الباحث القرآني

﴿والسّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ والَّذِينَ اتَّبَعُوهم بِإحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم ورَضُوا عَنْهُ وأعَدَّ لَهم جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها أبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ (p-٩٢)قالَ أبُو مُوسى الأشْعَرِيُّ، وابْنُ المُسَيِّبِ، وابْنُ سِيرِينَ، وقَتادَةُ: السّابِقُونَ الأوَّلُونَ مَن صَلّى إلى القِبْلَتَيْنِ. وقالَ عَطاءٌ: مَن شَهِدَ بَدْرًا، قالَ: وحُوِّلَتِ القِبْلَةُ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ. وقالَ الشَّعْبِيُّ: مَن أدْرَكَ بَيْعَةَ الرِّضْوانِ، بَيْعَةَ الحُدَيْبِيَةِ ما بَيْنَ الهِجْرَتَيْنِ، ومَن فَسَّرَ السّابِقِينَ بِواحِدٍ كَأبِي بَكْرٍ، أوْ عَلِيٍّ، أوْ زَيْدِ بْنِ حارِثَةَ، أوْ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، فَقَوْلُهُ بِعِيدٌ مِن لَفْظِ الجَمْعِ، وإنَّما يُناسِبُ ذَلِكَ في أوَّلِ مَن أسْلَمَ. والظّاهِرُ أنَّ السَّبْقَ هو إلى الإسْلامِ والإيمانِ. وقالَ ابْنُ بَحْرٍ: هُمُ السّابِقُونَ بِالمَوْتِ أوْ بِالشَّهادَةِ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ، سَبَقُوا إلى ثَوابِ اللَّهِ وحُسْنِ جَزائِهِ، و﴿مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ﴾، أيْ: ومِنَ الأنْصارِ، وهم أهْلُ بَيْعَةِ العَقَبَةِ أوَّلًا وكانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ، وأهْلُ العَقَبَةِ الثّانِيَةِ وكانُوا سَبْعِينَ، والَّذِينَ آمَنُوا حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِمْ أبُو زُرارَةَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ فَعَلَّمَهُمُ القُرْآنَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ولَوْ قالَ قائِلٌ: إنَّ السّابِقِينَ الأوَّلِينَ هم جَمِيعُ مَن هاجَرَ إلى أنِ انْقَضَتِ الهِجْرَةُ، لَكانَ قَوْلًا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ، وتَكُونُ ”مِن“ لِبَيانِ الجِنْسِ. ﴿والَّذِينَ اتَّبَعُوهم بِإحْسانٍ﴾ هم سائِرُ الصَّحابَةِ، ويَدْخُلُ في هَذا اللَّفْظِ التّابِعُونَ، وسائِرُ الأُمَّةِ، لَكِنْ بِشَرْطِ الإحْسانِ. وقَدْ لَزِمَ هَذا الِاسْمُ الَّذِي هو التّابِعُونَ مَن رَأى مَن رَأى النَّبِيَّ ﷺ . وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: الصَّحِيحُ عِنْدِي أنَّهُمُ السّابِقُونَ في الهِجْرَةِ والنَّصْرِ؛ لِأنَّ في لَفْظِ السّابِقَيْنِ إجْمالًا، ووَصْفُهم بِالمُهاجِرِينَ والأنْصارِ يُوجِبُ صَرْفَ ذَلِكَ إلى ما اتَّصَفَ بِهِ وهي الهِجْرَةُ والنُّصْرَةُ، والسَّبْقُ إلى الهِجْرَةِ صِفَةٌ عَظِيمَةٌ مِن حَيْثُ كَوْنِها شاقَّةً عَلى النَّفْسِ ومُخالِفَةً لِلطَّبْعِ، فَمَن أقْدَمَ أوَّلًا صارَ قُدْوَةً لِغَيْرِهِ فِيها، وكَذَلِكَ السَّبْقُ في النُّصْرَةِ فازُوا بِمَنصِبٍ عَظِيمٍ. انْتَهى مُلَخَّصًا. ولَمّا بَيَّنَ تَعالى فَضائِلَ الأعْرابِ المُؤْمِنِينَ المُتَصَدِّقِينَ، وما أعَدَّ لَهم مِنَ النَّعِيمِ؛ بَيَّنَ حالَ هَؤُلاءِ السّابِقِينَ وما أعَدَّ لَهم، وشَتّانَ ما بَيْنَ الإعْدادَيْنِ والثَّناءَيْنِ، هُناكَ قالَ: ﴿ألا إنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٩٩]، وهُنا ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾، وهُناكَ ﴿سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ في رَحْمَتِهِ﴾ [التوبة: ٩٩]، وهُنا ﴿وأعَدَّ لَهم جَنّاتٍ تَجْرِي﴾، وهُناكَ خَتَمَ: ﴿إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: ١٠٢]، وهُنا ﴿ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ . وقَرَأ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ، والحَسَنُ، وقَتادَةُ، وعِيسى الكُوفِيُّ، وسَلامٌ، وسَعِيدُ بْنُ أبِي سَعِيدٍ، وطَلْحَةُ، ويَعْقُوبُ: (والأنْصارُ) بِرَفْعِ الرّاءِ عَطْفًا عَلى (والسّابِقُونَ)، فَيَكُونُ الأنْصارُ جَمِيعُهم مُنْدَرِجِينَ في هَذا اللَّفْظِ. وعَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ وهي الجَرُّ، يَكُونُونَ قِسْمَيْنِ: سابِقٌ أوَّلُ، وغَيْرُ أوَّلَ. ويَكُونُ المُخْبَرُ عَنْهم بِالرِّضا سابَقُوهم، ﴿والَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ﴾ الضَّمِيرُ في القِراءَتَيْنِ عائِدٌ عَلى المُهاجِرِينَ والأنْصارِ. والظّاهِرُ أنَّ (السّابِقُونَ) مُبْتَدَأٌ، و(رَضِيَ اللَّهُ) الخَبَرُ، وجَوَّزُوا في الخَبَرِ أنْ يَكُونَ (الأوَّلُونَ)، أيْ: هُمُ الأوَّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ. وجَوَّزُوا في قَوْلِهِ: (والسّابِقُونَ) أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى قَوْلِهِ: (مَن يُؤْمِنُ)، أيْ: ومِنهُمُ السّابِقُونَ. وجَوَّزُوا في (والأنْصارِ) أنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وفي قِراءَةِ الرَّفْعِ خَبَرُهُ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم)، وذَلِكَ عَلى وجْهَيْنِ؛ (والسّابِقُونَ) وجْهُ العَطْفِ، ووَجْهٌ أنْ لا يَكُونَ الخَبَرُ (رَضِيَ اللَّهُ)، وهَذِهِ أعارِيبُ مُتَكَلَّفَةٌ لا تُناسِبُ إعْرابَ القُرْآنِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: (مِن تَحْتِها) بِإثْباتِ ”مِن“ الجارَّةِ، وهي ثابِتَةٌ في مَصاحِفِ مَكَّةَ. وباقِي السَّبْعَةِ بِإسْقاطِها عَلى ما رُسِمَ في مَصاحِفِهِمْ. وعَنْ عُمَرَ أنَّهُ كانَ يَرى: ﴿والَّذِينَ اتَّبَعُوهم بِإحْسانٍ﴾ بِغَيْرِ واوٍ، صِفَةً لِلْأنْصارِ، حَتّى قالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ ثابِتٍ: إنَّها بِالواوِ، فَقالَ: ائْتُونِي بِأُبَيٍّ، فَقالَ: تَصْدِيقُ ذَلِكَ في كِتابِ اللَّهِ في أوَّلِ الجُمُعَةِ ﴿وآخَرِينَ مِنهم لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ [الجمعة: ٣] وأوْسَطِ الحَشْرِ: ﴿والَّذِينَ جاءُوا مِن بَعْدِهِمْ﴾ [الحشر: ١٠] وآخِرِ الأنْفالِ: (والَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ) . ورُوِيَ أنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَؤُهُ بِالواوِ، فَقالَ: مَن أقْرَأكَ ؟ فَقالَ: أُبَيٍّ، فَدَعاهُ، فَقالَ: أقْرَأنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ومِن ثَمَّ قالَ عُمَرُ: لَقَدْ كُنْتُ أرانا وقَعْنا وقْعَةً لا يَبْلُغُها أحَدٌ بَعْدَنا. ﴿ومِمَّنْ حَوْلَكم مِنَ الأعْرابِ مُنافِقُونَ ومِن أهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهم نَحْنُ نَعْلَمُهم سَنُعَذِّبُهم مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذابٍ عَظِيمٍ﴾: (p-٩٣)لَمّا شَرَحَ أحْوالَ مُنافِقِي المَدِينَةِ، ثُمَّ أحْوالَ مُنافِقِي الأعْرابِ، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ في الأعْرابِ مَن هو مُخْلِصٌ صالِحٌ، ثُمَّ بَيَّنَ رُؤَساءَ المُؤْمِنِينَ مَن هم، ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّ مُنافِقِينَ حَوْلَكم مِنَ الأعْرابِ، وفي المَدِينَةِ لا تَعْلَمُونَهم، أيْ: لا تَعْلَمُونَ أعْيانَهم، أوْ لا تَعْلَمُونَهم مُنافِقِينَ. ومَعْنى (حَوْلَكم): حَوْلَ بَلْدَتِكم، وهي المَدِينَةُ. والَّذِينَ كانُوا حَوْلَ المَدِينَةِ: جُهَيْنَةُ، وأسْلَمُ، وأشْجَعُ، وغِفارٌ، ومُزَيْنَةُ، وعُصَيَّةُ، ولَحْيانُ، وغَيْرُهم مِمَّنْ جاوَرَ المَدِينَةَ. (ومِن أهْلِ المَدِينَةِ) يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن عَطْفِ المُفْرَداتِ، فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلى ”مِن“ في قَوْلِهِ: (ومِمَّنْ)، فَيَكُونُ المَجْرُورانِ يَشْتَرِكانِ في المُبْتَدَأِ الَّذِي هو (مُنافِقُونَ)، ويَكُونُ (مَرَدُوا) اسْتِئْنافًا، أخْبَرَ عَنْهم أنَّهم خِرِّيجُونَ في النِّفاقِ. ويَبْعُدُ أنْ يَكُونَ (مَرَدُوا) صِفَةً لِلْمُبْتَدَأِ الَّذِي هو (مُنافِقُونَ)، لِأجْلِ الفَصْلِ بَيْنَ الصِّفَةِ والمَوْصُوفِ بِالمَعْطُوفِ عَلى (ومِمَّنْ حَوْلَكم)، فَيَصِيرُ نَظِيرَ: في الدّارِ زِيدٌ، وفي القَصْرِ العاقِلُ، وقَدْ أجازَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ تابِعًا لِلزَّجّاجِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن عَطْفِ الجُمَلِ، ويُقَدَّرُ مَوْصُوفٌ مَحْذُوفٌ هو المُبْتَدَأُ، أيْ: ومِن أهْلِ المَدِينَةِ قَوْمٌ مَرَدُوا، أوْ مُنافِقُونَ مَرَدُوا. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَقَوْلِهِ: أنا ابْنُ جَلا. انْتَهى. فَإنْ كانَ شِبْهَهُ في مُطْلَقٍ حُذِفَ المَوْصُوفُ، وإنْ كانَ شِبْهَهُ في خُصُوصِيَّتِهِ فَلَيْسَ بِحَسَنٍ؛ لِأنَّ حَذْفَ المَوْصُوفِ مَعَ ”مِن“ وإقامَةَ صِفَتِهِ مَقامَهُ، وهي في تَقْدِيرِ الِاسْمِ، ولا سِيَّما في التَّفْصِيلِ - مُنْقاسٌ؛ كَقَوْلِهِمْ: مِنّا ظَعَنَ ومِنّا أقامَ. وأمّا أنا ابْنُ جَلا فَضَرُورَةُ شِعْرٍ كَقَوْلِهِ: ؎يَرْمِي بِكَفَّيْ كانَ مِن أرَمى البَشَرْ أيْ بِكَفَّيْ رَجُلٍ. وكَذَلِكَ أنا ابْنُ جَلا، تَقْدِيرُهُ: أنا ابْنُ رَجُلٍ جَلا، أيْ: كَشَفَ الأُمُورَ وبَيَّنَها، وعَلى الوَجْهِ الأوَّلِ يَكُونُ ”مَرَدُوا“ شامِلًا لِلنَّوْعَيْنِ، وعَلى الوَجْهِ الثّانِي يَكُونُ مُخْتَصًّا بِأهْلِ المَدِينَةِ. وتَقَدَّمَ شَرْحُ ”مَرَدُوا“ في قَوْلِهِ: (شَيْطانًا مَرِيدًا لَعَنَهُ اللَّهُ) وقالَ هُنا ابْنُ عَبّاسٍ: ”مَرَدُوا“ مَرَنُوا وثَبَتُوا، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: عَتَوْا مِن قَوْلِهِمْ تَمَرَّدَ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: أقامُوا عَلَيْهِ لَمْ يَتُوبُوا. (لا تَعْلَمُهم)، أيْ: حَتّى نُعْلِمَكَ بِهِمْ، أوْ لا تَعْلَمُ عَواقِبَ أمْرِهِمْ، حَكاهُ ابْنُ الجَوْزِيِّ. أوْ لا تَعْلَمُهم مُنافِقِينَ؛ لِأنَّ النِّفاقَ مُخْتَصٌّ بِالقَلْبِ. وتَقَدَّمَ لَفْظُ مُنافِقِينَ فَدَلَّ عَلى المَحْذُوفِ، فَتَعَدَّتْ إلى اثْنَيْنِ، قالَهُ الكَرْمانِيُّ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُخْفُونَ عَلَيْكَ مَعَ فِطْنَتِكَ وشَهامَتِكَ وصِدْقِ فِراسَتِكَ لِفَرْطِ تَوَقِّيهِمْ ما يُشَكِّكُ في أمْرِهِمْ. وأسْنَدَ الطَّبَرِيُّ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿لا تَعْلَمُهم نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾ قالَ: فَما بالُ أقْوامٍ يَتَكَلَّفُونَ عِلْمَ النّاسِ ؟ فُلانٌ في الجَنَّةِ، فُلانٌ في النّارِ، فَإذا سَألْتَ أحَدَهم عَنْ نَفْسِهِ قالَ: لا أدْرِي، أنْتَ لَعَمْرِي بِنَفْسِكَ أعْلَمُ مِنكَ بِأعْمالِ النّاسِ، ولَقَدْ تَكَلَّفْتَ شَيْئًا ما تَكَلَّفَهُ الرُّسُلُ. قالَ نَبِيُّ اللَّهِ نُوحٍ: ﴿وما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الشعراء: ١١٢] وقالَ نَبِيُّ اللَّهِ شُعَيْبٌ: ﴿بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكم إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وما أنا عَلَيْكم بِحَفِيظٍ﴾ [هود: ٨٦]، وقالَ اللَّهُ تَعالى لِنَبِيِّهِ: ﴿لا تَعْلَمُهم نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾ . انْتَهى. فَلَوْ عاشَ قَتادَةُ إلى هَذا العَصْرِ الَّذِي هو قَرْنُ ثَمانِمِائَةٍ وسَمِعَ ما أحْدَثَ هَؤُلاءِ المَنسُوبُونَ إلى الصُّوفِ مِنَ الدَّعاوى والكَلامِ المُبَهْرَجِ الَّذِي لا يَرْجِعُ إلى كِتابِ اللَّهِ وإلى سُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ، والتَّجَرِي عَلى الإخْبارِ الكاذِبِ عَنِ المُغَيَّباتِ، لَقَضى مِن ذَلِكَ العَجَبِ. وما كُنْتُ أظُنُّ أنَّ مِثْلَ ما حَكى قَتادَةُ يَقَعُ في ذَلِكَ الزَّمانِ لِقُرْبِهِ مِنَ الصَّحابَةِ وكَثْرَةِ الخَيْرِ، لَكِنَّ شَياطِينَ الإنْسِ يَبْعُدُ أنْ يَخْلُوَ مِنهم زَمانٌ. (نَحْنُ نَعْلَمُهم) قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَطَّلِعُ عَلى سِرِّهِمْ؛ لِأنَّهم يُبْطِنُونَ الكُفْرَ في سُوَيْداءِ قُلُوبِهِمْ إبْطانًا، ويُبْرِزُونَ لَكَ ظاهِرًا كَظاهِرِ المُخْلِصِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، لا تَشُكُّ مَعَهُ في إيمانِهِمْ؛ وذَلِكَ أنَّهم مَرَدُوا عَلى النِّفاقِ وضُرُوبِهِ، ولَهم فِيهِ اليَدُ الطُّولى. انْتَهى. وفي قَوْلِهِ: (نَحْنُ نَعْلَمُهم) تَهْدِيدٌ، وتَرَتَّبَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (سَنُعَذِّبُهم مَرَّتَيْنِ) . والظّاهِرُ إرادَةُ التَّثْنِيَةِ (p-٩٤)ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لا يُرادُ بِها شَفْعُ الواحِدِ، بَلْ يَكُونُ المَعْنى عَلى التَّكْثِيرِ كَقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ﴾ [الملك: ٤] أيْ كَرَّةً بَعْدَ كَرَّةٍ. كَذَلِكَ يَكُونُ مَعْنى هَذا: سَنُعَذِّبُهم مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وإذا كانَتِ التَّثْنِيَةُ مُرادَّةً فَأكْثَرُ النّاسِ عَلى أنَّ العَذابَ الثّانِيَ هو عَذابُ القَبْرِ، وأمّا المَرَّةُ الأُولى فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ في الأشْهَرِ عَنْهُ: هو فَضِيحَتُهم ووَصْمُهم بِالنِّفاقِ. ورُوِيَ في هَذا التَّأْوِيلِ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ خَطَبَ يَوْمَ جُمُعَةِ بَدْرٍ فَنَدَرَ بِالمُنافِقِينَ وصَرَّحَ، وقالَ: «اخْرُجْ يا فُلانُ مِنَ المَسْجِدِ فَإنَّكَ مُنافِقٌ، واخْرُجْ أنْتَ يا فُلانُ، واخْرُجْ أنْتَ يا فُلانُ» حَتّى أخْرَجَ جَماعَةً مِنهم، فَرَآهم عُمَرُ يَخْرُجُونَ مِنَ المَسْجِدِ وهو مُقْبِلٌ إلى الجُمُعَةِ فَظَنَّ أنَّ النّاسَ انْتَشَرُوا، وأنَّ الجُمُعَةِ فاتَتْهُ، فاخْتَفى مِنهم حَياءً، ثُمَّ وصَلَ المَسْجِدَ فَرَأى أنَّ الصَّلاةَ لَمْ تُقْضَ وفَهِمَ الأمْرَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وفِعْلُهُ ﷺ عَلى جِهَةِ التَّأْدِيبِ اجْتِهادًا مِنهُ فِيهِمْ، ولَمْ يَسْلُخْهم ذَلِكَ مِنَ الإسْلامِ، وإنَّما هو كَما يَخْرُجُ العُصاةُ والمُتَّهَمُونَ، ولا عَذابَ أعْظَمُ مِن هَذا. وكانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَثِيرًا ما يَتَكَلَّمُ فِيهِمْ عَلى الإجْمالِ دُونَ تَعْيِينٍ، فَهَذا أيْضًا مِنَ العَذابِ. انْتَهى. ويَبْعُدُ ما قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ؛ لِأنَّهُ نَصٌّ عَلى نِفاقِ مَن أُخْرِجَ بِعَيْنِهِ، فَلَيْسَ مِن بابِ إخْراجِ العُصاةِ، بَلْ هَؤُلاءِ كُفّارٌ عِنْدَهُ وإنْ أظْهَرُوا الإسْلامَ. وقالَ قَتادَةُ وغَيْرُهُ: العَذابُ الأوَّلُ عِلَلٌ وأدْواءٌ أخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أنَّهُ سَيُصِيبُهم بِها، ورُوِيَ أنَّهُ أسَرَّ إلى حُذَيْفَةَ بِاثْنَيْ عَشَرَ مِنهم وقالَ: «سِتَّةٌ مِنهم تَكْفِيهِمُ الدُّبَيْلَةُ سِراجٌ مِن نارِ جَهَنَّمَ تَأْخُذُ في كَتِفِ أحَدِهِمْ حَتّى تُفْضِيَ إلى صَدْرِهِ، وسِتَّةٌ يَمُوتُونَ مَوْتًا» . وقالَ مُجاهِدٌ: هو عَذابُهم بِالقَتْلِ والجُوعِ. قِيلَ: وهَذا بَعِيدٌ؛ لِأنَّ مِنهم مَن لَمْ يُصِبْهُ هَذا. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: هو هَوانُهم بِإقامَةِ حُدُودِ الشَّرْعِ عَلَيْهِمْ مَعَ كَراهِيَتِهِمْ فِيهِ. وقالَ ابْنُ إسْحاقَ: هو هَمُّهم بِظُهُورِ الإسْلامِ وعُلُوِّ كَلِمَتِهِ. وقِيلَ: ضَرْبُ المَلائِكَةِ وُجُوهَهم وأدْبارَهم عِنْدَ قَبْضِ أرْواحِهِمْ. وقالَ الحَسَنُ: الأوَّلُ ما يُؤْخَذُ مِن أمْوالِهِمْ قَهْرًا، والثّانِي الجِهادُ الَّذِي يُؤْمَرُونَ بِهِ قَسْرًا؛ لِأنَّهم يَرَوْنَ ذَلِكَ عَذابًا. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَرَّتَيْنِ هُما عَذابُ الدُّنْيا بِالأمْوالِ والأوْلادِ، كُلُّ صِنْفٍ عَذابٌ، فَهو مَرَّتانِ، وقَرَأ (فَلا تُعْجِبْكَ) الآيَةَ. وقِيلَ: إحْراقُ مَسْجِدِ الضِّرارِ، والآخَرُ إحْراقُهم بِنارِ جَهَنَّمَ. ولا خِلافَ أنَّ قَوْلَهُ: (إلى عَذابٍ عَظِيمٍ) هو عَذابُ الآخِرَةِ وفي مُصْحَفِ أنَسٍ: (سَيُعَذِّبُهم) بِالياءِ، وسَكَّنَ عَيّاشُ عَنْ أبِي عَمْرٍو الياءَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب