الباحث القرآني

﴿الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ﴾ صِفَةُ ذَمٍّ ﴿كُلُّ مُعْتَدٍ﴾ مُتَجاوِزِ الحَدِّ (p-٤٤١)(أثِيمٍ) صِفَةُ مُبالَغَةٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (إذا) والحَسَنُ: (أئِذا) بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ. والجُمْهُورُ: (تُتْلى) بِتاءِ التَّأْنِيثِ، وأبُو حَيْوَةَ، وابْنُ مِقْسَمٍ: بِالياءِ. قِيلَ: ونَزَلَتْ في النَّضْرِ بْنِ الحَرْثِ ﴿بَلْ رانَ﴾ قُرِئَ بِإدْغامِ اللّامِ في الرّاءِ، وبِالإظْهارِ وقَفَ حَمْزَةُ عَلى بَلْ وقْفًا خَفِيفًا يَسِيرًا لِتَبْيِينِ الإظْهارِ. وقالَ أبُو جَعْفَرِ بْنُ الباذِشِ: وأجْمَعُوا - يَعْنِي القُرّاءَ - عَلى إدْغامِ اللّامِ في الرّاءِ إلّا ما كانَ مِن سَكْتِ حَفْصٍ عَلى (بَلْ) ثُمَّ يَقُولُ: (رانَ) . وهَذا الَّذِي ذَكَرَهُ لَيْسَ كَما ذَكَرَ مِنَ الإجْماعِ، فَفي كِتابِ اللَّوامِحِ عَنْ قالُونَ مِن جَمِيعِ طُرُقِهِ إظْهارُ اللّامِ عِنْدَ الرّاءِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ﴾ [النساء: ١٥٨]، ﴿بَل رَبُّكُمْ﴾ [الأنبياء: ٥٦] . وفي كِتابِ ابْنِ عَطِيَّةَ، وقَرَأ نافِعٌ: ﴿بَلْ رانَ﴾ غَيْرَ مُدْغَمٍ، وفِيهِ أيْضًا: وقَرَأ نافِعٌ أيْضًا بِالإدْغامِ والإمالَةِ. وقالَ سِيبَوَيْهِ: اللّامُ مَعَ الرّاءِ نَحْوَ: (أسْفَلُ رَحِمِهِ) البَيانُ والإدْغامُ حَسَنانِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقُرِئَ بِإدْغامِ اللّامِ في الرّاءِ وبِالإظْهارِ، والإدْغامُ أجْوَدُ، وأُمِيلَتِ الألِفُ وفُخِّمَتْ. انْتَهى. وقالَ سِيبَوَيْهِ: فَإذا كانَتْ - يَعْنِي اللّامَ - غَيْرَ لامِ المَعْرِفَةِ نَحْوَ لامِ هَلْ وبَلْ، فَإنَّ الإدْغامَ في بَعْضِها أحْسَنُ، وذَلِكَ نَحْوُ: هَلْ رَأيْتَ، فَإنْ لَمْ تُدْغِمْ فَقُلْتَ: هَلْ رَأيْتَ، فَهي لُغَةٌ لِأهْلِ الحِجازِ، وهي غَرِيبَةٌ جائِزَةٌ. انْتَهى. وقالَ الحَسَنُ والسُّدِّيُّ: هو الذَّنْبُ عَلى الذَّنْبِ. وقالَ الحَسَنُ: حَتّى يَمُوتَ قَلْبُهُ. وقالَ السُّدِّيُّ: حَتّى يَسْوَدَّ القَلْبُ. وفي الحَدِيثِ نَحْوٌ مِن هَذا. فَقالَ الكَلْبِيُّ: طَبَعَ عَلى قُلُوبِهِمْ. وقالَ ابْنُ سَلّامٍ: غَطّى. ﴿ما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وعَلَّقَ اللَّوْمَ بِهِمْ فِيما كَسَبُوهُ، وإنْ كانَ ذَلِكَ بِخَلْقٍ مِنهُ تَعالى واخْتِراعٍ، لِأنَّ الثَّوابَ والعِقابَ مُتَعَلِّقانِ بِكَسْبِ العَبْدِ. والضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: (إنَّهم) لِلْكُفّارِ فَمَن قالَ بِالرُّؤْيَةِ، وهو قَوْلُ أهْلِ السُّنَّةِ، قالَ إنَّ هَؤُلاءِ لا يَرَوْنَ رَبَّهم، فَهم مَحْجُوبُونَ عَنْهُ، واحْتَجَّ بِهَذِهِ الآيَةِ مالِكٌ عَلى سَبِيلِهِ الرُّؤْيَةُ مِن جِهَةِ دَلِيلِ الخِطابِ، وإلّا فَلَوْ حَجَبَ الكُلَّ لَما أغْنى هَذا التَّخْصِيصُ. وقالَ الشّافِعِيُّ: لَمّا حَجَبَ قَوْمًا بِالسُّخْطِ، دَلَّ عَلى أنْ قَوْمًا يَرَوْنَهُ بِالرِّضا. ومَن قالَ بِأنْ لا رُؤْيَةَ، وهو قَوْلُ المُعْتَزِلَةِ، قالَ: إنَّهم يُحْجَبُونَ عَنْ رَبِّهِمْ وغُفْرانِهِ. انْتَهى. وقالَ أنَسُ بْنُ مالِكٍ: لَمّا حَجَبَ أعْداءَهُ فَلَمْ يَرَوْهُ تَجَلّى لِأوْلِيائِهِ حَتّى رَأوْهُ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (كَلّا) رَدْعٌ عَنِ الكَسْبِ الرّائِنِ عَلى قُلُوبِهِمْ، وكَوْنُهم مَحْجُوبِينَ عَنْهُ تَمْثِيلٌ لِلِاسْتِخْفافِ بِهِمْ وإهانَتِهِمْ؛ لِأنَّهُ لا يُؤْذَنُ عَلى المُلُوكِ إلّا لِلْوُجَهاءِ المُكَرَّمِينَ لَدَيْهِمْ، ولا يُحْجَبُ عَنْهم إلّا الأدْنِياءُ المُهانُونَ عِنْدَهم، قالَ الشّاعِرُ: ؎إذا اعْتَرَوْا بابَ ذِي عَيْبَةٍ رُحِّبُوا والنّاسُ ما بَيْنَ مَرْحُوبٍ ومَحْجُوبِ وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وقَتادَةَ، وابْنِ أبِي مُلَيْكَةَ: مَحْجُوبِينَ عَنْ رَحْمَتِهِ. وعَنْ ابْنِ كَيْسانَ: عَنْ كَرامَتِهِ. انْتَهى. وعَنْ مُجاهِدٍ: المَعْنى مَحْجُوبُونَ عَنْ كَرامَتِهِ ورَحْمَتِهِ، وعَنْ رَبِّهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِـ(مَحْجُوبُونَ)، وهو العامِلُ في يَوْمَئِذٍ، والتَّنْوِينُ تَنْوِينُ العِوَضِ مِنَ الجُمْلَةِ المَحْذُوفَةِ، ولَمْ تَتَقَدَّمْ جُمْلَةٌ قَرِيبَةٌ يَكُونُ عِوَضًا مِنها، لَكِنَّهُ تَقَدَّمَ ﴿يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ العالَمِينَ﴾ [المطففين: ٦] فَهو عِوَضٌ مِن هَذِهِ الجُمْلَةِ، كَأنَّهُ قِيلَ: يَوْمَ إذِ يَقُومُ النّاسُ، ثُمَّ هم مَعَ الحِجابِ عَنِ اللَّهِ هم صالُو النّارِ، وهَذِهِ ثَمَرَةُ الحِجابِ ﴿ثُمَّ يُقالُ﴾ أيْ تَقُولُ لَهم خَزَنَةُ النّارِ (هَذا) أيِ العَذابُ وصَلْيُ النّارِ وهَذا اليَوْمُ ﴿الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ . قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ﴿هَذا الَّذِي﴾ يَعْنِي: الجُمْلَةُ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ لِأنَّهُ قَوْلٌ بُنِيَ لَهُ الفِعْلُ الَّذِي هو يُقالُ. انْتَهى. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى نَحْوِ هَذا في أوَّلِ البَقَرَةِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذا قِيلَ لَهم لا تُفْسِدُوا في الأرْضِ﴾ [البقرة: ١١] . قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿كَلّا إنَّ كِتابَ الأبْرارِ لَفي عِلِّيِّينَ﴾ ﴿وما أدْراكَ ما عِلِّيُّونَ﴾ ﴿كِتابٌ مَرْقُومٌ﴾ ﴿يَشْهَدُهُ المُقَرَّبُونَ﴾ ﴿إنَّ الأبْرارَ لَفي نَعِيمٍ﴾ ﴿عَلى الأرائِكِ يَنْظُرُونَ﴾ ﴿تَعْرِفُ في وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ ﴿يُسْقَوْنَ مِن رَحِيقٍ مَخْتُومٍ﴾ ﴿خِتامُهُ مِسْكٌ﴾ ﴿وفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنافَسِ المُتَنافِسُونَ﴾ ﴿ومِزاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ﴾ ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِها المُقَرَّبُونَ﴾ ﴿إنَّ الَّذِينَ أجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ﴾ ﴿وإذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ﴾ ﴿وإذا انْقَلَبُوا إلى أهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ﴾ ﴿وإذا رَأوْهم قالُوا إنَّ هَؤُلاءِ لَضالُّونَ﴾ ﴿وما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ﴾ ﴿فاليَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الكُفّارِ يَضْحَكُونَ﴾ ﴿عَلى الأرائِكِ يَنْظُرُونَ﴾ ﴿هَلْ ثُوِّبَ الكُفّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ﴾ . (p-٤٤٢)لَمّا ذَكَرَ تَعالى أمْرَ كِتابِ الفُجّارِ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ كِتابِ ضِدِّهِمْ لِيَتَبَيَّنَ الفَرْقُ. عِلِّيُّونَ: جَمْعٌ واحِدُهُ عَلِيٌّ، مُشْتَقٌّ مِنَ العُلُوِّ، وهو المُبالَغَةُ، قالَهُ يُونُسُ وابْنُ جِنِّيٍّ. قالَ أبُو الفَتْحِ: وسَبِيلُهُ أنْ يُقالَ عِلِّيَّةٌ، كَما قالُوا لِلْغُرْفَةِ عِلِّيَّةٌ، فَلَمّا حُذِفَتِ التّاءُ عَوَّضُوا مِنها الجَمْعَ بِالواوِ والنُّونِ. وقِيلَ: هو وصْفٌ لِلْمَلائِكَةِ، فَلِذَلِكَ جُمِعَ بِالواوِ والنُّونِ. وقالَ الفَرّاءُ: هو اسْمٌ مَوْضُوعٌ عَلى صِفَةِ الجَمْعِ، ولا واحِدَ لَهُ مِن لَفْظِهِ، كَقَوْلِهِ: عِشْرِينَ وثَلاثِينَ، والعَرَبُ إذا جَمَعَتْ جَمْعًا، ولَمْ يَكُنْ لَهُ بِناءٌ مِن واحِدِهِ ولا تَثْنِيَةٌ، قالُوا في المُذَكَّرِ والمُؤَنَّثِ بِالواوِ والنُّونِ. وقالَ الزَّجّاجُ: أُعْرِبَ هَذا الِاسْمُ كَإعْرابِ الجَمْعِ، هَذِهِ قَنْسَرُونَ، ورَأيْتُ قَنْسَرِينَ. وعِلِّيُّونَ: المَلائِكَةُ، أوِ المَواضِعُ العَلِيَّةُ، أوْ عَلَمٌ لِدِيوانِ الخَيْرِ الَّذِي دُوِّنَ فِيهِ كُلُّ ما عَلِمَتْهُ المَلائِكَةُ وصُلَحاءُ الثَّقَلَيْنِ، أوْ عُلُوٌّ في عُلُوٍّ مُضاعَفٍ، أقْوالٌ ثَلاثَةٌ لِلزَّمَخْشَرِيِّ. وقالَ أبُو مُسْلِمٍ: ﴿كِتابَ الأبْرارِ﴾: كِتابَةَ أعْمالِهِمْ ﴿لَفِي عِلِّيِّينَ﴾ . ثُمَّ وصَفَ عِلِّيِّينَ بِأنَّهُ ﴿كِتابٌ مَرْقُومٌ﴾ فِيهِ جَمِيعُ أعْمالِ الأبْرارِ. وإذا كانَ مَكانًا فاخْتَلَفُوا في تَعْيِينِهِ اخْتِلافًا مُضْطَرِبًا رَغِبْنا عَنْ ذِكْرِهِ، وإعْرابُ ﴿لَفِي عِلِّيِّينَ﴾ و﴿كِتابٌ مَرْقُومٌ﴾ كَإعْرابِ ﴿لَفِي سِجِّينٍ﴾ [المطففين: ٧] و﴿كِتابٌ مَرْقُومٌ﴾ . وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: و﴿كِتابٌ مَرْقُومٌ﴾ في هَذِهِ الآيَةِ خَبَرُ إنَّ والظَّرْفُ مُلْغًى. انْتَهى. هَذا كَما قالَ في ﴿لَفِي سِجِّينٍ﴾ [المطففين: ٧] وقَدْ رَدَدْنا عَلَيْهِ ذَلِكَ وهَذا مِثْلُهُ. والمُقَرَّبُونَ هُنا، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ: هُمُ المَلائِكَةُ أهْلُ كُلِّ سَماءٍ (يَنْظُرُونَ) قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وعِكْرِمَةُ، ومُجاهِدٌ: إلى ما أُعِدَّ لَهم مِنَ الكَراماتِ. وقالَ مُقاتِلٌ: إلى أهْلِ النّارِ. وقِيلَ: يَنْظُرُ بَعْضُهم إلى بَعْضٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (تَعْرِفُ) بِتاءِ الخِطابِ لِلرَّسُولِ، أوْ لِلنّاظِرِ ﴿نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ نَصْبًا. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ، وطَلْحَةُ، وشَيْبَةُ، ويَعْقُوبُ والزَّعْفَرانِيُّ: (تُعْرَفُ) مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، (نَضْرَةُ) رَفْعًا، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ كَذَلِكَ، إلّا أنَّهُ قَرَأ: (يُعْرَفُ) بِالياءِ، إذْ تَأْنِيثُ نَضْرَةٍ مَجازِيٌّ، والنَّضْرَةُ تَقَدَّمَ شَرْحُها في قَوْلِهِ: ﴿نَضْرَةً وسُرُورًا﴾ [الإنسان: ١١] . (مَخْتُومٍ) الظّاهِرُ أنَّ الرَّحِيقَ خُتِمَ عَلَيْهِ تَهَمُّمًا وتَنَظُّفًا بِالرّائِحَةِ المِسْكِيَّةِ، كَما فَسَّرَهُ ما بَعْدَهُ. وقِيلَ: تُخْتَمُ أوانِيهِ مِنَ الأكْوابِ والأبارِيقِ بِمِسْكٍ مَكانَ الطِّينَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (خِتامُهُ): أيْ خَلْطُهُ ومِزاجُهُ، قالَهُ عَبْدُ اللَّهِ وعَلْقَمَةُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ جُبَيْرٍ، والحَسَنُ: مَعْناهُ خاتِمَتُهُ، أيْ يَجِدُ الرّائِحَةَ عِنْدَ خاتِمَةِ الشَّرابِ رائِحَةَ المِسْكِ. وقالَ أبُو عَلِيٍّ: أيْ أبْزارُهُ المُقَطَّعُ وذَكاءُ الرّائِحَةِ مَعَ طِيبِ الطَّعْمِ. وقِيلَ: يُمْزَجُ بِالكافُورِ ويُخْتَمُ مِزاجُهُ بِالمِسْكِ. وفي الصِّحاحِ: الخِتامُ: الطِّينُ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ، وكَذا قالَ مُجاهِدٌ وابْنُ زَيْدٍ: خُتِمَ إناؤُهُ بِالمِسْكِ بَدَلَ الطِّينِ، وقالَ الشّاعِرُ: ؎كَأنَّ مُشَعْشَعًا مِن خَمْرِ بُصْرى ∗∗∗ نَمَّتْهُ البَحْثُ مَشْدُودُ الخِتامِ وقَرَأ عَلِيٌّ، والنَّخَعِيُّ، والضَّحّاكُ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وأبُو حَيْوَةَ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ، والكِسائِيُّ: (خاتَمُهُ) بَعْدَ الخاءِ ألِفٌ وفَتَحَ التّاءَ، وهَذِهِ بَيِّنَةُ المَعْنى، إنَّهُ يُرادُ بِها الطَّبْعُ عَلى الرَّحِيقِ. وعَنِ الضَّحّاكِ، وعِيسى، وأحْمَدَ بْنِ جُبَيْرٍ الأنْطاكِيِّ عَنِ الكِسائِيِّ: كَسْرُ التّاءِ، أيْ آخِرُهُ مِثْلُ قَوْلِهِ: (وخاتَمَ النَّبِيِّينَ) . وفِيهِ حَذْفٌ، أيْ خاتِمُ رائِحَتِهِ المِسْكُ، أوْ خاتَمُهُ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ ويُقْطَعُ ﴿مِن تَسْنِيمٍ﴾ قالَ عَبْدُ اللَّهِ وابْنُ عَبّاسٍ: هو أشْرَفُ شَرابِ الجَنَّةِ، وهو اسْمٌ مُذَّكَّرٌ لِماءِ عَيْنٍ في الجَنَّةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (تَسْنِيمٍ): عَلَمٌ لَعِينٌ بِعَيْنِها سُمِّيَتْ بِالتَّسْنِيمِ الَّذِي هو مَصْدَرُ: سَنَّمَهُ إذا رَفَعَهُ. و(عَيْنًا) نُصِبَ عَلى المَدْحِ. وقالَ الزَّجّاجُ: عَلى الحالِ. انْتَهى. وقالَ الأخْفَشُ: يُسْقَوْنَ عَيْنًا ﴿يَشْرَبُ بِها﴾ أيْ يَشْرَبُها أوْ مِنها، أوْ ضَمَّنَ يَشْرَبُ مَعْنى يُرْوى، بِها أقْوالٌ. (المُقَرَّبُونَ) قالَ (p-٤٤٣)ابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ، وأبُو صالِحٍ: يَشْرَبُها المُقَرَّبُونَ صِرْفًا ويُمْزَجُ لِلْأبْرارِ، ومَذْهَبُ الجُمْهُورِ: الأبْرارُ هم أصْحابُ اليَمِينِ، وأنَّ المُقَرَّبِينَ هُمُ السّابِقُونَ، وقالَ قَوْمٌ: الأبْرارُ والمُقَرَّبُونَ في هَذِهِ الآيَةِ بِمَعْنًى واحِدٍ يَقَعُ لِكُلِّ مَن نُعِّمَ في الجَنَّةِ. ورُوِيَ أنَّ عَلِيًّا وجَمْعًا مَعَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ مَرُّوا بِجَمْعٍ مِن كُفّارِ قُرَيْشٍ، فَضَحِكُوا مِنهم واسْتَخَفُّوا بِهِمْ عَبَثًا، فَنَزَلَتْ: ﴿إنَّ الَّذِينَ أجْرَمُوا﴾ قَبْلَ أنْ يَصِلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ إلى الرَّسُولِ ﷺ، وكُفّارُ مَكَّةَ هَؤُلاءِ قِيلَ هم: أبُو جَهْلٍ، والوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ، والعاصِي بْنُ وائِلٍ، والمُؤْمِنُونَ: عَمّارٌ، وصُهَيْبٌ، وخَبّابٌ، وبِلالٌ، وغَيْرُهم مِن فُقَراءِ المُؤْمِنِينَ، والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في (مَرُّوا) عائِدٌ عَلى ﴿الَّذِينَ أجْرَمُوا﴾ إذْ في ذَلِكَ تَناسُقُ الضَّمائِرِ لِواحِدٍ. وقِيلَ: لِلْمُؤْمِنِينَ، أيْ وإذا مَرَّ المُؤْمِنُونَ بِالكافِرِينَ يَتَغامَزُ الكافِرُونَ، أيْ يُشِيرُونَ بِأعْيُنِهِمْ. و(فاكِهِينَ): أيْ مُتَلَذِّذِينَ بِذِكْرِهِمْ وبِالضَّحِكِ مِنهم، وقَرَأ الجُمْهُورُ: فاكِهِينَ بِالألِفِ، أيْ أصْحابُ فاكِهَةٍ ومَزْحٍ وسُرُورٍ بِاسْتِخْفافِهِمْ بِأهْلِ الإيمانِ، وأبُو رَجاءٍ، والحَسَنُ، وعِكْرِمَةُ، وأبُو جَعْفَرٍ، وحَفْصٌ: بِغَيْرِ ألِفٍ، والضَّمِيرُ المَرْفُوعُ في (رَأوْهم) عائِدٌ عَلى المُجْرِمِينَ، أيْ إذا رَأوُا المُؤْمِنِينَ نَسَبُوهم إلى الضَّلالِ، وهم مُحِقُّونَ في نِسْبَتِهِمْ إلَيْهِ. ﴿وما أُرْسِلُوا﴾ عَلى الكُفّارِ (حافِظِينَ) . وفي الإشارَةِ إلَيْهِمْ بِأنَّهم ضالُّونَ إثارَةٌ لِلْكَلامِ بَيْنَهم، وكانَ في الآيَةِ بَعْضُ مُوادَعَةٍ، أيْ إنَّ المُؤْمِنِينَ لَمْ يُرْسَلُوا حافِظِينَ عَلى الكُفّارِ، وهَذا عَلى القَوْلِ بِأنَّ هَذا مَنسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وإنَّهم لَمْ يُرْسَلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ، إنْكارًا لِصَدِّهِمْ إيّاهم عَنِ الشِّرْكِ، ودُعائِهِمْ إلى الإسْلامِ، وجِدِّهِمْ في ذَلِكَ، ولَمّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ يَوْمِ القِيامَةِ قِيلَ: ﴿فاليَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، و(اليَوْمَ) مَنصُوبٌ بِـ(يَضْحَكُونَ) مِنهم في الآخِرَةِ، و(يَنْظُرُونَ) حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ في (يَضْحَكُونَ) أيْ يَضْحَكُونَ ناظِرِينَ إلَيْهِمْ وإلى ما هم فِيهِ مِنَ الهَوانِ والعَذابِ بَعْدَ العِزَّةِ والنَّعِيمِ، وقالَ كَعْبٌ لِأهْلِ الجَنَّةِ: كُوًى يَنْظُرُونَ مِنها إلى أهْلِ النّارِ، وقِيلَ: سِتْرٌ شَفّافٌ بَيْنَهم يَرَوْنَ مِنهُ حالَهم ﴿هَلْ ثُوِّبَ﴾ أيْ هَلْ جُوزِيَ ؟ يُقالُ: ثَوَّبَهُ وأثابَهُ إذا جازاهُ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎سَأجْزِيكَ أوْ يَجْزِيكَ عَنِّي مُثَوِّبٌ ∗∗∗ وحَسْبُكَ أنْ يُثْنى عَلَيْكَ وتُحْمَدَ وهُوَ اسْتِفْهامٌ بِمَعْنى التَّقْرِيرِ لِلْمُؤْمِنِينَ، أيْ هَلْ جُوزُوا بِها ؟ وقِيلَ: ﴿هَلْ ثُوِّبَ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِـ(يَنْظُرُونَ)، ويَنْظُرُونَ مُعَلَّقٌ بِالجُمْلَةِ في مَوْضِعِ نَصْبٍ بَعْدَ إسْقاطِ حَرْفِ الجَرِّ الَّذِي هو إلى، وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿هَلْ ثُوِّبَ﴾ بِإظْهارِ لامِ هَلْ، والنَّحْوِيّانِ وحَمْزَةُ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِإدْغامِها في الثّاءِ، وفي قَوْلِهِ: ﴿ما كانُوا﴾ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ جَزاءَ أوْ عِقابَ: ﴿ما كانُوا يَفْعَلُونَ﴾ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب