الباحث القرآني
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكم وإخْوانَكم أوْلِياءَ إنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلى الإيمانِ ومَن يَتَوَلَّهم مِنكم فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ كانَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ مَن آمَنَ لَمْ يَتِمَّ إيمانُهُ إلّا بِأنْ يُهاجِرَ ويُصادِمَ أقارِبَهُ (p-٢٢)الكَفَرَةَ ويَقْطَعُ مُوالاتَهم، فَقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنْ نَحْنُ اعْتَزَلْنا مَن يُخالِفُنا في الدِّينِ قَطَعْنا آباءَنا وأبْناءَنا وعَشائِرَنا، وذَهَبَتْ كادَتُنا، وهَلَكَتْ أمْوالُنا، وخَرِبَتْ دِيارُنا، وبَقِينا ضائِعِينَ، فَنَزَلَتْ، فَهاجَرُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَأْتِيهِ ابْنُهُ أوْ أبُوهُ أوْ أخُوهُ أوْ بَعْضُ أقارِبِهِ فَلا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ، ولا يُنْزِلُهُ، ولا يُنْفِقُ عَلَيْهِ، ثُمَّ رُخِّصَ لَهم بَعْدَ ذَلِكَ. فَعَلى هَذا الخِطابُ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كانُوا بِ مَكَّةَ وغَيْرِها مِن بِلادِ العَرَبِ خُوطِبُوا أنْ لا يُوالُوا الآباءَ والإخْوَةَ، فَيَكُونُوا لَهم تَبَعًا في سُكْنى بِلادِ الكُفْرِ. وقِيلَ: نَزَلَتْ في التِّسْعَةِ الَّذِينَ ارْتَدُّوا ولَحِقُوا بِمَكَّةَ، فَنَهى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ عَنْ مُوالاتِهِمْ. وذَكَرَ الآباءَ والإخْوانَ؛ لِأنَّهم أهْلُ الرَّأْيِ والمَشُورَةِ، ولَمْ يَذْكُرِ الأبْناءَ؛ لِأنَّهم في الغالِبِ تَبَعٌ لِآبائِهِمْ.
وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ: أنِ اسْتَحَبُّوا بِفَتْحِ الهَمْزَةِ جَعَلَهُ تَعْلِيلًا، وغَيْرُهُ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ جَعَلَهُ شَرْطًا. ومَعْنى اسْتَحَبُّوا: آثَرُوا وفَضَّلُوا، اسْتَفْعَلَ مِنَ المَحَبَّةِ أيْ طَلَبُوا مَحَبَّةَ الكُفْرِ، وقِيلَ: بِمَعْنى أحَبَّ، وضُمِّنَ مَعْنى اخْتارَ وآثَرَ، ولِذَلِكَ عُدِّيَ بِعَلى. ولَمّا نَهاهم عَنِ اتِّخاذِهِمْ أوْلِياءَ أُخْبِرَ أنَّ مَن تَوَلّاهم فَهو ظالِمٌ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هو مُشْرِكٌ مِثْلُهم؛ لِأنَّ مَن رَضِيَ بِالشِّرْكِ فَهو مُشْرِكٌ. قالَ مُجاهِدٌ: وهَذا كُلُّهُ كانَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا ظُلْمُ المَعْصِيَةِ لا ظُلْمُ الكُفْرِ.
﴿قُلْ إنْ كانَ آباؤُكم وأبْناؤُكم وإخْوانُكم وأزْواجُكم وعَشِيرَتُكم وأمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها ومَساكِنُ تَرْضَوْنَها أحَبَّ إلَيْكم مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهادٍ في سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأمْرِهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ﴾ هَذِهِ الآيَةُ تَقْتَضِي الحَضَّ عَلى الهِجْرَةِ، وذَكَرَ الأبْناءُ؛ لِأنَّهُ ذَكَرَ المَحَبَّةَ، وهم أعْلَقُ بِالنَّفْسِ، بِخِلافِ الآيَةِ قَبْلَها فَلَمْ يُذْكَرُوا؛ لِأنَّ المَقْصُودَ مِنها الرَّأْيُ والمَشُورَةُ. وقَدَّمَ الآباءَ؛ لِأنَّهُمُ الَّذِي يَجِبُ بِرُّهم وإكْرامُهم وحُبُّهم، وثَنّى بِالأبْناءِ؛ لِكَوْنِهِمْ أعْلَقَ بِالقُلُوبِ. ولَمّا ذَكَرَ الأصْلَ والفَرْعَ ذَكَرَ الحاشِيَةَ وهي الإخْوانُ، ثُمَّ ذَكَرَ الأزْواجَ وهُنَّ في المَحَبَّةِ والإيثارِ كالأبْناءِ، ثُمَّ الأبْعَدَ بَعْدَ الأقْرَبِ في القَرابَةِ فَقالَ: وعَشِيرَتُكم.
وقَرَأ الجُمْهُورُ بِغَيْرِ ألِفٍ. وقَرَأ أبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ، وأبُو رَجاءٍ، وأبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: بِألْفٍ عَلى الجَمْعِ. وزَعَمَ الأخْفَشُ أنَّ العَرَبَ تَجْمَعُ عَشِيرَةً عَلى عَشائِرَ، ولا تَكادُ تَقُولُ: عَشِيراتٌ بِالجَمْعِ بِالألِفِ والتّاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ ﴿وأمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها﴾؛ أيِ اكْتَسَبْتُمُوها؛ لِأنَّ الأمْوالَ يُعادِلُ حُبُّها حُبَّ القَرابَةِ، بَلْ حُبُّها أشَدُّ، كانَتِ الأمْوالُ في ذَلِكَ الوَقْتِ عَزِيزَةً، وأكْثَرُ النّاسِ كانُوا فُقَراءَ. ثُمَّ ذَكَرَ: ﴿وتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها﴾، والتِّجارَةُ لا تَتَهَيَّأُ إلّا بِالأمْوالِ، وجَعَلَ تَعالى التِّجارَةَ سَبَبًا لِزِيادَةِ الأمْوالِ ونَمائِها. وتَفْسِيرُ ابْنِ المُبارَكِ بِأنَّ ذَلِكَ إشارَةٌ إلى البَناتِ اللَّواتِي لا يَتَزَوَّجْنَ لِقِلَّةِ خُطّابِهِنَّ، تَفْسِيرٌ غَرِيبٌ يَنْبُو عَنْهُ اللَّفْظُ. وقالَ الشّاعِرُ:
؎كَسَدْنَ مِنَ الفَقْرِ في قَوْمِهِنَّ وقَدْ زادَهُنَّ مَقامِي كُسُودا
ثُمَّ ذَكَرَ: ﴿ومَساكِنُ تَرْضَوْنَها﴾، وهي القُصُورُ والدُّورُ. ومَعْنى: تَرْضَوْنَها: تَخْتارُونَ الإقامَةَ بِها. وهَذِهِ الدَّواعِي الأرْبَعَةُ سَبَبٌ لِمُخالَطَةِ الكُفّارِ: حُبُّ الأقارِبِ، والأمْوالِ، والتِّجارَةِ، والمَساكِنِ. فَذَكَرَ تَعالى أنَّ مُراعاةَ الدِّينِ خَيْرٌ مِن مُراعاةِ هَذِهِ الأُمُورِ. وفي الكَلامِ حَذْفٌ أيْ: أحَبُّ إلَيْكم مِنِ امْتِثالِ أمْرِ اللَّهِ تَعالى ورَسُولِهِ في الهِجْرَةِ مِن دارِ الكُفْرِ إلى دارِ الإسْلامِ. والقُرّاءُ عَلى نَصْبِ (أحَبَّ)؛ لِأنَّهُ خَبَرُ كانَ. وكانَ الحَجّاجُ بْنُ يُوسُفَ يَقْرَأُ: أحَبُّ بِالرَّفْعِ، ولَحَّنَهُ يَحْيى بْنُ يَعْمُرَ، وتَلْحِينُهُ إيّاهُ لَيْسَ مِن جِهَةِ العَرَبِيَّةِ، وإنَّما هو لِمُخالَفَةِ إجْماعِ القُرّاءِ النَّقَلَةِ، وإلّا فَهو جائِزٌ في عِلْمِ العَرَبِيَّةِ عَلى أنْ يُضْمَرَ في كانَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، ويُلْزَمَ ما (p-٢٣)بَعْدَها بِالِابْتِداءِ والخَبَرِ، وتَكُونُ الجُمْلَةُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى أنَّها خَبَرُ كانَ. وتَضَمَّنَ الأمْرُ بِالتَّرَبُّصِ التَّهْدِيدَ والوَعِيدَ حَتّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأمْرِهِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ: الإشارَةُ إلى فَتْحِ مَكَّةَ. وقالَ الحَسَنُ: الإشارَةُ إلى عَذابٍ أوْ عُقُوبَةٍ مِنَ اللَّهِ، و(الفاسِقِينَ) عُمُومٌ يُرادُ بِهِ الخُصُوصُ فِيمَن تَوافى عَلى فِسْقِهِ، أوْ عُمُومٌ مُطْلَقٌ عَلى أنَّهُ لا هِدايَةَ مِن حَيْثُ الفِسْقُ، وفي التَّحْرِيرِ الفِسْقُ هُنا الكُفْرُ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ ما قابَلَهُ مِنَ الهِدايَةِ. والكُفْرُ ضَلالٌ، والضَّلالُ ضِدُّ الهِدايَةِ، وإنْ كانَ ذَلِكَ في المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يُهاجِرُوا، فَيَكُونُ الفِسْقُ الخُرُوجَ عَنِ الطّاعَةِ، فَإنَّهم لَمْ يَمْتَثِلُوا أمْرَ اللَّهِ ولا أمْرَ رَسُولِهِ في الهِجْرَةِ.
{"ayahs_start":23,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوۤا۟ ءَابَاۤءَكُمۡ وَإِخۡوَ ٰنَكُمۡ أَوۡلِیَاۤءَ إِنِ ٱسۡتَحَبُّوا۟ ٱلۡكُفۡرَ عَلَى ٱلۡإِیمَـٰنِۚ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ","قُلۡ إِن كَانَ ءَابَاۤؤُكُمۡ وَأَبۡنَاۤؤُكُمۡ وَإِخۡوَ ٰنُكُمۡ وَأَزۡوَ ٰجُكُمۡ وَعَشِیرَتُكُمۡ وَأَمۡوَ ٰلٌ ٱقۡتَرَفۡتُمُوهَا وَتِجَـٰرَةࣱ تَخۡشَوۡنَ كَسَادَهَا وَمَسَـٰكِنُ تَرۡضَوۡنَهَاۤ أَحَبَّ إِلَیۡكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَادࣲ فِی سَبِیلِهِۦ فَتَرَبَّصُوا۟ حَتَّىٰ یَأۡتِیَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦۗ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَـٰسِقِینَ"],"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوۤا۟ ءَابَاۤءَكُمۡ وَإِخۡوَ ٰنَكُمۡ أَوۡلِیَاۤءَ إِنِ ٱسۡتَحَبُّوا۟ ٱلۡكُفۡرَ عَلَى ٱلۡإِیمَـٰنِۚ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق