الباحث القرآني
﴿وأنْتَ حِلٌّ﴾ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ تُفِيدُ تَعْظِيمَ المُقْسَمِ بِهِ، أيْ فَأنْتَ مُقِيمٌ بِهِ، وهَذا هو الظّاهِرُ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وجَماعَةٌ: مَعْناهُ: وأنْتَ حَلالٌ بِهَذا البَلَدِ، يَحِلُّ لَكَ فِيهِ قَتْلُ مَن شِئْتَ، وكانَ هَذا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا يَتَرَكَّبُ عَلى قَوْلِ مَن قالَ: لا نافِيَةٌ، أيْ إنَّ هَذا البَلَدَ لا يُقْسِمُ اللَّهُ بِهِ، وقَدْ جاءَ أهْلُهُ بِأعْمالٍ تُوجِبُ الإحْلالَ إحْلالَ حُرْمَتِهِ. وقالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ سَعْدٍ: يَعْنِي ﴿وأنْتَ حِلٌّ بِهَذا البَلَدِ﴾ جَعَلُوكَ حَلالًا مُسْتَحَلَّ الأذى والقَتْلِ والإخْراجِ، وهَذا القَوْلُ بَدَأ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وقالَ: وفِيهِ بَعْثٌ عَلى احْتِمالِ ما كانَ يُكابِدُ مِن أهْلِ مَكَّةَ، وتَعَجُّبٌ مِن حالِهِمْ في عَداوَتِهِ، أوْ سَلّى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، بِالقَسَمِ بِبَلَدِهِ عَلى أنَّ الإنْسانَ لا يَخْلُو مِن مُقاساةِ الشَّدائِدِ، واعْتَرَضَ بِأنْ وعَدَهُ فَتْحَ مَكَّةَ تَتْمِيمًا لِلتَّسْلِيَةِ والتَّنْفِيسِ عَنْهُ، فَقالَ: وأنْتَ حِلٌّ بِهِ في المُسْتَقْبَلِ تَصْنَعُ فِيهِ ما تُرِيدُهُ مِنَ القَتْلِ والأسْرِ.
ثُمَّ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَعْدَ كَلامٍ طَوِيلٍ: فَإنْ قُلْتَ: أيْنَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: ﴿وأنْتَ حِلٌّ﴾ في مَعْنى الِاسْتِقْبالِ ؟ قُلْتُ: قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿إنَّكَ مَيِّتٌ وإنَّهم مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: ٣٠] واسْعٌ في كَلامِ العِبادِ، تَقُولُ لِمَن تَعِدُهُ الإكْرامَ والحِبا: وأنْتَ مُكْرَمٌ مَحْبُوٌّ، وهو في كَلامِ اللَّهِ أوْسَعُ؛ لِأنَّ الأحْوالَ المُسْتَقْبَلَةَ عِنْدَهُ كالحاضِرَةِ المُشاهَدَةِ، وكَفاكَ دَلِيلًا قاطِعًا عَلى أنَّهُ لِلِاسْتِقْبالِ، وأنَّ تَفْسِيرَهُ بِالحالِ مُحالٌ، إنَّ السُّورَةَ بِالِاتِّفاقِ مَكِّيَّةٌ، وأيْنَ الهِجْرَةُ مِن وقْتِ نُزُولِها ؟ فَما بالُ الفَتْحِ ؟ انْتَهى. وحَمْلُهُ عَلى أنَّ الجُمْلَةَ اعْتِراضِيَّةٌ لا يَتَعَيَّنُ، وقَدْ ذَكَرْنا أوَّلًا أنَّها جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ، وبَيَّنّا حُسْنَ مَوْقِعِها، وهي حالٌ مُقارِنَةٌ، لا مُقَدَّرَةٌ ولا مَحْكِيَّةٌ، فَلَيْسَتْ مِنِ الإخْبارِ بِالمُسْتَقْبَلِ، وأمّا سُؤالُهُ والجَوابُ، فَهَذا لا يَسْألُهُ مَن لَهُ أدْنى تَعَلُّقٍ بِالنَّحْوِ؛ لِأنَّ الأخْبارَ قَدْ تَكُونُ بِالمُسْتَقْبَلاتِ، وإنَّ اسْمَ الفاعِلِ وما يَجْرِي مَجْراهُ حالَةَ إسْنادِهِ أوِ الوَصْفِ بِهِ لا يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلى الحالِ، بَلْ يَكُونُ لِلْماضِي تارَةً، ولِلْحالِ أُخْرى، ولِلْمُسْتَقْبَلِ أُخْرى، وهَذا مِن مَبادِئِ عِلْمِ النَّحْوِ. وأمّا قَوْلُهُ: وكَفاكَ دَلِيلًا قاطِعًا. . . إلَخْ، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأنّا لَمْ نَحْمِلْ ﴿وأنْتَ حِلٌّ﴾ عَلى أنَّهُ يَحِلُّ لَكَ ما تَصْنَعُ في مَكَّةَ مِنَ الأسْرِ والقَتْلِ في وقْتِ نُزُولِها بِمَكَّةَ فَتَنافَيا، بَلْ حَمَلْناهُ عَلى أنَّهُ مُقِيمٌ بِها خاصَّةً، وهو (p-٤٧٥)وقْتُ النُّزُولِ كانَ مُقِيمًا بِها ضَرُورَةً، وأيْضًا فَما حَكاهُ مِنَ الِاتِّفاقِ عَلى أنَّها نَزَلَتْ بِمَكَّةَ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وقَدْ حُكِيَ الخِلافُ فِيها عَنْ قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ، ولا يَدُلُّ قَوْلُهُ: ﴿وأنْتَ حِلٌّ بِهَذا البَلَدِ﴾ عَلى ما ذَكَرُوهُ مِن أنَّ المَعْنى يَسْتَحِلُّ إذْ ذاكَ، ولا عَلى أنَّكَ تَسْتَحِلُّ فِيهِ أشْياءَ، بَلِ الظّاهِرُ ما ذَكَرْناهُ أوَّلًا مِن أنَّهُ تَعالى أقْسَمَ بِها لِما جَمَعَتْ مِنَ الشَّرَفَيْنِ، شَرَفِها بِإضافَتِها إلى اللَّهِ تَعالى، وشَرَفِها بِحُضُورِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وإقامَتِهِ فِيها، فَصارَتْ أهْلًا لِأنْ يُقْسَمَ بِها.
والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ووالِدٍ وما ولَدَ﴾ لا يُرادُ بِهِ مُعَيَّنٌ، بَلْ يَنْطَلِقُ عَلى كُلِّ والِدٍ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ذَلِكَ، قالَ: هو عَلى العُمُومِ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الحَيَوانِ. وقالَ مُجاهِدٌ: آدَمُ وجَمِيعُ ولَدِهِ. وقِيلَ: والصّالِحِينَ مِن ذُرِّيَّتِهِ. وقِيلَ: نُوحٌ وذُرِّيَّتُهُ. وقالَ أبُو عِمْرانَ الحَوْفِيُّ: إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ، وجَمِيعُ ولَدِهِ. وقِيلَ: ووالِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وما ولَدَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ. وقالَ الطَّبَرِيُّ والماوَرْدِيُّ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الوالِدُ النَّبِيَّ ﷺ، لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ، وما ولَدَ أمَّتُهُ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ: «(إنَّما أنا لَكم بِمَنزِلَةِ الوالِدِ)» ولِقِراءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: (وأزْواجُهُ أُمَّهاتُهم وهو أبٌ لَهم) فَأقْسَمَ تَعالى بِهِ وبِأُمَّتِهِ بَعْدَ أنْ أقْسَمَ بِبَلَدِهِ مُبالَغَةً في شَرَفِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: ما المُرادُ بِوالِدٍ وما ولَدَ ؟ قُلْتُ: رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ومَن ولَدَهُ، أقْسَمَ بِبَلَدِهِ الَّذِي هو مَسْقَطُ رَأْسِهِ، وحَرَمُ أبِيهِ إبْراهِيمَ، ومَنشَأُ أبِيهِ إسْماعِيلَ عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ، وبِمَن ولَدَهُ وبِهِ، فَإنْ قُلْتَ: لِمَ نَكَّرَ ؟ قُلْتُ: لِلْإبْهامِ المُسْتَقِلِّ بِالمَدْحِ والتَّعَجُّبِ، فَإنْ قُلْتَ: هَلّا قِيلَ: ومَن ولَدَ ؟ قُلْتُ: فِيهِ ما في قَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ أعْلَمُ بِما وضَعَتْ﴾ [آل عمران: ٣٦] أيْ بِأيِّ شَيْءٍ وضَعَتْ، يَعْنِي مَوْضُوعًا عَجِيبَ الشَّأْنِ. انْتَهى. وقالَ الفَرّاءُ: وصَلَحَ ما لِلنّاسِ، كَقَوْلِهِ: ﴿ما طابَ لَكُمْ﴾ [النساء: ٣]، ﴿وما خَلَقَ الذَّكَرَ والأُنْثى﴾ [الليل: ٣] وهو الخالِقُ لِلذَّكَرِ والأُنْثى. انْتَهى. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وعِكْرِمَةُ وابْنُ جُبَيْرٍ: المُرادُ بِالوالِدِ الَّذِي يُولَدُ لَهُ، وبِما ولَدَ العاقِرُ الَّذِي لا يُولَدُ لَهُ، جَعَلُوا ما نافِيَةً، فَتَحْتاجُ إلى تَقْدِيرِ مَوْصُولٍ يَصِحُّ بِهِ هَذا المَعْنى، كَأنَّهُ قالَ: ووالِدٍ والَّذِي ما ولَدَ، وإضْمارُ المَوْصُولِ لا يَجُوزُ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ.
{"ayahs_start":2,"ayahs":["وَأَنتَ حِلُّۢ بِهَـٰذَا ٱلۡبَلَدِ","وَوَالِدࣲ وَمَا وَلَدَ"],"ayah":"وَأَنتَ حِلُّۢ بِهَـٰذَا ٱلۡبَلَدِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق