الباحث القرآني

﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَداهم حَتّى يُبَيِّنَ لَهم ما يَتَّقُونَ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ﴿إنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ يُحْيِي ويُمِيتُ وما لَكم مِن دُونِ اللَّهِ مِن ولِيٍّ ولا نَصِيرٍ﴾: ماتَ قَوْمٌ كانَ عَمَلُهم عَلى الأمْرِ الأوَّلِ؛ كاسْتِقْبالِ بَيْتِ المَقْدِسِ، وشُرْبِ الخَمْرِ، فَسَألَ قَوْمٌ الرَّسُولَ بَعْدَ مَجِيءِ النَّسْخِ ونُزُولِ الفَرائِضِ عَنْ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ. وقالَ الكَرْمانِيُّ: أسْلَمَ قَوْمٌ مِنَ الأعْرابِ فَعَمِلُوا بِما شاهَدُوا الرَّسُولَ يَفْعَلُهُ مِنَ الصَّلاةِ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، وصِيامِ الأيّامِ البِيضِ، ثُمَّ قَدِمُوا عَلَيْهِ فَوَجَدُوهُ يُصَلِّي إلى الكَعْبَةِ ويَصُومُ رَمَضانَ، فَقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ دِنّا بَعْدَكَ بِالضَّلالِ، إنَّكَ عَلى أمْرٍ وإنّا عَلى غَيْرِهِ، فَنَزَلَتْ. وقِيلَ: خافَ بَعْضُ المُؤْمِنِينَ مِنَ الِاسْتِغْفارِ لِلْمُشْرِكِينَ دُونَ إذْنٍ مِنَ اللَّهِ فَنَزَلَتِ الآيَةُ مُؤْنِسَةً، أيْ: ما كانَ اللَّهُ بَعْدَ أنْ هَدى لِلْإسْلامِ وأنْقَذَ مِنَ النّارِ لِيُحْبِطَ ذَلِكَ ويُضِلَّ أهْلَهُ لِمُقارَفَتِهِمْ ذَنْبًا لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنهُ نَهْيٌ عَنْهُ. فَأمّا إذْ بَيَّنَ لَهم ما يَتَّقُونَ مِنَ الأمْرِ، ويَتَجَنَّبُونَ مِنَ الأشْياءِ - فَحِينَئِذٍ مَن واقَعَ بَعْدَ النَّهْيِ اسْتَوْجَبَ العُقُوبَةَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي ما أمَرَ اللَّهُ بِاتِّقائِهِ واجْتِنابِهِ كالِاسْتِغْفارِ لِلْمُشْرِكِينَ وغَيْرِهِ مِمّا نَهى عَنْهُ، وبَيَّنَ أنَّهُ مَحْظُورٌ، ولا يُؤاخِذُ بِهِ عِبادَهُ الَّذِينَ هَداهم لِلْإسْلامِ، ولا يُسَمِّيهِمْ ضُلّالًا ولا يَخْذُلُهم إلّا إذا أقْدَمُوا عَلَيْهِ بَعْدَ بَيانِ حَظْرِهِ عَلَيْهِمْ، وعِلْمِهِ بِأنَّهُ واجِبُ الِاتِّقاءِ والِاجْتِنابِ، وأمّا قَبْلَ العِلْمِ والبَيانِ فَلا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ، كَما لا يُؤاخَذُونَ بِشُرْبِ الخَمْرِ ولا بِبَيْعِ الصّاعِ بِالصّاعَيْنِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ. وهَذا بَيانٌ لِعُذْرِ مَن خافَ المُؤاخَذَةَ بِالِاسْتِغْفارِ لِلْمُشْرِكِينَ قَبْلَ وُرُودِ النَّهْيِ. في هَذِهِ الآيَةِ شَدِيدَةٌ ما يَنْبَغِي أنْ يُغْفَلَ عَنْها، وهي أنَّ المَهْدِيَّ لِلْإسْلامِ إذا أقْبَلَ عَلى بَعْضِ مَحْظُوراتِ اللَّهِ - داخِلٌ في حُكْمِ الضَّلالِ، والمُرادُ بِـ (ما يَتَّقُونَ) ما يَجِبُ اتِّقاؤُهُ لِلنَّهْيِ. فَأمّا ما يُعْلَمُ بِالعَقْلِ كالصِّدْقِ في الخَبَرِ ورَدِّ الوَدِيعَةِ فَغَيْرُ مَوْقُوفٌ عَلى التَّوْقِيفِ. انْتَهى. وفي هَذا الأخِيرِ مِن كَلامِهِ وفي قَوْلِهِ قَبْلُ في تَفْسِيرِ (لَيُضِلَّ): ولا يُسَمِّيهِمْ ضُلّالًا ولا يَخْذُلُهم - دَسِيسَةُ الِاعْتِزالِ، وفي كَلامِهِ إسْهابٌ، وهو بَسْطُ ما قالَ مُجاهِدٌ، قالَ: ما كانَ لِيُضِلَّكم بِالِاسْتِغْفارِ لِلْمُشْرِكِينَ بَعْدَ إذْ هَداكم لِلْإيمانِ حَتّى يَتَقَدَّمَ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ ويُبَيِّنَهُ لَكم فَتَتَّقُوهُ. انْتَهى. وتَقَدَّمَ (p-١٠٧)فِي أسْبابِ النُّزُولِ ما يَشْرَحُ بِهِ الآيَةَ مِن سُؤالِهِمْ عَمَّنْ ماتَ وقَدْ صَلّى إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، وشَرِبَ الخَمْرَ، ومِن قِصَّةِ الأعْرابِ. والَّذِي يَظْهَرُ في مُناسَبَةِ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها وفي شَرْحِها - أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ أنَّهُ لا يَسْتَغْفِرُ لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى، كانَ في هَذِهِ الآيَةِ وفي الَّتِي بَعْدَها تَبايُنٌ ما بَيْنَ القَرابَةِ حَتّى مُنِعُوا مِنَ الِاسْتِغْفارِ لَهم، فَمُنِعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الِاسْتِغْفارِ لِعَمِّهِ أبِي طالِبٍ وهو الَّذِي تَوَلّى تَرْبِيَتَهُ ونَصْرَهُ وحِفْظَهُ إلى أنْ ماتَ، ومُنِعَ إبْراهِيمُ مِنَ الِاسْتِغْفارِ لِأبِيهِ وهو أصْلُ نَشْأتِهِ ومُرَبِّيهِ، وكَذَلِكَ مُنِعَ المُسْلِمُونَ مِنَ الِاسْتِغْفارِ لِلْمُشْرِكِينَ أقْرِباءَ وغَيْرَ أقْرِباءَ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: لا تَعْجَبْ لِتَبايُنِ هَؤُلاءِ، هَذا خَلِيلُ اللَّهِ، وهَذا حَبِيبُ اللَّهِ، والأقْرِباءُ المُخْتَصُّونَ بِهِمُ المُشْرِكُونَ أعْداءُ اللَّهِ، فَإضْلالُ هَؤُلاءِ لَمْ يَكُنْ إلّا بَعْدَ أنْ أرْشَدَهُمُ اللَّهُ إلى طَرِيقِ الحَقِّ بِما رَكَّزَ فِيهِمْ مِن حُجَجِ العُقُولِ الَّتِي أغْفَلُوها، وتَبْيِينِ ما يَتَّقُونَ بِطَرِيقِ الوَحْيِ، فَتَظافَرَتْ عَلَيْهِمُ الحُجَجُ العَقْلِيَّةُ والسَّمْعِيَّةُ، ومَعَ ذَلِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا ولَمْ يَتَّبِعُوا ما جاءَتِ الرُّسُلُ بِهِ عَنِ اللَّهِ تَعالى، ولِذَلِكَ خَتَمَها بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فَيُضِلُّ مَن يَشاءُ ويَخْتَصُّ بِالهِدايَةِ مَن يَشاءُ. فالمَعْنى: وما كانَ اللَّهُ لِيُدِيمَ إضْلالَ قَوْمٍ أرْشَدَهم إلى الهُدى حَتّى يُبَيِّنَ لَهم ما يَتَّقُونَهُ، أيْ: يَجْتَنِبُونَهُ فَلا يُجْدِي ذَلِكَ فِيهِمْ، فَحِينَئِذٍ يَدُومُ إضْلالُهم. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى عِلْمَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَهو يَعْلَمُ ما يَصْلُحُ لِكُلِّ أحَدٍ، وما هُيِّئَ لَهُ في سابِقِ الأزَلِ، ذَكَرَ ما دَلَّ عَلى القُدْرَةِ الباهِرَةِ مِن أنَّهُ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ، فَيَتَصَرَّفُ في عِبادِهِ بِما شاءَ، ثُمَّ ذَكَرَ مِن أعْظَمِ تَصَرُّفاتِهِ الإحْياءَ والإماتَةَ، أيْ: الإيجادُ والإعْدامُ. وتَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ هُنا قَوْلَهُ (يُحْيِي ويُمِيتُ) بِأنَّهُ إشارَةٌ إلى أنَّهُ يَجِبُ لِلْمُؤْمِنِينَ ألّا يَجْزَعُوا مِن عَدُوٍّ وإنْ كَثُرَ، ولا يَهابُوا أحَدًا، فَإنَّ المَوْتَ المَخُوفَ والحَياةَ المَحْتُومَةَ إنَّما هي بِيَدِ اللَّهِ - غَيْرُ مُناسِبٍ هُنا، وإنْ كانَ في نَفْسِهِ قَوْلًا صَحِيحًا. وتَقَدَّمَ شَرْحُ قَوْلِهِ: ﴿وما لَكم مِن دُونِ اللَّهِ مِن ولِيٍّ ولا نَصِيرٍ﴾ [البقرة: ١٠٧] في البَقَرَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب