبْ﴾ في الدُّعاءِ، وقالَ الحَسَنُ: ﴿فَإذا فَرَغْتَ﴾ مِنَ الجِهادِ ﴿فانْصَبْ﴾ في العِبادَةِ، ويُعْتَرَضُ قَوْلُهُ هَذا بِأنَّ الجِهادَ فُرِضَ بِالمَدِينَةِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿فَرَغْتَ﴾ بِفَتْحِ الرّاءِ، وأبُو السَّمّالِ: بِكَسْرِها، وهي لُغَةٌ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَيْسَتْ بِفَصِيحَةٍ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: (p-٤٨٩)فانْصَبْ ) بِسُكُونِ الباءِ خَفِيفَةً، وقَوْمٌ: بِشَدِّها مَفْتُوحَةً مِنَ الِانْصابِ، وقَرَأ آخَرُونَ مِنَ الإمامِيَّةِ: (فانْصِبْ) بِكَسْرِ الصّادِ بِمَعْنى: إذا فَرَغْتَ مِنَ الرِّسالَةِ فانْصِبْ خَلِيفَةً. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهي قِراءَةٌ شاذَّةٌ ضَعِيفَةُ المَعْنى لَمْ تَثْبُتْ عَنْ عالِمٍ. انْتَهى. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿فارْغَبْ﴾ أمْرٌ مِن رَغِبَ ثُلاثِيًّا: أيِ اصْرِفْ وجْهَ الرَّغَباتِ إلَيْهِ لا إلى سِواهُ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: (فَرَغِّبْ)، أمْرٌ مِن رَغَّبَ بِشَدِّ الغَيْنِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب