الباحث القرآني

﴿فَأمّا الإنْسانُ﴾ ذَكَرَ تَعالى ما كانَتْ قُرَيْشٌ تَقُولُهُ وتَسْتَدِلُّ بِهِ عَلى إكْرامِ اللَّهِ تَعالى وإهانَتِهِ لِعَبْدِهِ، فَيَرَوْنَ المُكْرَمَ مَن عِنْدَهُ الثَّرْوَةُ والأوْلادُ، والمُهانَ ضِدَّهُ، ولَمّا كانَ هَذا غالِبًا عَلَيْهِمْ وُبِّخُوا بِذَلِكَ. والإنْسانُ اسْمُ جِنْسٍ، ويُوجَدُ هَذا في كَثِيرٍ مِن أهْلِ الإسْلامِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: بِمَ اتَّصَلَ قَوْلُهُ: ﴿فَأمّا الإنْسانُ﴾ ؟ قُلْتُ: بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصادِ﴾ [الفجر: ١٤] كَأنَّهُ قالَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى لا يُرِيدُ مِنَ الإنْسانِ إلّا الطّاعَةَ والسَّعْيَ لِلْعاقِبَةِ، وهو مُرْصِدٌ لِلْعاصِي، فَأمّا الإنْسانُ فَلا يُرِيدُ ذَلِكَ ولا يُهِمُّهُ إلّا العاجِلَةَ وما يُلِذُّهُ ويُنَعِّمُهُ فِيها. انْتَهى. وفِيهِ التَّصْرِيحُ بِمَذْهَبِ الِاعْتِزالِ في قَوْلِهِ: لا يُرِيدُ مِنِ الإنْسانِ إلّا الطّاعَةَ. وإذا العامِلُ فِيهِ (فَيَقُولُ) والنِّيَّةُ فِيهِ التَّأْخِيرُ، أيْ: فَيَقُولُ كَذا وقْتَ الِابْتِداءِ، وهَذِهِ الفاءُ لا تَمْنَعُ أنْ يَعْمَلَ ما بَعْدَها فِيما قَبْلَها، وإنْ كانَتْ فاءً دَخَلَتْ في خَبَرِ المُبْتَدَأِ لِأجْلِ أمّا الَّتِي فِيها مَعْنى الشَّرْطِ، وبَعْدَ أمّا الثّانِيَةِ مُضْمَرٌ بِهِ وقَعَ التَّوازُنُ بَيْنَ الجُمْلَتَيْنِ تَقْدِيرُهُ: فَأمّا إذا هو ما ابْتَلاهُ، وفَيَقُولُ خَبَرٌ عَنْ ذَلِكَ المُبْتَدَأِ المُضْمَرِ، وابْتَلاهُ مَعْناهُ: اخْتَبَرَهُ، أيَشْكُرُ أمْ يَكْفُرُ إذا بَسَطَ لَهُ ؟ وأيَصْبِرُ أمْ يَجْزَعُ إذا ضَيَّقَ عَلَيْهِ ؟ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ونَبْلُوكم بِالشَّرِّ والخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: ٣٥] . وقابَلَ (ونَعَّمَهُ) بِقَوْلِهِ: ﴿فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ ولَمْ يُقابِلْ (فَأكْرَمَهُ) بِلَفْظِ (فَأهانَهُ)، لِأنَّهُ لَيْسَ مَن يُضَيَّقُ عَلَيْهِ الرِّزْقُ، كانَ ذَلِكَ إهانَةً لَهُ، ألا تَرى إلى ناسٍ كَثِيرٍ مِن أهْلِ الصَّلاحِ مُضَيَّقًا عَلَيْهِمُ الرِّزْقُ كَحالِ الإمامِ أبِي سُلَيْمانَ داوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الأصْبَهانِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ وغَيْرِهِ، وذَمَّ اللَّهُ تَعالى العَبْدَ في حالَتَيْهِ هاتَيْنِ. أمّا في قَوْلِهِ: ﴿فَيَقُولُ رَبِّي أكْرَمَنِ﴾ فَلِأنَّهُ إخْبارٌ مِنهُ عَلى أنَّهُ يَسْتَحِقُّ الكَرامَةَ ويَسْتَوْجِبُها. وأمّا قَوْلُهُ: (أهانَنِ) فَلِأنَّهُ سَمّى تَرْكَ التَّفْضِيلِ مِنَ اللَّهِ تَعالى إهانَةً ولَيْسَ بِإهانَةٍ، أوْ يَكُونُ إذا تَفَضَّلَ عَلَيْهِ أقَرَّ بِإحْسانِ اللَّهِ إلَيْهِ، وإذا لَمْ يَتَفَضَّلْ عَلَيْهِ سَمّى تَرْكَ تَفَضُّلِ اللَّهِ إهانَةً، لا إلى الِاعْتِرافِ بِقَوْلِهِ: (أكْرَمْنِ) . وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: (أكْرَمَنِي وأهانَنِي) بِالياءِ فِيهِما، ونافِعٌ: بِالياءِ وصْلًا وحَذْفِها وقْفًا، وخَيَّرَ في الوَجْهَيْنِ أبُو عَمْرٍو، وحَذَفَها باقِي السَّبْعَةِ فِيهِما وصْلًا ووَقْفًا، ومَن حَذَفَها وقْفًا سَكَّنَ النُّونَ فِيهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (فَقَدَرَ) بِخَفِّ الدّالِ، وأبُو جَعْفَرٍ، وعِيسى، وخالِدٌ، والحَسَنُ بِخِلافٍ عَنْهُ، وابْنُ عامِرٍ: بِشَدِّها. قالَ الجُمْهُورُ: هُما بِمَعْنًى واحِدٍ، بِمَعْنى ضَيَّقَ، والتَّضْعِيفُ فِيهِ لِلْمُبالَغَةِ لا لِلتَّعَدِّي، ولا يَقْتَضِي (p-٤٧١)ذَلِكَ قَوْلُ الإنْسانِ (أهانَنِ) لِأنَّ إعْطاءَ ما يَكْفِيهِ لا إهانَةَ فِيهِ. (كَلّا) رَدٌّ عَلى قَوْلِهِمْ ومُعْتَقَدِهِمْ، أيْ لَيْسَ إكْرامُ اللَّهِ وتَقْدِيرُ الرِّزْقِ سَبَبُهُ ما ذَكَرْتُمْ، بَلْ إكْرامُهُ العَبْدَ تَيْسِيرُهُ لِتَقْواهُ، وإهانَتُهُ: تَيْسِيرُهُ لِلْمَعْصِيَةِ، ثُمَّ أخْبَرَهم بِما هم عَلَيْهِ مِن أعْمالِهِمُ السَّيِّئَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (كَلّا) رَدْعٌ لِلْإنْسانِ عَنْ قَوْلِهِ، ثُمَّ قالَ: بَلْ هُنا شَرٌّ مِن هَذا القَوْلِ، وهو أنَّ اللَّهَ تَعالى يُكْرِمُهم بِكَثْرَةِ المالِ، فَلا يُؤَدُّونَ فِيها ما يَلْزَمُهم مِن إكْرامِ اليَتِيمِ بِالتَّفَقُّدِ والمَبَرَّةِ وحَضِّ أهْلِهِ عَلى طَعامِ المِسْكِينِ ويَأْكُلُونَهُ أكْلَ الأنْعامِ ويُحِبُّونَهُ فَيَشِحُّونَ بِهِ. انْتَهى. وفي الحَدِيثِ: «(أحَبُّ البُيُوتِ إلى اللَّهِ تَعالى بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ مُكْرَمٌ)» . وقَرَأ الحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، وأبُو رَجاءٍ، وقَتادَةُ، والجَحْدَرِيُّ وأبُو عُمَرَ: (يُكْرِمُونَ، ولا يَحُضُّونَ، ويَأْكُلُونَ، ويُحِبُّونَ) بِياءِ الغَيْبَةِ فِيها، وباقِي السَّبْعَةِ بِتاءِ الخِطابِ، وأبُو جَعْفَرٍ وشَيْبَةُ والكُوفِيُّونَ وابْنُ مِقْسَمٍ: (تَحاضُّونَ) بِفَتْحِ التّاءِ والألِفِ أصْلُهُ تَتَحاضُّونَ، وهي قِراءَةُ الأعْمَشِ، أيْ يَحُضُّ بَعْضُكم بَعْضًا، وعَبْدُ اللَّهِ أوْ عَلْقَمَةُ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبارَكِ والشِّيرازِيُّ عَنِ الكِسائِيِّ: كَذَلِكَ إلّا أنَّهم ضَمُّوا التّاءَ، أيْ (تُحاضُّونَ) أنْفُسَكم، أيْ بَعْضُكم بَعْضًا، وتَفاعَلَ وفاعَلَ يَأْتِي بِمَعْنى فَعَلَ أيْضًا ﴿عَلى طَعامِ﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى إطْعامٍ، كالعَطاءِ بِمَعْنى الإعْطاءِ، والأوْلى أنْ يَكُونَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ عَلى بَذْلِ طَعامٍ. ﴿وتَأْكُلُونَ التُّراثَ﴾ كانُوا لا يُوَرِّثُونَ النِّساءَ ولا صِغارَ الأوْلادِ، فَيَأْكُلُونَ نَصِيبَهم ويَقُولُونَ: لا يَأْخُذُ المِيراثَ إلّا مَن يُقاتِلُ ويَحْمِي الحَوْزَةَ، والتُّراثُ تاؤُهُ بَدَلٌ مِن واوٍ، كالتُّكَلَةِ والتُّخَمَةِ مِن تَوَكَّلْتُ ووَخِمْتُ. وقِيلَ: كانُوا يَأْكُلُونَ ما جَمَعَهُ المَيِّتُ مِنَ الظُّلْمَةِ وهم عالِمُونَ بِذَلِكَ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الحَلالِ والحَرامِ ويُسْرِفُونَ في إنْفاقِ ما ورِثُوهُ؛ لِأنَّهم ما تَعِبُوا في تَحْصِيلِهِ، كَما شاهَدْنا الوُرّاثَ البَطّالِينَ. (كَلّا) رَدْعٌ لَهم عَنْ ذَلِكَ وإنْكارٌ لِفِعْلِهِمْ، ثُمَّ أتى بِالوَعِيدِ وذَكَرَ تَحَسُّرَهم عَلى ما فَرَّطُوا فِيهِ في دارِ الدُّنْيا. ﴿دَكًّا دَكًّا﴾ حالٌ كَقَوْلِهِمْ: بابًا بابًا، أيْ مُكَرَّرًا عَلَيْهِمُ الدَّكُّ ﴿وجاءَ رَبُّكَ﴾ قالَ القاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: مَعْناهُ ظُهُورُهُ لِلْخَلْقِ هُنالِكَ، ولَيْسَ بِمَجِيءِ نُقْلَةٍ، وكَذَلِكَ مَجِيءُ الطّامَّةِ والصّاخَّةِ، وقِيلَ: وجاءَ قُدْرَتُهُ وسُلْطانُهُ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هو تَمْثِيلٌ لِظُهُورِ آياتِ اقْتِدارِهِ وتَبْيِينِ آثارِ قُدْرَتِهِ وسُلْطانِهِ، مُثِّلَتْ حالُهُ في ذَلِكَ بِحالِ المَلِكِ إذا حَضَرَ بِنَفْسِهِ ظَهَرَ بِحُضُورِهِ مِن آثارِ الهَيْبَةِ والسِّياسَةِ ما لا يَظْهَرُ بِحُضُورِ عَساكِرِهِ كُلِّها ووُزَرائِهِ وخَواصِّهِ. انْتَهى. والمَلِكُ اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ المَلائِكَةَ، ورُوِيَ أنَّهُ مَلائِكَةُ كُلِّ سَماءٍ تَكُونُ صَفًّا حَوْلَ الأرْضِ في يَوْمِ القِيامَةِ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿صَفًّا صَفًّا﴾ تَنْزِلُ مَلائِكَةُ كُلِّ سَماءٍ فَيَصْطَفُّونَ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ مُحْدِقِينَ بِالجِنِّ والإنْسِ. انْتَهى. ﴿وجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وبُرِّزَتِ الجَحِيمُ لِمَن يَرى﴾ [النازعات: ٣٦]، (يَوْمَئِذٍ) بَدَلٌ مِن (إذا) قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وعامِلُ النَّصْبِ فِيهِما يَتَذَكَّرُ. انْتَهى. ظاهِرُ كَلامِهِ أنَّ العامِلَ في البَدَلِ هو العامِلُ نَفْسُهُ في المُبْدَلِ مِنهُ، وهو قَوْلٌ قَدْ نُسِبَ إلى سِيبَوَيْهِ، والمَشْهُورُ خِلافُهُ، وهو أنَّ البَدَلَ عَلى نِيَّةِ تَكْرارِ العامِلِ، أيْ يَتَذَكَّرُ ما فَرَّطَ فِيهِ ﴿وأنّى لَهُ الذِّكْرى﴾ أيْ مَنفَعَةُ الذِّكْرى؛ لِأنَّهُ وقْتٌ لا يَنْفَعُ فِيهِ التَّذَكُّرُ، لَوِ اتَّعَظَ في الدُّنْيا لَنَفَعَهُ ذَلِكَ في الأُخْرى، قالَهُ الجُمْهُورُ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وغَيْرُهُ: أوْ وقْتَ حَياتِي في الدُّنْيا، كَما تَقُولُ: جِئْتُ لِطُلُوعِ الشَّمْسِ ولِتارِيخِ كَذا وكَذا. وقالَ قَوْمٌ: لِحَياتِي في قَبْرِي، يَعْنِي الَّذِي كُنْتُ أُكَذِّبُ بِهِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهَذا أبْيَنُ دَلِيلٍ عَلى أنَّ الِاخْتِيارَ كانَ في أيْدِيهِمْ ومُعَلَّقًا بِقَصْدِهِمْ وإرادَتِهِمْ، وأنَّهم لَمْ يَكُونُوا مَحْجُورِينَ عَنِ الطّاعاتِ مُجْبَرِينَ عَلى المَعاصِي، كَمَذْهَبِ أهْلِ الأهْواءِ والبِدَعِ، وإلّا فَما مَعْنى التَّحَسُّرِ ؟ انْتَهى. وهو عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِزالِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (لا يُعَذِّبُ)، (ولا يُوثِقُ) مَبْنِيَّيْنِ لِلْفاعِلِ، والضَّمِيرُ في (عَذابَهُ)، و(وثاقَهُ) عائِدٌ عَلى اللَّهِ تَعالى، أيْ لا يَكِلْ عَذابَهُ ولا وثاقَهُ إلى أحَدٍ؛ لِأنَّ الأمْرَ لِلَّهِ وحْدَهُ في ذَلِكَ، أوْ هو مِنَ الشِّدَّةِ في حَيِّزٍ لَمْ يُعَذِّبْ قَطُّ أحَدٌ في الدُّنْيا مِثْلَهُ، والأوَّلُ أوْضَحُ (p-٤٧٢)لِقَوْلِهِ: لا يُعَذِّبُ، ولا يُوثِقُ، ولا يُطْلَقُ عَلى الماضِي إلّا بِمَجازٍ بَعِيدٍ، بَلْ مَوْضُوعُ لا إذا دَخَلَتْ عَلى المُضارِعِ أنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَلًا، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ قَبْلَها عائِدًا عَلى الكافِرِ، أيْ لا يُعَذِّبُ أحَدٌ مِنَ الزَّبانِيَةِ مِثْلَ ما يُعَذِّبُونَهُ. وقِيلَ إلى اللَّهِ، أيْ لا يُعَذِّبُ أحَدٌ في الدُّنْيا عَذابَ اللَّهِ لِلْكافِرِ، ويُضَعِّفُ هَذا عَمَلُ (لا يُعَذِّبُ) في (يَوْمَئِذٍ)، وهو ظَرْفُ مُسْتَقْبَلٍ، وقَرَأ ابْنُ سِيرِينَ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ، وسِوارٌ القاضِي، وأبُو حَيْوَةَ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ، وأبُو بَحْرِيَّةَ، وسَلّامٌ، والكِسائِيُّ، ويَعْقُوبُ، وسَهْلٌ، عَنْ أبِي عَمْرٍو: بِفَتْحِ الذّالِ والثّاءِ مَبْنِيَّيْنِ لِلْمَفْعُولِ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِيهِما مُضافًا لِلْمَفْعُولِ وهو الأظْهَرُ، أيْ لا يُعَذَّبُ أحَدٌ مِثْلَ عَذابِهِ، ولا يُوثَقُ بِالسَّلاسِلِ والأغْلالِ مِثْلَ وِثاقِهِ، أوْ لا يَحْمِلُ أحَدٌ عَذابَ الإنْسانِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ [الأنعام: ١٦٤]، وعَذابٌ وُضِعَ مَوْضِعَ تَعْذِيبٍ، وفي اقْتِباسِ مِثْلِ هَذا خِلافٌ، وهو أنْ يَعْمَلَ ما وُضِعَ لِغَيْرِ المَصْدَرِ، كالعَطاءِ والثَّوابِ والعَذابِ والكَلامِ، فالبَصْرِيُّونَ لا يُجِيزُونَهُ ويَقِيسُونَهُ، وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ وشَيْبَةُ ونافِعٌ بِخِلافٍ عَنْهم: (وِثاقُهُ) بِكَسْرِ الواوِ، والجُمْهُورُ: بِفَتْحِها، والمُعَذَّبُ هو الكافِرُ عَلى العُمُومِ، وقِيلَ: هو أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ. وقِيلَ: أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ. وقِيلَ: المُرادُ بِهِ إبْلِيسُ، وقامَ الدَّلِيلُ عَلى أنَّهُ أشَدُّ مِنَ النّاسِ عَذابًا، ويَدْفَعُ القَوْلَ هَذا قَوْلُهُ: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسانُ﴾، والضَّمائِرُ كُلُّها مَسُوقَةٌ لَهُ، ولَمّا ذَكَرَ تَعالى شَيْئًا مِن أحْوالِ مَن يُعَذَّبُ ذَكَرَ شَيْئًا مِن أحْوالِ المُؤْمِنِ فَقالَ: ﴿ياأيَّتُها النَّفْسُ﴾ وهَذا النِّداءُ الظّاهِرُ أنَّهُ عَلى لِسانِ مَلَكٍ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: بِتاءِ التَّأْنِيثِ، وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: (يا أيُّها) بِغَيْرِ تاءٍ، ولا أعْلَمُ أحَدًا ذَكَرَ أنَّها تُذَكَّرُ، وإنْ كانَ المُنادى مُؤَنَّثًا إلّا صاحِبَ البَدِيعِ، وهَذِهِ القِراءَةُ شاهِدَةٌ بِذَلِكَ، ولِذَلِكَ وجْهٌ مِنَ القِياسِ، وذَلِكَ أنَّهُ لَمْ يُثَنَّ ولَمْ يُجْمَعْ في نِداءِ المُثَنّى والمَجْمُوعِ، فَكَذَلِكَ لَمْ يُؤَنَّثْ في نِداءِ المُؤَنَّثِ. (المُطْمَئِنَّةُ) الآمِنَةُ الَّتِي لا يَلْحَقُها خَوْفٌ ولا حُزْنٌ، أوِ الَّتِي كانَتْ مُطْمَئِنَّةً إلى الحَقِّ لَمْ يُخالِطْها شَكٌّ. قالَ ابْنُ زَيْدٍ: يُقالُ لَها ذَلِكَ عِنْدَ المَوْتِ وخُرُوجِها مِن جَسَدِ المُؤْمِنِ في الدُّنْيا، وقِيلَ: عِنْدَ البَعْثِ، وقِيلَ: عِنْدَ دُخُولِ الجَنَّةِ. ﴿إلى رَبِّكِ﴾ أيْ إلى مَوْعِدِ رَبِّكَ. وقِيلَ: الرَّبُّ هُنا الإنْسانُ دُونَ النَّفْسِ، أيِ ادْخُلِي في الأجْسادِ، والنَّفْسُ اسْمُ جِنْسٍ، وقِيلَ: هَذا النِّداءُ هو الآنَ لِلْمُؤْمِنِينَ، لَمّا ذَكَرَ حالَ الكُفّارِ قالَ: يا مُؤْمِنُونَ دُومُوا وجِدُّوا حَتّى تَرْجِعُوا راضِينَ مَرْضِيِّينَ، (راضِيَةً) بِما أُوتِيتِهِ (مَرْضِيَّةً) عِنْدَ اللَّهِ ﴿فادْخُلِي في عِبادِي﴾ أيْ في جُمْلَةِ عِبادِي الصّالِحِينَ ﴿وادْخُلِي جَنَّتِي﴾ مَعَهم، وقِيلَ: النَّفْسُ والرُّوحُ، والمَعْنى: فادْخُلِي في أجْسادِ عِبادِي، وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿فِي عِبادِي﴾ جَمْعًا، وابْنُ عَبّاسٍ، وعِكْرِمَةُ، والضَّحّاكُ، ومُجاهِدٌ، وأبُو جَعْفَرٍ، وأبُو صالِحٍ، والكَلْبِيُّ، وأبُو شَيْخٍ الهَنائِيُّ واليَمانِيُّ: في عَبْدِي عَلى الإفْرادِ، والأظْهَرُ أنَّهُ أُرِيدَ بِهِ اسْمُ الجِنْسِ، فَمَدْلُولُهُ ومَدْلُولُ الجَمْعِ واحِدٌ. وقِيلَ: هو عَلى حَذْفٍ خاطَبَ النَّفْسَ مُفْرَدَةً، فَقالَ: فادْخُلِي في عَبْدِي: أيْ في جَسَدِ عَبْدِي، وتَعَدّى (فادْخُلِي) أوَّلًا بِفي، وثانِيًا بِغَيْرِ فاءٍ، وذَلِكَ أنَّهُ إذا كانَ المَدْخُولُ فِيهِ غَيْرَ ظَرْفٍ حَقِيقِيٍّ تَعَدَّتْ إلَيْهِ بِفي دَخَلَتْ في الأمْرِ ودَخَلَتْ في غِمارِ النّاسِ، ومِنهُ: ﴿فادْخُلِي في عِبادِي﴾ . وإذا كانَ المَدْخُولُ فِيهِ ظَرْفًا حَقِيقِيًّا، تَعَدَّتْ إلَيْهِ في الغالِبِ بِغَيْرِ وساطَةِ في. قِيلَ: في عُثْمانَ بْنِ عَفّانَ، وقِيلَ: في حَمْزَةَ، وقِيلَ: في خُبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم أجْمَعِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب