الباحث القرآني

(p-٦٨)﴿المُنافِقُونَ والمُنافِقاتُ بَعْضُهم مِن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمُنْكَرِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ ويَقْبِضُونَ أيْدِيَهم نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهم إنَّ المُنافِقِينَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾: بَيَّنَ تَعالى أنَّ ذُكُورَهم وإناثَهم لَيْسُوا مِنَ المُؤْمِنِينَ كَما قالَ تَعالى: ﴿ويَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنَّهم لَمِنكم وما هم مِنكُمْ﴾ [التوبة: ٥٦] بَلْ بَعْضُهم مِن بَعْضٍ في الحُكْمِ والمَنزِلَةِ والنِّفاقِ، فَهم عَلى دِينٍ واحِدٍ. ولَيْسَ المَعْنى عَلى التَّبْعِيضِ حَقِيقَةً؛ لِأنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ ووَصَفَهم بِخِلافِ ما عَلَيْهِ المُؤْمِنُونَ مِن أنَّهم يَأْمُرُونَ بِالمُنْكِرِ وهو الكُفْرُ وعِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ والمَعاصِي، ويَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ؛ لِأنَّ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ لَمْ يَكُونُوا أهْلَ قُدْرَةٍ ولا أفْعالٍ ظاهِرَةٍ، وذَلِكَ بِظُهُورِ الإسْلامِ وعِزَّتِهِ. وقَبْضُ الأيْدِي عِبارَةٌ عَنْ عَدَمِ الإنْفاقِ في سَبِيلِ اللَّهِ، قالَهُ الحَسَنُ. وقالَ قَتادَةُ: عَنْ كُلِّ خَيْرٍ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: عَنِ الجِهادِ وحَمْلِ السِّلاحِ في قِتالِ أعْداءِ الدِّينِ. وقالَ سُفْيانُ: عَنِ الرَّفْعِ في الدُّعاءِ. وقِيلَ: ذَلِكَ كِنايَةٌ عَنِ الشُّحِّ في النَّفَقاتِ في المَبارِّ والواجِباتِ، والنِّسْيانُ هُنا التَّرْكُ. قالَ قَتادَةُ: تَرَكُوا طاعَةَ اللَّهِ وطاعَةَ رَسُولِهِ فَنَسِيَهم، أيْ: تَرَكَهم مِنَ الخَيْرِ، أمّا مِنَ الشَّرِّ فَلَمْ يَنْسَهم. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أغْفَلُوا ذِكْرَهُ فَنَسِيَهم، تَرَكَهم مِن رَحْمَتِهِ وفَضْلِهِ، ويُعَبَّرُ بِالنِّسْيانِ عَنِ التَّرْكِ مُبالَغَةً في أنَّهُ لا يَخْطُرُ ذَلِكَ بِبالٍ. (هُمُ الفاسِقُونَ)، أيْ: هُمُ الكامِلُونَ في الفِسْقِ الَّذِي هو التَّمَرُّدُ في الكُفْرِ والِانْسِلاخُ مِن كُلِّ خَيْرٍ، وكَفى المُسْلِمَ زاجِرًا أنْ يُلِمَّ بِما يُكْسِبُ هَذا الِاسْمَ الفاحِشَ الَّذِي وصَفَ اللَّهُ بِهِ المُنافِقِينَ. ﴿وعَدَ اللَّهُ المُنافِقِينَ والمُنافِقاتِ والكُفّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هي حَسْبُهم ولَعَنَهُمُ اللَّهُ ولَهم عَذابٌ مُقِيمٌ﴾: الكُفّارُ هُنا المُعْلِنُونَ بِالكُفْرِ، و(خالِدِينَ فِيها) حالٌ مُقَدَّرَةٌ؛ لِأنَّ الخُلُودَ لَمْ يُقارِنِ الوَعْدَ. و(حَسْبُهم) كافِيهم، وذَلِكَ مُبالَغَةٌ في عَذابِهِمْ، إذْ عَذابُهم شَيْءٌ لا يُزادُ عَلَيْهِ، و(لَعَنَهم) أهانَهم مَعَ التَّعْذِيبِ وجَعَلَهم مَذْمُومِينَ مُلْحَقِينَ بِالشَّياطِينِ المَلاعِينِ، كَما عَظَّمَ أهْلَ الجَنَّةِ وألْحَقَهم بِالمَلائِكَةِ المُقَرَّبِينَ. (مُقِيمٌ): مُؤَبَّدٌ لا نَقْلَةَ فِيهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يُرِيدَ: ولَهم عَذابٌ مُقِيمٌ مَعَهم في العاجِلِ لا يَنْفَكُّونَ عَنْهُ، وهو ما يُقاسُونَهُ مِن تَعَبِ النِّفاقِ. والظّاهِرُ المُخالِفُ لِلْباطِنِ خَوْفًا مِنَ المُسْلِمِينَ، وما يَحْذَرُونَهُ أبَدًا مِنَ الفَضِيحَةِ ونُزُولِ العَذابِ إنِ اطُّلِعَ عَلى أسْرارِهِمْ. ﴿كالَّذِينَ مِن قَبْلِكم كانُوا أشَدَّ مِنكم قُوَّةً وأكْثَرَ أمْوالًا وأوْلادًا فاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكم كَما اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكم بِخَلاقِهِمْ وخُضْتُمْ كالَّذِي خاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أعْمالُهم في الدُّنْيا والآخِرَةِ وأُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ﴾: هَذا التِفاتٌ مِن ضَمِيرِ الغَيْبَةِ إلى ضَمِيرِ الخِطابِ. قالَ الفَرّاءُ: التَّشْبِيهُ مِن جِهَةِ الفِعْلِ، أيْ: فَعَلْتُمْ كَأفْعالِ الَّذِينَ مِن قَبْلِكم، فَتَكُونُ الكافُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ. وقالَ الزَّجّاجُ: المَعْنى وعَدَ كَما وعَدَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكم، فَهو مُتَعَلِّقٌ بِوَعَدَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وفي هَذا قَلَقٌ. وقالَ أبُو البَقاءِ: ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً بِـ (يَسْتَهْزِئُونَ)، وهَذا فِيهِ بُعْدٌ. وقِيلَ: في مَوْضِعِ رَفْعٍ، التَّقْدِيرُ: أنْتُمْ كالَّذِينَ. والتَّشْبِيهُ وقَعَ في الِاسْتِمْتاعِ والخَوْضِ. وقَوْلُهُ: (كانُوا أشَدَّ) تَفْسِيرٌ لِشَبَهِهِمْ بِهِمْ، وتَمْثِيلٌ لِفِعْلِهِمْ بِفِعْلِهِمْ. والخَلاقُ: النَّصِيبُ، أيْ: ما قُدِّرَ لَهم. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: أيُّ فائِدَةٍ في قَوْلِهِ: ﴿فاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ﴾، وقَوْلُهُ: ﴿كَما اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكم بِخَلاقِهِمْ﴾ (p-٦٩)مُغْنٍ عَنْهُ، كَما أغْنى ﴿كالَّذِي خاضُوا﴾ ؟ قُلْتُ: فائِدَتُهُ أنْ قَدَّمَ الأوَّلِينَ بِالِاسْتِمْتاعِ ما أُوتُوا مِن حُظُوظِ الدُّنْيا ورِضاهم بِها، والتِهائِهِمْ، فَشَبَّهُوا بِهِمُ الفانِيَةَ عَنِ النَّظَرِ في العاقِبَةِ وطَلَبِ الفَلاحِ في الآخِرَةِ، وأنْ يُخَسَّسَ أمْرُ الِاسْتِمْتاعِ ويُهَجَّنَ أمْرَ الرّاضِي بِهِ، ثُمَّ شَبَّهَ بَعْدَ ذَلِكَ حالَ المُخاطَبِينَ بِحالِهِمْ؛ كَما يُرِيدُ أنْ يُنَبِّهَ بَعْضَ الظَّلَمَةِ عَلى سَماجَةِ فِعْلِهِ فَيَقُولُ: أنْتَ مِثْلُ فِرْعَوْنَ كانَ يَقْتُلُ بِغَيْرِ جُرْمٍ ويُعَذِّبُ ويَعْسِفُ، وأنْتَ تَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِهِ. وأمّا ﴿وخُضْتُمْ كالَّذِي خاضُوا﴾ فَمَعْطُوفٌ عَلى ما قَبْلُهُ مُسْتَنِدٌ إلَيْهِ مُسْتَغْنٍ بِإسْنادِهِ إلَيْهِ عَنْ تِلْكَ المُقَدِّمَةِ. انْتَهى. يَعْنِي: اسْتَغْنى عَنْ أنْ يَكُونَ التَّرْكِيبُ: وخاضُوا فَخُضْتُمْ كالَّذِي خاضُوا. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كانُوا أشَدَّ مِنكم وأعْظَمَ فَعَصَوْا فَهَلَكُوا، فَأنْتُمْ أحْرى بِالإهْلاكِ لِمَعْصِيَتِكم وضَعْفِكم، والمَعْنى: عَجَّلُوا حَظَّهم في دُنْياهم، وتَرَكُوا بابَ الآخِرَةِ، فاتَّبَعْتُمُوهم أنْتُمْ. انْتَهى. ولَمّا ذَكَرَ تَشْبِيهَهم بِمَن قَبْلَهم وذَكَرَ ما كانُوا فِيهِ مِن شِدَّةِ القُوَّةِ وكَثْرَةِ الأوْلادِ، واسْتِمْتاعِهِمْ بِما قُدِّرَ لَهم مِنَ الأنْصِباءِ؛ شَبَّهَ اسْتِمْتاعَ المُنافِقِينَ بِاسْتِمْتاعِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ، وأبْرَزَهم بِالِاسْمِ الظّاهِرِ فَقالَ: ﴿كَما اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكم بِخَلاقِهِمْ﴾، ولَمْ يَكُنِ التَّرْكِيبُ (كَما اسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلى التَّحْقِيرِ، لِأنَّهُ كَما يَدُلُّ بِإعادَةِ الظّاهِرِ مَكانَ المُضْمَرِ عَلى التَّفْخِيمِ والتَّعْظِيمِ، كَذَلِكَ يَدُلُّ بِإعادَتِهِ عَلى التَّحْقِيرِ والتَّصْغِيرِ لِشَأْنِ المَذْكُورِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ياأبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا﴾ [مريم: ٤٤] وكَقَوْلِهِ: ﴿إنَّ المُنافِقِينَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ ولَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ: إنَّهُ كانَ، ولا: إنَّهم هم. و(خُضْتُمْ): أيْ دَخَلْتُمْ في اللَّهْوِ والباطِلِ، وهو مُسْتَعارٌ مِنَ الخَوْضِ في الماءِ، ولا يُسْتَعْمَلُ إلّا في الباطِلِ؛ لِأنَّ التَّصَرُّفَ في الحَقِّ إنَّما هو عَلى تَرْتِيبٍ ونِظامٍ، وأُمُورُ الباطِلِ إنَّما هي خَوْضٌ. ومِنهُ: رُبَّ مُتَخَوِّضٍ في مالِ اللَّهِ لَهُ النّارُ يَوْمَ القِيامَةِ. ﴿كالَّذِي خاضُوا﴾ أيْ: كالخَوْضِ الَّذِي خاضُوا، قالَهُ الفَرّاءُ. وقِيلَ: كالخَوْضِ الَّذِينَ خاضُوا. وقِيلَ: النُّونُ مَحْذُوفَةٌ، أيْ: كالَّذِينَ خاضُوا، أيْ كَخَوْضِ الَّذِينَ. وقِيلَ: الَّذِي مَعَ ما بَعْدَها يُسْبَكُ مِنهُما مَصْدَرٌ، أيْ: كَخَوْضِهِمْ. والظّاهِرُ أنَّ (أُولَئِكَ) إشارَةٌ إلى الَّذِينَ وصَفَهم بِالشِّدَّةِ وكَثْرَةِ الأمْوالِ والأوْلادِ، والمَعْنى: وأنْتُمْ كَذَلِكَ يُحْبِطُ أعْمالَكم. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِأُولَئِكَ المُنافِقِينَ المُعاصِرِينَ لِمُحَمَّدٍ ﷺ، ويَكُونُ الخِطابُ لِمُحَمَّدٍ ﷺ، وفي ذَلِكَ خُرُوجٌ مِن خِطابٍ إلى خِطابٍ غَيْرِ الأوَّلِ. وقَوْلُهُ: (في الدُّنْيا) ما يُصِيبُهم في الدُّنْيا مِنَ التَّعَبِ وفَسادِ أعْمالِهِمْ، وفي الآخِرَةِ نارٌ لا تَنْفَعُ ولا يَقَعُ عَلَيْها جَزاءٌ. ويُقَوِّي الإشارَةَ بِـ (أُولَئِكَ) إلى المُنافِقِينَ - قَوْلُهُ في الآيَةِ المُسْتَقْبَلَةِ (ألَمْ يَأْتِهِمْ) فَتَأمَّلْهُ. انْتَهى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿حَبِطَتْ أعْمالُهم في الدُّنْيا والآخِرَةِ﴾، نَقِيضُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وآتَيْناهُ أجْرَهُ في الدُّنْيا وإنَّهُ في الآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ﴾ [العنكبوت: ٢٧] . ﴿ألَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وعادٍ وثَمُودَ وقَوْمِ إبْراهِيمَ وأصْحابِ مَدْيَنَ والمُؤْتَفِكاتِ أتَتْهم رُسُلُهم بِالبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهم ولَكِنْ كانُوا أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ﴾: لَمّا شَبَّهَ المُنافِقِينَ بِالكُفّارِ المُتَقَدِّمِينَ في الرَّغْبَةِ في الدُّنْيا وتَكْذِيبِ الأنْبِياءِ، وكانَ لَفْظُ ﴿الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ فِيهِ إبْهامٌ؛ نَصَّ عَلى طَوائِفَ بِأعْيانِها سِتَّةٍ؛ لِأنَّهم كانَ عِنْدَهم شَيْءٌ مِن أنْبائِهِمْ، وكانَتْ بِلادُهم قَرِيبَةً مِن بِلادِ العَرَبِ، وكانُوا أكْثَرَ الأُمَمِ عَدَدًا، وأنْبِياؤُهم أعْظَمَ الأنْبِياءِ: نُوحٌ أوَّلُ الرُّسُلِ، وإبْراهِيمُ الأبُ الأقْرَبُ لِلْعَرَبِ، وما يَلِيها مِنَ الأُمَمِ مُقارِبُونَ لَهم في الشِّدَّةِ وكَثْرَةِ المالِ والوَلَدِ. فَقَوْمُ نُوحٍ أُهْلِكُوا بِالغَرَقِ، وعادٌ بِالرِّيحِ، وثَمُودُ بِالصَّيْحَةِ، وقَوْمُ إبْراهِيمَ بِسَلْبِ النِّعْمَةِ عَنْهم، حَتّى سُلِّطَتِ البَعُوضَةُ عَلى نَمْرُودَ مَلِكِهِمْ، وأصْحابُ مَدْيَنَ بِعَذابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ، والمُؤْتَفِكاتُ بِجَعْلِ أعالِي أرْضِها أسافِلَ وإمْطارِ الحِجارَةِ عَلَيْهِمْ. قالَ الواحِدِيُّ: مَعْنى الِائْتِفاكِ الِانْقِلابُ، أفَكْتُهُ فائْتَفَكَ، أيْ: قَلَبْتُهُ فانْقَلَبَ. والمُؤْتَفِكاتُ صِفَةٌ لِلْقُرى الَّتِي ائْتَفَكَتْ بِأهْلِها، فَجُعِلَ أعْلاها أسْفَلَها. والمُؤْتَفِكاتُ مَدائِنُ قَوْمِ لُوطٍ. (p-٧٠)وقِيلَ: قَرْياتُ قَوْمِ لُوطٍ وهُودٍ وصالِحٍ. وائْتِفاكُهُنَّ: انْقِلابُ أحْوالِهِنَّ عَنِ الخَيْرِ إلى الشَّرِّ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والمُؤْتَفِكاتُ أهْلُ القُرى الأرْبَعَةِ. وقِيلَ: التِّسْعَةُ الَّتِي بُعِثَ إلَيْهِمْ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلامُ، وقَدْ جاءَتْ في القُرْآنِ مُفْرَدَةً تَدُلُّ عَلى الجَمْعِ، ومِن هَذِهِ اللَّفْظَةِ قَوْلُ عِمْرانَ بْنِ حِطّانَ: ؎لِمَنطِقٍ مُسْتَبِينٍ غَيْرِ مُلْتَبِسٍ بِهِ اللِّسانُ ورَأْيٍ غَيْرِ مُؤْتَفِكِ أيْ غَيْرِ مُنْقَلِبٍ مُتَصَرِّفٍ مُضْطَرِبٍ. ومِنهُ يُقالُ لِلرِّيحِ: مُؤْتَفِكَةٌ؛ لِتَصَرُّفِها، ومِنهُ ﴿أنّى يُؤْفَكُونَ﴾ [التوبة: ٣٠] والإفْكُ صَرْفُ القَوْلِ مِنَ الحَقِّ إلى الكَذِبِ. انْتَهى. وفِي قَوْلِهِ: (ألَمْ يَأْتِهِمْ) تَذْكِيرٌ بِأنْباءِ الماضِينَ وتَخْوِيفٌ أنْ يُصِيبَهم مِثْلُ ما أصابَهم، وكانَ أكْثَرُهم عالِمِينَ بِأحْوالِ هَذِهِ الأُمَمِ، وقَدْ ذُكِرَ شَيْءٌ مِنها في أشْعارِ جاهِلِيَّتِهِمْ كالأفْوَهِ الأزْدِيِّ، وعَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدَةَ، وغَيْرِهِما. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: (ألَمْ يَأْتِهِمْ) تَذْكِيرًا بِما قَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ في القُرْآنِ مِن أحْوالِ هَؤُلاءِ وتَفاصِيلِها. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في ﴿أتَتْهم رُسُلُهم بِالبَيِّناتِ﴾ عائِدٌ عَلى الأُمَمِ السِّتَّةِ المَذْكُورَةِ، والجُمْلَةُ شَرْحٌ لِلنَّبَأِ. وقِيلَ: يَعُودُ عَلى المُؤْتَفِكاتِ خاصَّةً، وأتى بِلَفْظِ رُسُلٍ وإنْ كانَ نَبِيُّهم واحِدًا؛ لِأنَّهُ كانَ يُرْسِلُ إلى كُلِّ قَرْيَةٍ رَسُولًا داعِيًا، فَهم رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ، ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ. وقالَ الكَرْمانِيُّ: قِيلَ: يَعُودُ عَلى المُؤْتَفِكاتِ، أيْ: أتاهم رَسُولٌ بَعْدَ رَسُولٍ. والبَيِّناتُ المُعْجِزاتُ، وهي (وأصْحابُ) بِالنِّسْبَةِ إلى الحَقِّ، لا بِالنِّسْبَةِ إلى المُكَذِّبِينَ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: (لِيَظْلِمَهم) لِيُهْلِكَهم حَتّى يَبْعَثَ فِيهِمْ نَبِيًّا يُنْذِرُهم. والمَعْنى: أنَّهم أُهْلِكُوا بِاسْتِحْقاقِهِمْ. وقالَ مَكِّيٌّ: فَما كانَ اللَّهَ لِيَضَعَ عُقُوبَتَهُ في غَيْرِ مُسْتَحِقِّها، إذِ الظُّلْمُ وضْعُ الشَّيْءِ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ، ولَكِنْ كانُوا أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ إذْ عَصَوُا اللَّهَ وكَذَّبُوا رُسُلَهُ حَتّى أسْخَطُوا رَبَّهم واسْتَوْجَبُوا العُقُوبَةَ، فَظَلَمُوا بِذَلِكَ أنْفُسَهم. وقالَ الكَرْمانِيُّ: لِيَظْلِمَهم بِإهْلاكِهِمْ، يَظْلِمُونَ بِالكُفْرِ والتَّكْذِيبِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَما صَحَّ مِنهُ أنْ يَظْلِمَهم وهو حَكِيمٌ لا يَجُوزُ عَلَيْهِ القَبِيحُ، وأنْ يُعاقِبَهم بِغَيْرِ جُرْمٍ، ولَكِنْ ظَلَمُوا أنْفُسَهم حَيْثُ كَفَرُوا بِهِ فاسْتَحَقُّوا عِقابَهُ. انْتَهى. وذَلِكَ عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِزالِ. ويَظْهَرُ أنَّ بَيْنَ قَوْلِهِ (بِالبَيِّناتِ) وقَوْلِهِ: (فَما كانَ) كَلامًا مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ، واللَّهُ أعْلَمُ: فَكَذَّبُوا فَأهْلَكَهُمُ اللَّهُ، فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب