﴿لَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِی مَوَاطِنَ كَثِیرَةࣲ وَیَوۡمَ حُنَیۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَیۡـࣰٔا وَضَاقَتۡ عَلَیۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّیۡتُم مُّدۡبِرِینَ ٢٥ ثُمَّ أَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِینَتَهُۥ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَعَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَأَنزَلَ جُنُودࣰا لَّمۡ تَرَوۡهَا وَعَذَّبَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ۚ وَذَ ٰلِكَ جَزَاۤءُ ٱلۡكَـٰفِرِینَ ٢٦ ثُمَّ یَتُوبُ ٱللَّهُ مِنۢ بَعۡدِ ذَ ٰلِكَ عَلَىٰ مَن یَشَاۤءُۗ وَٱللَّهُ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ ٢٧﴾ [التوبة ٢٥-٢٧]
﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ في مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ويَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أعْجَبَتْكم كَثْرَتُكم فَلَمْ تُغْنِ عَنْكم شَيْئًا وضاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ ولَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ لَمّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ:
﴿قاتِلُوهم يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأيْدِيكم ويُخْزِهِمْ ويَنْصُرْكم عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ١٤] واسْتَطْرَدَ بَعْدَ ذَلِكَ بِما اسْتَطْرَدَ ذَكَّرَهم تَعالى نَصْرَهُ إيّاهم في مَواطِنَ كَثِيرَةٍ، والمَواطِنُ مَقاماتُ الحَرْبِ ومَواقِفُها. وقِيلَ: مَشاهِدُ الحَرْبِ تُوَطِّنُونَ أنْفُسَكم فِيها عَلى لِقاءِ العَدُوِّ، وهي جَمْعُ مَوْطِنٍ بِكَسْرِ الطّاءِ قالَ:
وكَمْ مَوْطِنٍ لَوْلايَ طِحْتَ كَما هَوى بِأجْرامِهِ مِن قُلَّةِ النِّيقِ مُنْهَوى
وهَذِهِ المَواطِنُ: وقَعاتُ بَدْرٍ، وقُرَيْظَةَ، والنَّضِيرِ، والحُدَيْبِيَةِ، وخَيْبَرَ، وفَتْحِ مَكَّةَ. ووُصِفَتْ بِالكَثْرَةِ؛ لِأنَّ أئِمَّةَ التّارِيخِ والعُلَماءِ والمَغازِي نَقَلُوا أنَّها كانَتْ ثَمانِينَ مَوْطِنًا. وحُنَيْنٌ وادٍ بَيْنَ مَكَّةَ والطّائِفِ قَرِيبٌ مِن ذِي المَجازِ. وصُرِفَ مَذْهُوبًا بِهِ مَذْهَبَ المَكانِ، ولَوْ ذُهِبَ بِهِ مَذْهَبَ البُقْعَةِ لَمْ يُصْرَفْ كَما قالَ:
نَصَرُوا نَبِيَّهُمُ وشَدُّوا أزْرَهُ ∗∗∗ بِحُنَيْنَ يَوْمَ تَواكَلَ الأبْطالُ
وعَطَفَ الزَّمانَ عَلى المَكانِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ومَوْطِنُ يَوْمِ حُنَيْنٍأوْ في أيّامِ مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ويَوْمَ حُنَيْنٍ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: و(يَوْمَ) عُطِفَ عَلى مَوْضِعِ قَوْلِهِ: (في مَواطِنَ)، أوْ عَلى لَفْظِهِ بِتَقْدِيرِ: وفي يَوْمِ، فَحُذِفَ حَرْفُ الخَفْضِ انْتَهى. و(إذْ) بَدَلٌ مِن (يَوْمَ) وأضافَ الإعْجابَ إلى جَمِيعِهِمْ، وإنْ كانَ صادِرًا مِن واحِدٍ لَمّا رَأى الجَمْعَ الكَثِيرَ أعْجَبَهُ ذَلِكَ وقالَ: لَنْ نُغْلَبَ اليَوْمَ مِن قِلَّةٍ. والقائِلُ قالَ ابْنُ المُسَيَّبِ: هو أبُو بَكْرٍ، أوْ سَلَمَةُ بْنُ سَلامَةَ بْنِ قُرَيْشٍ، أوِ ابْنُ عَبّاسٍ، أوْ رَجُلٌ مِن بَنِي بَكْرٍ. ونُقِلَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ساءَهُ كَلامُ هَذا القائِلِ، ووُكِلُوا إلى كَلامِ الرَّجُلِ.
والكَثْرَةُ بِفَتْحِ الكافِ، ويُجْمَعُ عَلى كَثْراتٍ، وتَمِيمٌ تَكْسِرُ الكافَ، وتُجْمَعُ عَلى كُثُرٍ كَشَذْرَةٍ وشُذُرٍ، وكَسْرَةٍ وكُسُرٍ. وهَذِهِ الكَثْرَةُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: سِتَّةَ عَشَرَ ألْفًا، وعَنِ النَّحّاسِ: أرْبَعَةَ عَشَرَ ألْفًا، وعَنْ قَتادَةَ وابْنِ زَيْدٍ وابْنِ إسْحاقَ والواقِدِيِّ: اثْنا عَشَرَ ألْفًا، وعَنْ مُقاتِلٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أحَدَ عَشَرَ ألْفًا وخَمْسُمِائَةٍ. والباءُ في (بِما رَحُبَتْ) لِلْحالِ، وما مَصْدَرِيَّةٌ؛ أيْ: ضاقَتْ بِكُمُ الأرْضُ مَعَ كَوْنِها رَحْبًا واسِعَةً؛ لِشِدَّةِ الحالِ عَلَيْهِمْ وصُعُوبَتِها كَأنَّهم لا يَجِدُونَ مَكانًا يَسْتَصْلِحُونَهُ لِلْهَرَبِ والنَّجاةِ لِفَرْطِ ما لَحِقَهم مِنَ الرُّعْبِ، فَكَأنَّها ضاقَتْ عَلَيْهِمْ. والرَّحْبُ: السَّعَةُ، وبِفَتْحِ الرّاءِ الواسِعُ. يُقالُ: فُلانٌ رَحْبُ الصَّدْرِ، وبَلَدٌ رَحْبٌ، وأرْضٌ رَحْبَةٌ، وقَدْ رَحُبَتْ رَحْبًا ورَحابَةً. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: (بِما رَحْبَتْ) في المَوْضِعَيْنِ بِسُكُونِ الحاءِ، وهي لُغَةُ تَمِيمٍ، يُسَكِّنُونَ ضَمَّةَ فَعُلَ فَيَقُولُونَ في ظَرُفَ: ظَرْفَ.
﴿ثُمَّ ولَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾؛ أيْ: ولَّيْتُمْ فارِّينَ عَلى أدْبارِكم مُنْهَزِمِينَ تارِكِينَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ . وأسْنَدَ التَّوَلِّي إلى جَمِيعِهِمْ وهو واقِعٌ مِن أكْثَرِهِمْ، إذْ ثَبَتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ناسٌ مِنَ الأبْطالِ عَلى ما يَأْتِي ذِكْرُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ، فَيَقُولُ: لَمّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَكَّةَ كانَ في عَشَرَةِ آلافٍ مِن أصْحابِهِ، وانْضافَ إلَيْهِ ألْفانِ مِنَ الطُّلَقاءِ فَصارُوا اثْنَيْ عَشَرَ ألْفًا إلى ما انْضافَ إلَيْهِمْ مِنَ الأعْرابِ مِن سُلَيْمٍ، وبَنِي كِلابٍ، وعَبْسٍ، وذُبْيانَ، وسَمِعَ بِذَلِكَ كُفّارُ العَرَبِ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَجَمَعَتْ لَهُ هَوازِنُ وألْفافُها وعَلَيْهِمْ مالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّضْرِيُّ، وثَقِيفُ وعَلَيْهِمْ عَبْدُ يالِيلَ بْنُ عَمْرٍو، وانْضافَ إلَيْهِمْ أخْلاطٌ مِنَ النّاسِ حَتّى كانُوا ثَلاثِينَ ألْفًا، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ اسْتِعْمالِهِ عَتّابَ بْنَ أسِيدٍ عَلى مَكَّةَ، حَتّى اجْتَمَعُوا بِحُنَيْنٍ، فَلَمّا تَصافَّ النّاسُ حَمَلَ المُشْرِكُونَ مِن مَجانِبِ الوادِي، وكانَ قَدْ كَمَنُوا بِها، فانْهَزَمَ المُسْلِمُونَ. قالَ قَتادَةُ: ويُقالُ: إنَّ الطُّلَقاءَ مِن أهْلِ مَكَّةَ فَرُّوا وقَصَدُوا إلْقاءَ الهَزِيمَةِ في المُسْلِمِينَ، وبَلَغَ فَلُّهم مَكَّةَ، وثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في مَرْكَزِهِ عَلى بَغْلَةٍ شَهْباءَ تُسَمّى ”دُلْدُلَ“ لا يَتَخَلْخَلُ، والعَبّاسُ قَدِ اكْتَنَفَهُ آخِذًا بِلِجامِها، وابْنُ عَمِّهِ أبُو سُفْيانَ بْنُ الحَرْثِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وابْنُهُ جَعْفَرٌ، وعَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، ورَبِيعَةُ بْنُ الحَرْثِ، والفَضْلُ بْنُ العَبّاسِ، وأُسامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وأيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ؛ وهو أيْمَنُ ابْنِ أُمِّ أيْمَنَ، وقاتَلَ بَيْنَ يَدَيِ الرَّسُولِ ﷺ هَؤُلاءِ مِن أهْلِ بَيْتِهِ، وثَبَتَ مَعَهُ أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ فَكانُوا عَشَرَةَ رِجالٍ، ولِهَذا قالَ العَبّاسُ:
نَصَرْنا رَسُولَ اللَّهِ في الحَرْبِ تِسْعَةٌ ∗∗∗ وقَدْ فَرَّ مَن قَدْ فَرَّ مِنهم وأقْشَعُوا
وعاشِرُنا لاقى الحِمامَ بِنَفْسِهِ ∗∗∗ بِما مَسَّهُ في اللَّهِ لا يَتَوَجَّعُ
وثَبَتَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ في جُمْلَةِ مَن ثَبَتَ مُمْسِكَةً بَعِيرًا لِأبِي طَلْحَةَ وفي يَدِها خِنْجَرٌ، ونَزَلَ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَنْ بَغْلَتِهِ إلى الأرْضِ واسْتَنْصَرَ اللَّهَ، وأخَذَ قَبْضَةً مِن تُرابٍ وحَصًا فَرَمى بِها في وُجُوهِ الكُفّارِ وقالَ: ”شاهَتِ الوُجُوهُ“ قالَ يَعْلى بْنُ عَطاءٍ: فَحَدَّثَنِي أبْناؤُهم عَنْ آبائِهِمْ قالُوا: لَمْ يَبْقَ مِنّا أحَدٌ إلّا دَخَلَ عَيْنَيْهِ مِن ذَلِكَ التُّرابِ، وقالَ لِلْعَبّاسِ وكانَ صَيِّتًا: نادِ أصْحابَ السَّمُرَةِ، فَنادى الأنْصارَ فَخِذًا فَخِذًا، ثُمَّ نادى يا أصْحابَ الشَّجَرَةِ، يا أصْحابَ سُورَةِ البَقَرَةِ، فَكَّرُوا عُنُقًا واحِدًا وهم يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، وانْهَزَمَ المُشْرِكُونَ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى قِتالِ المُسْلِمِينَ فَقالَ:
«هَذا حِينَ حَمِيَ الوَطِيسُ»، ورَكَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَلْفَهم عَلى بَغْلَتِهِ. وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِن حَدِيثِ البَراءِ:
«أنَّ هَوازِنَ كانُوا رُماةً فَرَمَوْهم بِرِشْقٍ مِن نَبْلٍ كَأنَّها رِجْلٌ مِن جَرادٍ فانْكَشَفُوا، فَأقْبَلَ القَوْمُ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأبُو سُفْيانَ يَقُودُ بَغْلَتَهُ فَنَزَلَ ودَعا واسْتَنْصَرَ، وهو يَقُولُ:
”أنا النَّبِيُّ لا كَذِبْ
أنا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ
اللَّهُمَّ أنْزِلْ نَصْرَكَ“»قالَ البَراءُ:
«كُنّا واللَّهِ إذا حَمِيَ البَأْسُ نَتَّقِي بِهِ ﷺ»، وإنَّ الشُّجاعَ مِنّا لَلَّذِي يُحاذِي بِهِ يَعْنِي النَّبِيَّ ﷺ . وفي أوَّلِ هَذا الحَدِيثِ: ”
«أكُنْتُمْ ولَّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍيا أبا عُمارَةَ ؟“ فَقالَ: أشْهَدُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ما ولّى» .
﴿ثُمَّ أنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وعَلى المُؤْمِنِينَ﴾؛ السَّكِينَةُ: النَّصْرُ الَّذِي سَكَنَتْ إلَيْهِ النُّفُوسُ، قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: رَحْمَتُهُ الَّتِي سَكَنُوا بِها، وقِيلَ: الوِقاءُ والثَّباتُ بَعْدَ الِاضْطِرابِ والقَلَقِ، ويَخْرُجُ مِن هَذا القَوْلِ الرَّسُولُ ﷺ، فَإنَّهُ لَمْ يَزَلْ ثابِتَ الجَأْشِ ساكِنَهُ. و(عَلى المُؤْمِنِينَ) ظاهِرُهُ شُمُولُ مَن فَرَّ ومَن ثَبَتَ، وقِيلَ: هُمُ الأنْصارُ إذْ هُمُ الَّذِينَ كَرُّوا ورَدُّوا الهَزِيمَةَ، وقِيلَ: مَن ثَبَتَ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ حالَةَ فَرَّ النّاسَ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: سِكِّينَتَهُ بِكَسْرِ السِّينِ وتَشْدِيدِ الكافِ مُبالَغَةً في السَّكِينَةِ، نَحْوُ شِرِّيبٍ وطِبِّيخٍ.
﴿وأنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْها﴾؛ هُمُ المَلائِكَةُ بِلا خِلافٍ، ولَمْ تَتَعَرَّضِ الآيَةُ لِعَدَدِهِمْ. فَقالَ الحَسَنُ: سِتَّةَ عَشَرَ ألْفًا، وقالَ مُجاهِدٌ: ثَمانِيَةُ آلافٍ، وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: خَمْسَةُ آلافٍ. وهَذا تَناقُضٌ في الأخْبارِ، والجُمْهُورُ عَلى أنَّها لَمْ تُقاتِلْ يَوْمَ حُنَيْنٍ. وعَنِ ابْنِ المُسَيَّبِ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ كانَ في المُشْرِكِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍقالَ: لَمّا كَشَفْنا المُسْلِمِينَ جَعَلْنا نَسُوقُهم، فَلَمّا انْتَهَيْنا إلى صاحِبِ البَغْلَةِ الشَّهْباءِ تَلَقّانا رِجالٌ بِيضُ الوُجُوهِ حِسانُها فَقالُوا: شاهَتِ الوُجُوهُ، ارْجِعُوا فَرَجَعْنا، فَرَكِبُوا أكْتافَنا. والظّاهِرُ انْتِفاءُ الرُّؤْيَةِ عَنِ المُؤْمِنِينَ؛ لِأنَّ الخِطابَ هو لَهم. وقَدْ رُوِيَ أنَّ رَجُلًا مِن بَنِي النَّضِيرِ قالَ لِلْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ القِتالِ: أيْنَ الخَيْلُ البُلْقُ والرِّجالُ الَّذِينَ كانُوا عَلَيْها بِيضٌ ما كُنّا فِيهِمْ إلّا كَهَيْئَةِ الشّامَةِ، وما كانَ قَتْلُنا إلّا بِأيْدِيهِمْ ؟ فَأخْبَرُوا النَّبِيَّ ﷺ فَقالَ: ”تِلْكَ المَلائِكَةُ“ . وقِيلَ: (لَمْ تَرَوْها)، نَفى عَنِ الجَمِيعِ، ومَن رَأى بَعْضَهم لَمْ يَرَ كُلَّهم، وقِيلَ: لَمْ يَرَها أحَدٌ مِنَ المُسْلِمِينَ ولا الكُفّارِ، وإنَّما أنْزَلَهم يُلْقُونَ التَّثْبِيتَ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ والرُّعْبَ والجُبْنَ في قُلُوبِ الكُفّارِ. وقالَ يَزِيدُ بْنُ عامِرٍ: كانَ في أجْوافِنا مِثْلُ ضَرْبَةِ الحَجَرِ في الطَّسْتِ مِنَ الرُّعْبِ.
﴿وعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وذَلِكَ جَزاءُ الكافِرِينَ﴾؛ أيْ بِالقَتْلِ الَّذِي اسْتَحَرَّ فِيهِمْ، والأسْرِ لِذَرارِيِّهِمْ ونِسائِهِمْ، والنَّهْبِ لِأمْوالِهِمْ. وكانَ السَّبْيُ أرْبَعَةَ آلافِ رَأْسٍ، وقِيلَ: سَتَّةَ آلافٍ، ومِنَ الإبِلِ اثْنا عَشَرَ ألْفًا سِوى ما لا يُعْلَمُ مِنَ الغَنَمِ، وقَسَّمَها الرَّسُولُ بِالجِعْرانَةِ، وفِيها قِصَّةُ عَبّاسِ بْنِ مِرْداسٍ وشِعْرُهُ. وكانَ مالِكُ بْنُ عَوْفٍ قَدْ أخْرَجَ النّاسَ لِلْقِتالِ والذَّرارِيَّ لِيُقاتِلُوا عَلَيْها، فَخَطَّأهُ في ذَلِكَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ، قالَ: هَلْ يَرُدُّ المُنْهَزِمَ شَيْءٌ ؟ وفي ذَلِكَ اليَوْمِ قُتِلَ دُرَيْدٌ القِتْلَةَ المَشْهُورَةَ، قَتَلَهُ رَبِيعَةُ بْنُ رُفَيْعِ بْنِ أُهْبانَ السَّلَمِيُّ، ويُقالُ لَهُ: ابْنُ الدِّغِنَةِ.
﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلى مَن يَشاءُ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ إخْبارٌ بِأنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلى مَن يَشاءُ فَيَهْدِي مَن يَشاءُ مِمَّنْ بَقِيَ مِنَ الكُفّارِ لِلْإسْلامِ، ووَعَدَ بِالمَغْفِرَةِ والرَّحْمَةِ كَمالِكِ بْنِ عَوْفٍ النَّضْرِيِّ رَئِيسِ هَوازِنَ ومَن أسْلَمَ مَعَهُ مِن قَوْمِهِ. ورُوِيَ أنَّ ناسًا مِنهم جاءُوا فَبايَعُوا عَلى الإسْلامِ وقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، أنْتَ خَيْرُ النّاسِ وأبَرُّ النّاسِ، وقَدْ سُبِيَ أهْلُونا وأوْلادُنا وأُخِذَتْ أمْوالُنا، وكانَ سَبْيُ يَوْمَئِذٍ سِتَّةَ آلافِ نَفْسٍ، وأُخِذَ مِنَ الإبِلِ والغَنَمِ ما لا يُحْصى، فَقالَ:
«إنْ خَيْرَ القَوْلِ أصْدَقُهُ، اخْتارُوا إمّا ذَرارِيَّكم ونِساءَكم وإمّا أمْوالَكم» فَقالُوا: ما نَعْدِلُ بِالأحْسابِ شَيْئًا. وتَمامُ الحَدِيثِ أنَّهم أخَذُوا نِساءَهم وذَرارِيَّهم إلّا امْرَأةً وقَعَ عَلَيْها صَفْوانُ بْنُ أُمَيَّةَ فَحَمَلَتْ مِنهُ فَلَمْ يَرُدَّها.
أخْبَرَنا القاضِي العالِمُ أبُو عَلِيٍّ الحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ أبِي الأحْوَصِ القُرَشِيُّ قِراءَةً مِنِّي عَلَيْهِ بِمَدِينَةِ مالِقَةَ، قالَ: أخْبَرَنا أبُو الحَسَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بِيقى بْنِ حَبْلَةَ الخَزْرَجَيُّ باوُو بولَةَ، قالَ: أخْبَرَنا الحافِظُ أبُو طاهِرٍ أحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّلَفِيُّ الأصْبَهانِيُّ بِإسْكَنْدَرِيَّةَ (ح)، وأخْبَرَنا أُسْتاذُنا الإمامُ العَلّامَةُ الحافِظُ أبُو جَعْفَرٍ أحْمَدُ بْنُ إبْراهِيمَ بْنِ الزُّبَيْرِ قِراءَةً مِنِّي عَلَيْهِ بِغَرْناطَةَ عَنِ القاضِي أبِي الخَطّابِ مُحَمَّدِ بْنِ أحْمَدَ بْنِ خَلِيلٍ السُّكُونِيُّ عَنْ أبِي طاهِرٍ السَّلَفِيِّ وهو آخِرُ مَن حَدَّثَ عَنْهُ بِالغَرْبِ (ح)، وأخْبَرَنا عالِيًا القاضِي السَّعِيدُ صَفِيُّ الدِّينِ أبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الوَهّابِ بْنُ حَسَنِ بْنِ الفُراتِ قِراءَةً عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ بِثَغْرِ الإسْكَنْدَرِيَّةِ عَنْ أبِي الطّاهِرِ إسْماعِيلُ بْنُ صالِحِ بْنِ ياسِينَ الجَبَلِيِّ وهو آخِرُ مَن حَدَّثَ عَنْهُ، قالا - أعْنِي السَّلَفِيَّ والجَبَلِيَّ -: أخْبَرَنا أبُو عَبْدُ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أحْمَدَ بْنِ إبْراهِيمَ الرّازِيُّ، قالَ: أخْبَرَنا أبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ بَقاءِ بْنِ مُحَمَّدٍ الوَرّاقُ بِمِصْرَ أخْبَرَنا أبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الحُسَيْنِ بْنِ عُمَرَ اليَمَنِيُّ التَّنُوخِيُّ بِانْتِفاءِ خَلَفٍ الواسِطِيِّ الحافِظِ (ح)، وأخْبَرَنا المُحَدِّثُ العَدْلُ نَجِيبُ الدِّينِ أبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ المُؤَيَّدِ الهَمْدانِيُّ عُرِفَ بِابْنِ العَجَمِيِّ قِراءَةً مِنِّي عَلَيْهِ بِالقاهِرَةِ، قُلْتُ لَهُ: أخْبَرَكَ أبُو الفَخْرِ أسْعَدُ بْنُ أبِي الفُتُوحِ بْنِ رَوْحٍ وعَفِيفَةُ بِنْتُ أحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ في كِتابَيْهِما، قالا: أخْبَرَتْنا فاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أحْمَدَ بْنِ عَقِيلٍ الجَوْزَدانِيَّةُ، قالَتْ: أخْبَرَنا أبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَيْذَةَ الضَّبِّيُّ، قالَ: أخْبَرَنا أبُو القاسِمِ سُلَيْمانُ بْنُ أحْمَدَ بْنِ أيُّوبَ الطَّبَرانِيُّ الحافِظُ قالا - أعْنِي التَّنُوخِيَّ والطَّبَرانِيَّ -: أخْبَرَنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ رَماحِسَ، زادَ التَّنُوخِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خالِدِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ قَيْسِ بْنِ رَمادَةَ مِنَ الرَّمْلَةِ عَلى بَرِيدَيْنِ في رَبِيعٍ الآخِرِ مِن سَنَةِ ثَمانِينَ ومِائَتَيْنِ، وقالَ الطَّبَرانِيُّ: ابْنُ رَماحِسَ الجُشَمِيُّ القَيْسِيُّ بِرَمادَةِ الرَّمْلَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وسَبْعِينَ ومِائَتَيْنِ، قالَ: حَدَّثَنا أبُو عَمْرٍو زِيادُ بْنُ طارِقٍ، زادَ التَّنُوخِيُّ الجُشَمِيَّ. وقالَ الطَّبَرانِيُّ: وكانَ قَدْ أتَتْ عَلَيْهِ عِشْرُونَ ومِائَةُ سَنَةٍ، قالَ التَّنُوخِيُّ عَنْ زِيادٍ: أنْبَأنا زُهَيْرُ أبُو جَنْدَلٍ وكانَ سَيِّدَ قَوْمِهِ، وكانَ يُكَنّى أبا صُرَدٍ، قالَ:
«لَمّا كانَ يَوْمُ حُنَيْنٍأسَرَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَبَيْنا هو يُمَيِّزُ بَيْنَ الرِّجالِ والنِّساءِ، وثَبْتُ حَتّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ أُذَكِّرُهُ حَيْثُ شَبَّ ونَشَأ في هَوازِنَ، وحَيْثُ أرْضَعُوهُ فَأنْشَأْتُ أقُولُ: وقالَ الطَّبَرانِيُّ عَنْ زِيادٍ قالَ: سَمِعْتُ أبا جَرْوَلٍ زُهَيْرَ بْنَ صُرَدٍ الجُشَمِيَّ يَقُولُ: لَمّا أسَرَنا رَسُولَ اللَّهِ يَوْمَ حُنَيْنٍقَوْمَ هَوازِنَ، وذَهَبَ يُفَرِّقُ السَّبْيَ والشّاءِ، فَأتَيْتُهُ فَأنْشَأْتُ أقْولُ هَذا الشِّعْرَ:
امْنُنْ عَلَيْنا رَسُولَ اللَّهِ في كَرَمٍ ∗∗∗ فَإنَّكَ المَرْءُ نَرْجُوهُ ونَنْتَظِرُ
امْنُنْ عَلى بَيْضَةٍ قَدْ عاقَها قَدَرٌ ∗∗∗ مُفَرِّقٌ شَمْلَها في دَهْرِها غِيَرُ
أبْقَتْ لَنا الحَرْبُ هُتافًا عَلى حَزَنٍ ∗∗∗ عَلى قُلُوبِهِمُ الغِماءُ والغَمْرُ
إنْ لَمْ تُدارِكْهم نَعْماءُ تَنْشُرُها ∗∗∗ يا أرْجَحَ النّاسِ حِلْمًا حِينَ يُخْتَبَرُ
امْنُنْ عَلى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُها ∗∗∗ إذْ فُوكَ يَمْلَؤُها مِن مَحْضِها الدُّرَرُ
إذْ أنْتَ طِفْلٌ صَغِيرٌ كُنْتَ تَرْضَعُها ∗∗∗ وإذْ يَزِينُكَ ما تَأْتِي وما تَذَرُ
يا خَيْرَ مَن مَرَحَتْ كُمْتُ الجِيادِ بِهِ ∗∗∗ عِنْدَ الهِياجِ إذا ما اسْتَوْقَدَ الشَّرَرُ
لا تَجْعَلَنّا كَمَن شالَتْ نَعامَتُهُ ∗∗∗ واسْتَبْقِ مِنّا فَإنّا مَعْشَرٌ زُهُرُ
إنّا نُؤَمِّلُ عَفْوًا مِنكَ نَلْبَسُهُ ∗∗∗ هَذِي البَرِيَّةُ أنْ تَعْفُو وتَنْتَصِرُ
إنّا لَنَشْكُرُ لِلنُّعْمى وقَدْ كُفِرَتْ ∗∗∗ وعِنْدَنا بَعْدُ هَذا اليَوْمِ مُدَّخَرُ
فَألْبِسِ العَفْوَ مَن قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهُ ∗∗∗ مِن أُمَّهاتِكَ إنَّ العَفْوَ مُشْتَهَرُ
واعْفُ عَفا اللَّهُ عَمّا أنْتَ راهِبُهُ ∗∗∗ يَوْمَ القِيامَةِ إذْ يُهْدى لَكَ الظَّفَرُ
وفِي رِوايَةِ الطَّبَرانِيِّ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ في بَعْضِ الأبْياتِ، وتَغْيِيرٌ لِبَعْضِ ألْفاظٍ، فَتَرْتِيبُ الأبْياتِ بَعْدَ قَوْلِهِ: إذْ أنْتَ طِفْلٌ قَوْلُهُ: لا تَجْعَلَنّا، ثُمَّ إنّا لَنَشْكُرُ، ثُمَّ فَألْبِسِ العَفْوَ، ثُمَّ تَأْخِيرُ مَن مَرَحَتْ، ثُمَّ إنّا نُؤَمِّلُ، ثُمَّ فاعْفُ. وتَغْيِيرُ الألْفاظِ قَوْلُهُ: وإذْ يَرِيبُكَ بِالرّاءِ والباءِ مَكانَ الزّايِ والنُّونِ، وقَوْلُهُ لِلنَّعْماءِ: إذْ كُفِرَتْ، وقَوْلُهُ: إذْ تَعْفُو. وفي رِوايَةِ الطَّبَرانِيِّ قالَ: فَلَمّا سَمِعَ النَّبِيُّ ﷺ هَذا الشِّعْرَ قالَ ﷺ: ”ما كانَ لِي ولِبَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ فَهو لَكم“، وقالَتْ قُرَيْشٌ: ما كانَ لَنا فَهو لِلَّهِ ولِرَسُولِهِ، وقالَتِ الأنْصارُ: ما كانَ لَنا فَهو لِلَّهِ ولِرَسُولِهِ. وفي رِوايَةِ التَّنُوخِيِّ: فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”أمّا ما كانَ لِي ولِبَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ فَلِلَّهِ ولَكم“، وقالَتِ الأنْصارُ: ما كانَ لَنا فَلِلَّهِ ولِرَسُولِهِ، رَدَّتِ الأنْصارُ ما كانَ في أيْدِيها مِنَ الذَّرارِيِّ والأمْوالِ» .