الباحث القرآني

﴿وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحًا وآخَرَ سَيِّئًا عَسى اللَّهُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾: نَزَلَتْ في عَشَرَةِ رَهْطٍ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَلَمّا دَنا الرَّسُولُ ﷺ مِنَ المَدِينَةِ أوْثَقَ سَبْعَةً مِنهم. وقِيلَ: كانُوا ثَمانِيَةً، مِنهم: كَرْدَمُ، ومِرْداسُ، وأبُو قَيْسٍ، وأبُو لُبابَةَ. وقِيلَ: سَبْعَةٌ. وقِيلَ: سِتَّةٌ، أوْثَقَ ثَلاثَةٌ مِنهم أنْفُسَهم بِسَوارِي المَسْجِدِ، فِيهِمْ أبُو لُبابَةَ. وقِيلَ: كانُوا خَمْسَةً. وقِيلَ: ثَلاثَةً: أبُو لُبابَةَ بْنُ عَبْدِ المُنْذِرِ، وأوْسُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، ووَدِيعَةُ بْنُ خِذامٍ الأنْصارِيُّ. وقِيلَ: نَزَلَتْ في أبِي لُبابَةَ وحْدَهُ. ويَبْعُدُ ذَلِكَ مِن لَفْظِ (وآخَرُونَ)، لِأنَّهُ جَمْعٌ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المَسْجِدَ حِينَ قَدِمَ فَصَلّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، وكانَتْ عادَتَهُ كُلَّما قَدِمَ مِن سَفَرٍ، فَرَآهم مُوَثَّقِينَ، فَسَألَ عَنْهم: فَذَكَرُوا أنَّهم أقْسَمُوا لا يَحُلُّونَ أنْفُسَهم حَتّى يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هو الَّذِي يَحُلُّهم، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «وأنا أُقْسِمُ ألّا أحُلَّهم حَتّى أُؤْمَرَ فِيهِمْ، رَغِبُوا عَنِّي، وتَخَلَّفُوا عَنِ الغَزْوِ مَعَ المُسْلِمِينَ» فَنَزَلَتْ، فَأطْلَقَهم وعَذَرَهم. وقالَ مُجاهِدٌ: نَزَلَتْ في أبِي لُبابَةَ في شَأْنِهِ مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ حِينَ اسْتَشارُوهُ في النُّزُولِ عَلى حُكْمِ اللَّهِ ورَسُولِهِ، فَأشارَ هو لَهم إلى حَلْقِهِ، يُرِيدُ أنَّ الرَّسُولَ ﷺ يَذْبَحُهم إنْ نَزَلُوا، فَلَمّا افْتَضَحَ تابَ ونَدِمَ، ورَبَطَ نَفْسَهُ في سارِيَةٍ في المَسْجِدِ، وأقْسَمَ ألّا يَطْعَمَ ولا يَشْرَبَ حَتّى يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ أوْ يَمُوتَ، فَمَكَثَ كَذَلِكَ حَتّى عَفا اللَّهُ عَنْهُ. والِاعْتِرافُ: الإقْرارُ بِالذَّنْبِ. (عَمَلًا صالِحًا) تَوْبَةً ونَدَمًا، (وآخَرَ سَيِّئًا) (p-٩٥)أيْ: تَخَلُّفًا عَنْ هَذِهِ الغَزاةِ، قالَهُ الطَّبَرِيُّ، أوْ خُرُوجًا إلى الجِهادِ قَبْلُ، وتَخَلُّفًا عَنْ هَذِهِ، قالَهُ الحَسَنُ وغَيْرُهُ. أوْ تَوْبَةً وإثْمًا، قالَهُ الكَلْبِيُّ. وعَطْفُ أحَدِهِما عَلى الآخَرِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما مَخْلُوطٌ ومَخْلُوطٌ بِهِ، كَقَوْلِكَ: خَلَطْتُ الماءَ واللَّبَنَ، وهو بِخِلافِ خَلَطْتُ الماءَ بِاللَّبَنِ، فَلَيْسَ فِيهِ إلّا أنَّ الماءَ خُلِطَ بِاللَّبَنِ، قالَ مَعْناهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: ومَتى خَلَطْتَ شَيْئًا بِشَيْءٍ صَدَقَ عَلى كُلِّ واحِدٍ مِنهُما أنَّهُ مَخْلُوطٌ ومَخْلُوطٌ بِهِ، مِن حَيْثُ مَدْلُولِيَّةُ الخَلْطِ؛ لِأنَّها أمْرٌ نِسْبِيٌّ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن قَوْلِهِمْ: بِعْتُ الشّاءَ شاةً ودِرْهَمًا، بِمَعْنى شاةً بِدِرْهَمٍ. والِاعْتِرافُ بِالذَّنْبِ دَلِيلٌ عَلى التَّوْبَةِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ: عَسى اللَّهُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: عَسى مِنَ اللَّهِ واجِبٌ. انْتَهى. وجاءَ بِلَفْظِ عَسى لِيَكُونَ المُؤْمِنُ عَلى وجَلٍ، إذْ لَفْظَةُ (عَسى) طَمَعٌ وإشْفاقٌ، فَأُبْرِزَتِ التَّوْبَةُ في صُورَتِهِ، ثُمَّ خُتِمَ ذَلِكَ بِما دَلَّ عَلى قَبُولِ التَّوْبَةِ، وذَلِكَ صِفَةُ الغُفْرانِ والرَّحْمَةِ. وهَذِهِ الآيَةُ وإنْ نَزَلَتْ في ناسٍ مَخْصُوصِينَ فَهي عامَّةٌ في الأُمَّةِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ. وقالَ أبُو عُثْمانَ: ما في القُرْآنِ آيَةٌ أرْجى عِنْدِي لِهَذِهِ الأُمَّةِ مِن قَوْلِهِ: ﴿وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ﴾ . وفي حَدِيثِ الإسْراءِ والمِعْراجِ مِن تَخْرِيجِ البَيْهَقِيِّ: أنَّ الَّذِينَ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحًا وآخَرَ سَيِّئًا وتابُوا رَآهُمُ الرَّسُولُ ﷺ حَوْلَ إبْراهِيمَ، وفي ألْوانِهِمْ شَيْءٌ، وأنَّهم خُلِطَتْ ألْوانُهم بَعْدَ اغْتِسالِهِمْ في أنْهُرَ ثَلاثَةٍ، وجَلَسُوا إلى أصْحابِهِمُ البِيضِ الوُجُوهِ. ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهم وتُزَكِّيهِمْ بِها وصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهم واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾: الخِطابُ لِلرَّسُولِ، والضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى (الَّذِينَ خَلَطُوا) قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ أمْوالُنا الَّتِي خَلَّفَتْنا عَنْكَ فَتَصَدَّقْ بِها وطَهِّرْنا، فَقالَ: ”ما أُمِرْتُ أنْ آخُذَ مِن أمْوالِكم شَيْئًا“ فَنَزَلَتْ. فَيُرْوى أنَّهُ أخَذَ ثُلُثَ أمْوالِهِمْ مُراعاةً لِقَوْلِهِ: (خُذْ مِن أمْوالِهِمْ) . والَّذِي تَظاهَرَتْ بِهِ أقْوالُ المُتَأوِّلِينَ ابْنِ عَبّاسٍ وغَيْرِهِ - أنَّها في هَؤُلاءِ المُتَخَلِّفِينَ، وقالَ جَماعَةٌ مِنَ الفُقَهاءِ: المُرادُ بِهَذِهِ الآيَةِ الزَّكاةُ المَفْرُوضَةُ. فَقَوْلُهُ عَلى هَذا (مِن أمْوالِهِمْ) هو لِجَمِيعِ الأمْوالِ والنّاسِ، عامٌّ يُرادُ بِهِ الخُصُوصُ في الأمْوالِ، إذْ يَخْرُجُ عَنْهُ الأمْوالُ الَّتِي لا زَكاةَ فِيها كالرَّباعِ والثِّيابِ، وفي المَأْخُوذِ مِنهم كالعَبِيدِ، و(صَدَقَةً) مُطْلَقٌ، فَتَصْدُقُ بِأدْنى شَيْءٍ. وإطْلاقُ ابْنِ عَطِيَّةَ عَلى أنَّهُ مُجْمَلٌ فَيَحْتاجُ إلى تَفْسِيرٍ لَيْسَ بِجَيِّدٍ. وفي قَوْلِهِ: (خُذْ)، دَلِيلٌ عَلى أنَّ الإمامَ هو الَّذِي يَتَوَلّى أخْذَ الصَّدَقاتِ ويَنْظُرُ فِيها. و(مِن أمْوالِهِمْ): مُتَعَلِّقٌ بِـ (خُذْ) و(تُطَهِّرُهم)، و(تُزَكِّيهِمْ) حالٌ مِن ضَمِيرِ (خُذْ)، فالفاعِلُ ضَمِيرُ (خُذْ) . وأجازُوا أنْ يَكُونَ (مِن أمْوالِهِمْ) في مَوْضِعِ الحالِ؛ لِأنَّهُ لَوْ تَأخَّرَ لَكانَ صِفَةً، فَلَمّا تَقَدَّمَ كانَ حالًا، وأجازُوا أنْ يَكُونَ (تُطَهِّرُهم) صِفَةً، وأنْ يَكُونَ اسْتِئْنافًا، وأنْ يَكُونَ ضَمِيرُ (تُطَهِّرُهم) عائِدًا عَلى (صَدَقَةٍ)، ويَبْعُدُ هَذا لِعَطْفِ (وتُزَكِّيهِمْ) فَيَخْتَلِفُ الضَّمِيرانِ، فَأمّا ما حَكى مَكِّيٌّ مِن أنَّ (تُطَهِّرُهم) صِفَةٌ لِلصَّدَقَةِ، و(تُزَكِّيهِمْ) حالٌ مِن فاعِلِ (خُذْ)، فَقَدْ رُدَّ بِأنَّ الواوَ لِلْعَطْفِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: صَدَقَةً مُطَهِّرَةً ومُزَكِّيًا بِها، وهَذا فاسِدُ المَعْنى، ولَوْ كانَ بِغَيْرِ واوٍ جازَ. انْتَهى. ويَصِحُّ عَلى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، والواوُ لِلْحالِ، أيْ: وأنْتَ تُزَكِّيهِمْ، لَكِنَّ هَذا التَّخْرِيجَ ضَعِيفٌ لِقِلَّةِ نَظِيرِهِ في كَلامِ العَرَبِ. والتَّزْكِيَةُ مُبالَغَةٌ في التَّطَهُّرِ وزِيادَةٌ فِيهِ، أوْ بِمَعْنى الإنْماءِ والبَرَكَةِ في المالِ. وقَرَأ الحَسَنُ: (تُطَهِّرُهم)، مِن أطْهَرَ، واطَّهَّرَ وطَهَّرَ لِلتَّعْدِيَةِ مَن طَهُرَ. (وصَلِّ عَلَيْهِمْ) أيْ: ادْعُ لَهم، أوِ اسْتَغْفِرْ لَهم، أوْ صَلِّ عَلَيْهِمْ إذا ماتُوا، أقْوالٌ. ومَعْنى (سَكَنٌ): طُمَأْنِينَةٌ لَهم أنَّ اللَّهَ قَبِلَ صَدَقَتَهم، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ: أوْ رَحْمَةٌ لَهم، قالَهُ أيْضًا، أوْ قُرْبَةٌ، قالَهُ أيْضًا، أوْ زِيادَةُ وقارٍ لَهم، قالَهُ قَتادَةُ، أوْ تَثْبِيتٌ لِقُلُوبِهِمْ، قالَهُ أبُو عُبَيْدَةَ، أوْ أمْنٌ لَهم. قالَ: ؎يا جارَةَ الحَيِّ إنْ لا كُنْتِ لِي سَكَنًا إذْ لَيْسَ بَعْضٌ مِنَ الجِيرانِ أسْكَنَنِي وهَذِهِ أقْوالٌ مُتَقارِبَةٌ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: إنَّما كانَتْ سَكَنًا لَهم؛ لِأنَّ رُوحَهُ ﷺ كانَتْ رُوحًا قَوِيَّةً مُشْرِقَةً صافِيَةً، فَإذا دَعا لَهم وذَكَرَهم بِالخَيْرِ ثارَتْ آثارٌ مِن قُوَّتِهِ الرُّوحانِيَّةِ عَلى (p-٩٦)أرْواحِهِمْ فَأشْرَقَتْ بِهَذا السَّبَبِ أرْواحُهم، وصَفَتْ سَرائِرُهم، وانْقَلَبُوا مِنَ الظُّلْمَةِ إلى النُّورِ، ومِنَ الجُسْمانِيَّةِ إلى الرُّوحانِيَّةِ. قالَ الشَّيْخُ جَمالُ الدِّينِ أبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمانَ، عُرِفَ بِابْنِ النَّقِيبِ، في كِتابِهِ التَّحْرِيرِ والتَّحْبِيرِ: كَلامُ الرّازِيُّ كَلامٌ فَلْسَفِيٌّ يُشِيرُ فِيهِ إلى أنَّ قُوى الأنْفُسِ مُؤَثِّرَةٌ فَعّالَةٌ، وذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ عَلى طَرِيقَةِ أهْلِ التَّفْسِيرِ. انْتَهى. وقالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ في هَؤُلاءِ المُعْتَرِفِينَ المَأْخُوذِ مِنهُمُ الصَّدَقَةَ: هم سِوى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا. وقَرَأ الأخَوانِ وحَفْصٌ: (إنَّ صَلاتَكَ) هُنا، وفي هُودٍ (صَلاتَكَ) بِالتَّوْحِيدِ، وباقِي السَّبْعَةِ بِالجَمْعِ. (واللَّهُ سَمِيعٌ) بِاعْتِرافِهِمْ، (عَلِيمٌ) بِنَدامَتِهِمْ وتَوْبَتِهِمْ. ﴿ألَمْ يَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ هو يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ويَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وأنَّ اللَّهَ هو التَّوّابُ الرَّحِيمُ﴾: قالَ الَّذِينَ لَمْ يَتُوبُوا مِنَ المُتَخَلِّفِينَ: هَؤُلاءِ كانُوا بِالأمْسِ مَعَنا لا يُكَلَّمُونَ ولا يُجالَسُونَ، فَنَزَلَتْ. وفي مُصْحَفِ أُبَيٍّ، وقِراءَةُ الحَسَنِ بِخِلافٍ عَنْهُ: (ألَمْ تَعْلَمُوا) بِالتّاءِ عَلى الخِطابِ، فاحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ خِطابًا لِلْمُتَخَلِّفِينَ الَّذِينَ قالُوا: ما هَذِهِ الخاصَّةُ الَّتِي يُخَصُّ بِها هَؤُلاءِ ؟ واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ عَلى مَعْنى: قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ، وأنْ يَكُونَ خِطابًا عَلى سَبِيلِ الِالتِفاتِ مِن غَيْرِ إضْمارٍ لِلْقَوْلِ، ويَكُونُ المُرادُ بِهِ التّائِبِينَ كَقِراءَةِ الجُمْهُورِ بِالياءِ. وهو تَخْصِيصٌ وتَأْكِيدٌ أنَّ اللَّهَ مِن شَأْنِهِ قَبُولُ تَوْبَةِ مَن تابَ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: أما عَلِمُوا قَبْلَ أنْ يُتابَ عَلَيْهِمْ وتُقْبَلَ صَدَقاتُهم أنَّهُ تَعالى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ الصَّحِيحَةَ، ويَقْبَلُ الصَّدَقاتِ الخالِصَةَ النِّيَّةِ لِلَّهِ ؟ وقِيلَ: وجْهُ التَّخْصِيصِ بِـ ”هو“ - هو أنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ وأخْذَ الصَّدَقاتِ إنَّما هو لِلَّهِ لا لِغَيْرِهِ، فاقْصِدُوهُ ووَجِّهُوها إلَيْهِ. قالَ الزَّجّاجُ: وأخْذُ الصَّدَقاتِ مَعْناهُ قَبُولُها، وقَدْ ورَدَتْ أحادِيثُ كَنّى فِيها عَنِ القَبُولِ بِأنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ في يَدِ اللَّهِ تَعالى قَبْلَ أنْ تَقَعَ في يَدِ السّائِلِ، وأنَّ الصَّدَقَةَ تَكُونُ قَدْرَ اللُّقْمَةِ، فَيَأْخُذُها اللَّهُ بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيها حَتّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: المَعْنى يَأْمُرُ بِها ويَشْرَعُها، كَما تَقُولُ: أخَذَ السُّلْطانُ مِنَ النّاسِ كَذا إذا حَمَلَهم عَلى أدائِهِ. و”عَنْ“ بِمَعْنى ”مِن“، وكَثِيرًا ما يُتَوَصَّلُ في مَوْضِعٍ واحِدٍ بِهَذِهِ وهَذِهِ، تَقُولُ: لا صَدَقَةَ إلّا عَنْ غِنًى ومِن غِنًى، وفَعَلَ ذَلِكَ فُلانٌ مِن أسْرِهِ ونَظَرِهِ، وعَنْ أسْرِهِ ونَظَرِهِ. انْتَهى. وقِيلَ: كَلِمَةُ ”مِن“ وكَلِمَةُ ”عَنْ“ مُتَقارِبَتانِ، إلّا أنَّ ”عَنْ“ تُفِيدُ البُعْدَ. فَإذا قِيلَ: جَلَسَ عَنْ يَمِينِ الأمِيرِ أفادَ أنَّهُ جَلَسَ في ذَلِكَ الجانِبِ، ولَكِنْ مَعَ ضَرْبٍ مِنَ البُعْدِ، فَيُفِيدُها أنَّ التّائِبَ يَجِبُ أنْ يَعْتَقِدَ في نَفْسِهِ أنَّهُ بَعِيدٌ عَنْ قَبُولِ اللَّهِ تَوْبَتَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الذَّنْبِ، فَيَحْصُلُ لَهُ انْكِسارُ العَبْدِ الَّذِي طَرَدَهُ مَوْلاهُ وبُعْدُهُ عَنْ حَضْرَتِهِ. فَلَفَظَةُ ”عَنْ“ كالتَّنْبِيهِ عَلى أنَّهُ لا بُدَّ مِن حُصُولِ هَذا المَعْنى لِلتّائِبِ. انْتَهى. والَّذِي يَظْهَرُ مِن مَوْضُوعِ ”عَنْ“ أنَّها لِلْمُجاوَزَةِ. فَإنْ قُلْتَ: أخَذْتُ العِلْمَ عَنْ زَيْدٍ؛ فَمَعْناهُ أنَّهُ جاوَزَ إلَيْكَ، وإذا قُلْتَ: مِن زَيْدٍ؛ دَلَّ عَلى ابْتِداءِ الغايَةِ، وأنَّهُ ابْتِداءُ أخْذِكَ إيّاهُ مِن زَيْدٍ. و”عَنْ“ أبْلَغُ لِظُهُورِ الِانْتِقالِ مَعَهُ، ولا يَظْهَرُ مَعَ ”مِن“ . وكَأنَّهم لَمّا جاوَزَتْ تَوْبَتُهم عَنْهم إلى اللَّهِ، اتَّصَفَ هو تَعالى بِالتَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ. ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: (وأنَّ اللَّهَ هو التَّوّابُ الرَّحِيمُ)، فَكُلٌّ مِنهُما مُتَّصِفٌ بِالتَّوْبَةِ وإنِ اخْتَلَفَتْ جِهَتا النِّسْبَةِ. ألا تَرى إلى ما رُوِيَ: «ومَن تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنهُ ذِراعًا، ومَن تَقَرَّبَ مِنِّي ذِراعًا تَقَرَّبْتُ مِنهُ باعًا ومَن أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» . ﴿وقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللَّهُ عَمَلَكم ورَسُولُهُ والمُؤْمِنُونَ وسَتُرَدُّونَ إلى عالِمِ الغَيْبِ والشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾: صِيغَةُ أمْرٍ ضَمَّنَها الوَعِيدَ، والمُعْتَذِرُونَ التّائِبُونَ مِنَ المُتَخَلِّفِينَ هُمُ المُخاطَبُونَ. وقِيلَ: هُمُ المُعْتَذِرُونَ الَّذِينَ لَمْ يَتُوبُوا. وقِيلَ: المُؤْمِنُونَ والمُنافِقُونَ. (فَسَيَرى اللَّهُ) إلى آخِرِها - تَقَدَّمَ شَرْحُ نَظِيرِهِ. وإذا كانَ الضَّمِيرُ لِلْمُعْتَذِرِينَ الخالِطِينَ التّائِبِينَ، وهو الظّاهِرُ؛ فَقَدْ أُبْرِزُوا بِقَوْلِهِ: (فَسَيَرى اللَّهُ عَمَلَكم) إبْرازَ المُنافِقِينَ الَّذِينَ قِيلَ لَهم: ﴿لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكم قَدْ نَبَّأنا اللَّهُ مِن أخْبارِكم وسَيَرى﴾ [التوبة: ٩٤] الآيَةَ؛ تَنْقِيصًا مِن حالِهِمْ وتَنْفِيرًا عَمّا وقَعُوا فِيهِ مِنَ التَّخَلُّفِ عَنِ الرَّسُولِ، وأنَّهم وإنْ تابُوا لَيْسُوا كالَّذِينَ جاهَدُوا مَعَهُ بِأمْوالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ لا يَرْغَبُونَ بِأنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ. (p-٩٧)﴿وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأمْرِ اللَّهِ إمّا يُعَذِّبُهم وإمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وعِكْرِمَةُ، ومُجاهِدٌ، والضَّحّاكُ، وقَتادَةُ، وابْنُ إسْحاقَ: نَزَلَتْ في الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا قَبْلَ التَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ: هِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ الواقِفِيُّ، ومُرارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ العامِرِيُّ، وكَعْبُ بْنُ مالِكٍ. وقِيلَ: نَزَلَتْ في المُنافِقِينَ المُعْرِضِينَ لِلتَّوْبَةِ مَعَ بِنائِهِمْ مَسْجِدَ الضِّرارِ. وقَرَأ الحَسَنُ، وطَلْحَةُ، وأبُو جَعْفَرٍ، وابْنُ نَصّاحٍ، والأعْرَجُ، ونافِعٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وحَفْصٌ: (مُرْجَوْنَ) و(تُرْجِي) بِغَيْرِ هَمْزٍ. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ بِالهَمْزِ، وهُما لُغَتانِ. (لِأمْرِ اللَّهِ) أيْ: لِحُكْمِهِ، (إمّا يُعَذِّبُهم) إنْ أصَرُّوا ولَمْ يَتُوبُوا، (وإمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) إنْ تابُوا. وقالَ الحَسَنُ: هم قَوْمٌ مِنَ المُنافِقِينَ أرْجَأهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ حَضْرَتِهِ. وقالَ الأصَمُّ: يَعْنِي المُنافِقِينَ أرْجَأهُمُ اللَّهُ فَلَمْ يُخْبِرْ عَنْهم بِما عَلِمَ مِنهم، وحَذَّرَهم بِهَذِهِ الآيَةِ إنْ لَمْ يَتُوبُوا. و”إمّا“ مَعْناها المَوْضُوعَةُ لَهُ هو أحَدُ الشَّيْئَيْنِ أوِ الأشْياءِ، فَيَنْجَرُّ مَعَ ذَلِكَ أنْ تَكُونَ لِلشَّكِّ أوْ لِغَيْرِهِ، فَهي هُنا عَلى أصْلِ مَوْضُوعِها، وهو القَدْرُ المُشْتَرَكُ الَّذِي هو مَوْجُودٌ في سائِرِ ما زَعَمُوا أنَّها وُضِعَتْ لَهُ وضْعَ الِاشْتِراكِ. (واللَّهُ عَلِيمٌ) بِما يَئُولُ إلَيْهِ أمْرُهم، (حَكِيمٌ) فِيما يَفْعَلُهُ بِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب