الباحث القرآني

﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللَّهُ وجِلَتْ قُلُوبُهم وإذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهم إيمانًا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ قُرِئَ: وجَلَتْ، بِفَتْحِ الجِيمِ، وهي لُغَةٌ، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَرِقَتْ، وقَرَأ أُبَيٌّ: فَزِعَتْ، ويَنْبَغِي أنْ تُحْمَلَ هاتانِ القِراءَتانِ عَلى التَّفْسِيرِ، ولَمّا كانَ مَعْنى: ﴿إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: ٨٥]، قالَ: إنَّما المُؤْمِنُونَ، أيِ: الكامِلُو الإيمانِ، ثُمَّ أخْبَرَ عَنْهم بِمَوْصُولٍ وُصِلَ بِثَلاثِ مَقاماتٍ عَظِيمَةٍ: مَقامِ الخَوْفِ، ومَقامِ زِيادَةِ الإيمانِ، ومَقامِ التَّوَكُّلِ، ويُحْتَمَلُ قَوْلُهُ: ﴿إذا ذُكِرَ اللَّهُ﴾ إنْ يُذْكَرِ اسْمُهُ ويُلْفَظْ بِهِ تَفْزَعْ قُلُوبُهم لِذِكْرِهِ اسْتِعْظامًا لَهُ وتَهَيُّبًا وإجْلالًا، ويَكُونُ هَذا الذِّكْرُ مُخالِفًا لِلذِّكْرِ في قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهم وقُلُوبُهم إلى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر: ٢٣]؛ لِأنَّ ذِكْرَ اللَّهِ هُناكَ رَأْفَتُهُ ورَحْمَتُهُ وثَوابُهُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذِكْرُ اللَّهِ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: ذُكِرَتْ عَظَمَةُ اللَّهِ وقُدْرَتُهُ وما خَوَّفَ بِهِ مَن عَصاهُ، قالَهُ الزَّجّاجُ، وقالَ السُّدِّيُّ: هو الرَّجُلُ يَهُمُّ بِالمَعْصِيَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ فَيَفْزَعُ عَنْها، وفي الحَدِيثِ في السَّبْعِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَحْتَ ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلّا ظِلُّهُ: «ورَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأةُ ذاتُ جِمالٍ ومَنصِبٍ، فَقالَ: إنِّي أخافُ اللَّهَ»، ومَعْنى زادَتْهم إيمانًا، أيْ: يَقِينًا وتَثْبِيتًا؛ لِأنَّ تَظاهُرَ الأدِلَّةِ وتَظافُرَها أقْوى عَلى الطُّمَأْنِينَةِ المَدْلُولِ عَلَيْهِ وأرْسَخُ لِقَدَمِهِ. وقِيلَ: المَعْنى أنَّهُ إذا كانَ لَمْ يَسْمَعْ حُكْمًا مِن أحْكامِ القُرْآنِ مُنَزَّلٌ لِلنَّبِيِّ (p-٤٥٨)ﷺ فَآمَنَ بِهِ زادَ إيمانًا إلى سائِرِ ما قَدْ آمَنَ بِهِ؛ إذْ لِكُلِّ حُكْمٍ تَصْدِيقٌ خاصٌّ، ولِهَذا قالَ مُجاهِدٌ: عَبَّرَ بِزِيادَةِ الإيمانِ عَنْ زِيادَةِ العِلْمِ وأحْكامِهِ. وقِيلَ: زِيادَةُ الإيمانِ كِنايَةٌ عَنْ زِيادَةِ العَمَلِ، وعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ أنَّ لِلْإيمانِ سُنَّةً وفَرائِضَ وشَرائِعَ، فَمَنِ اسْتَكْمَلَها اسْتَكْمَلَ الإيمانَ؛ وقِيلَ: هَذا في الظّالِمِ يُوعَظُ فَيُقالُ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ، فَيُقْلِعُ فَيَزِيدُهُ ذَلِكَ إيمانًا، والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ داخِلٌ في صِلَةِ الَّذِينَ كَما قُلْنا قَبْلُ؛ وقِيلَ: هو مُسْتَأْنَفٌ وتَرْتِيبُ هَذِهِ المَقاماتِ أحْسَنُ تَرْتِيبٍ، فَبَدَأ بِمَقامِ الخَوْفِ إمّا خَوْفُ الإجْلالِ والهَيْبَةِ، وإمّا خَوْفُ العِقابِ، ثُمَّ ثانِيًا: بِالإيمانِ بِالتَّكالِيفِ الوارِدَةِ، ثُمَّ ثالِثًا: بِالتَّفْوِيضِ إلى اللَّهِ والِانْقِطاعِ إلَيْهِ ورُخْصِ ما سِواهُ. ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ الأحْسَنُ أنْ يَكُونَ: (الَّذِينَ) صِفَةً لِلَّذِينَ السّابِقَةِ حَتّى تَدْخُلَ في حَيِّزِ الجُزْئِيَّةِ، فَيَكُونَ ذَلِكَ إخْبارًا عَنِ المُؤْمِنِينَ بِثَلاثٍ: الصِّفَةِ القَلْبِيَّةِ، وعَنْهم بِالصِّفَةِ البَدَنِيَّةِ، والصِّفَةِ المالِيَّةِ، وجَمَعَ أفْعالَ القُلُوبِ لِأنَّها أشْرَفُ، وجَمَعَ في أفْعالِ الجَوارِحِ بَيْنَ الصَّلاةِ والصَّدَقَةِ؛ لِأنَّهُما عَمُودا أفْعالٍ، وأجازَ الحَوْفِيُّ والتَّبْرِيزِيُّ أنْ يَكُونَ: (الَّذِينَ) بَدَلًا مِنَ الَّذِينَ، وأنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: هُمُ الَّذِينَ، والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ عامٌّ في الزَّكاةِ ونَوافِلِ الصَّدَقاتِ وصِلاتِ الرَّحِمِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المَبارِّ المالِيَّةِ، وقَدْ خَصَّ ذَلِكَ جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ بِالزَّكاةِ لِاقْتِرانِها بِالصَّلاةِ. ﴿أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: حَقًّا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ، كَذا نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ، وهو المَصْدَرُ غَيْرُ المُنْتَقِلِ والعامِلُ فِيهِ أحَقَّ ذَلِكَ حَقًّا، انْتَهى، ومَعْنى ذَلِكَ أنَّهُ تَأْكِيدٌ لِما تَضَمَّنَتْهُ الجُمْلَةُ مِنَ الإسْنادِ الخَبَرِيِّ، وأنَّهُ لا مَجازَ في ذَلِكَ الإسْنادِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حَقًّا صِفَةٌ لِلْمَصْدَرِ المَحْذُوفِ، أيْ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ﴾ إيمانًا حَقًّا، وهو مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي هي ﴿أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ﴾، كَقَوْلِهِ: هو عَبْدُ اللَّهِ حَقًّا، أيْ: حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا. وعَنِ الحَسَنِ أنَّهُ سَألَهُ رَجُلٌ: أمُؤْمِنٌ أنْتَ ؟ قالَ: الإيمانُ إيمانانِ، فَإنْ كُنْتَ تَسْألُنِي عَنِ الإيمانِ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ واليَوْمِ الآخِرِ والجَنَّةِ والنّارِ والبَعْثِ والحِسابِ، فَأنا مُؤْمِنٌ، وإنْ كُنْتَ تَسْألُنِي عَنْ قَوْلِهِ: ﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ﴾ فَواللَّهِ لا أدْرِي أمِنهم أنا أمْ لا، وأبْعَدَ مَن زَعَمَ أنَّ الكَلامَ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ﴾، وأنَّ حَقًّا مُتَعَلِّقٌ بِما بَعْدَهُ، أيْ: حَقًّا لَهم دَرَجاتٌ، وهَذا لِأنَّ انْتِصابَ حَقًّا عَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَكُونُ عَنْ تَمامِ جُمْلَةِ الِابْتِداءِ بِمَكانِ التَّأْخِيرِ عَنْها؛ لِأنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ فَلا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ، وقَدْ أجازَهُ بَعْضُهم، وهو ضَعِيفٌ. ﴿لَهم دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ومَغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ لَمّا تَقَدَّمَتْ ثَلاثُ صِفاتٍ: قَلْبِيَّةٌ وبَدَنِيَّةٌ ومالِيَّةٌ، تَرَتَّبَ عَلَيْها ثَلاثَةُ أشْياءَ، فَقُوبِلَتِ الأعْمالُ القَلْبِيَّةُ بِالدَّرَجاتِ، والبَدَنِيَّةُ بِالغُفْرانِ، وفي الحَدِيثِ «أنَّ رَجُلًا أتى مِنِ امْرَأةٍ أجْنَبِيَّةٍ ما يَأْتِيهِ الرَّجُلُ مِن أهْلِهِ غَيْرَ الوَطْءِ، فَسَألَهُ الرَّسُولُ ﷺ لَمّا أُخْبِرَ بِذَلِكَ: أصَلَّيْتَ مَعَنا ؟ فَقالَ نَعَمْ، فَقالَ لَهُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ»، وقُوبِلَتِ المالِيَّةُ بِالرِّزْقِ بِالكَرِيمِ، وهَذا النَّوْعُ مِنَ المُقابَلَةِ مِن بَدِيعِ عِلْمِ البَيانِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ والجُمْهُورُ: إنَّ المُرادَ مَراتِبُ الجَنَّةِ ومَنازِلُها ودَرَجاتُها عَلى قَدْرِ أعْمالِهِمْ، وحَكى الطَّبَرِيُّ عَنْ مُجاهِدٍ أنَّها دَرَجاتُ أعْمالِ الدُّنْيا، وقَوْلُهُ: ﴿ورِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ يُرِيدُ بِهِ مَآكِلَ الجَنَّةِ ومَشارِبَها، وكَرِيمٌ صِفَةٌ تَقْتَضِي رَفْعَ المَقامِ، كَقَوْلِهِ: ثَوْبٌ كِرِيمٌ وحَسَبٌ كَرِيمٌ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: دَرَجاتُ شَرَفٍ وكَرامَةٌ، وعُلُوُّ مَنزِلَةٍ ومَغْفِرَةٌ، وتَجاوُزٌ لِسَيِّئاتِهِمْ، ورِزْقٌ كَرِيمٌ، ونَعِيمُ الجَنَّةِ يَعْنِي مَنافِعَ حَسَنَةً دائِمَةً عَلى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ، وهَذا مَعْنى الثَّوابِ، انْتَهى. وقالَ عَطاءٌ: دَرَجاتُ الجَنَّةِ يَرْتَقُونَها بِأعْمالِهِمْ، وقالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ: سَبْعُونَ دَرَجَةً ما بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ حِصْنُ الفَرَسِ (p-٤٥٩)المُضْمَرِ سَبْعِينَ سَنَةً؛ وقِيلَ: مَراتِبُ، ومَنازِلُ في الجَنَّةِ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ، وفي الحَدِيثِ أنَّ «أهْلَ الجَنَّةِ لَيَتَراءَوْنَ أهْلَ الغُرَفِ كَما يَتَراءى الكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ»، وثَلاثَةُ الأقْوالِ هَذِهِ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ أُرِيدَ الدَّرَجاتُ حَقِيقَةً، وعَنْ مُجاهِدٍ دَرَجاتُ أعْمالٍ رَفِيعَةٌ. ﴿كَما أخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالحَقِّ وإنَّ فَرِيقًا مِنَ المُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ يُجادِلُونَكَ في الحَقِّ بَعْدَما تَبَيَّنَ كَأنَّما يُساقُونَ إلى المَوْتِ وهم يَنْظُرُونَ﴾ اضْطَرَبَ المُفَسِّرُونَ في قَوْلِهِ: ﴿كَما أخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالحَقِّ﴾ واخْتَلَفُوا عَلى خَمْسَةَ عَشَرَ قَوْلًا. أحَدُها: أنَّ الكافَ بِمَعْنى واوِ القَسَمِ وما بِمَعْنى الَّذِي واقِعَةٌ عَلى ذِي العِلْمِ، وهو اللَّهُ، كَما وقَعَتْ في قَوْلِهِ: ﴿وما خَلَقَ الذَّكَرَ والأُنْثى﴾ [الليل: ٣] وجَوابُ القَسَمِ ﴿يُجادِلُونَكَ﴾، والتَّقْدِيرُ: واللَّهِ الَّذِي أخْرَجَكَ مِن بَيْتِكَ يُجادِلُونَكَ في الحَقِّ، قالَهُ أبُو عُبَيْدَةَ وكانَ ضَعِيفًا في عِلْمِ النَّحْوِ، وقالَ الكِرْمانِيُّ: هَذا سَهْوٌ، وقالَ (p-٤٦٠)ابْنُ الأنْبارِيِّ: الكافُ لَيْسَتْ مِن حُرُوفِ القَسَمِ، انْتَهى. وفِيهِ أيْضًا أنَّ جَوابَ القَسَمِ بِالمُضارِعِ المُثْبَتِ جاءَ بِغَيْرِ لامٍ ولا نُونِ تَوْكِيدٍ، ولا بُدَّ مِنهُما في مِثْلِ هَذا عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ، أوْ مِن مُعاقَبَةِ أحَدِهِما الآخَرَ عَلى مَذْهَبِ الكُوفِيِّينَ، أمّا خُلُوُّهُ عَنْهُما أوْ أحَدِهِما، فَهو قَوْلٌ مُخالِفٌ لِما أجْمَعَ عَلَيْهِ الكُوفِيُّونَ والبَصْرِيُّونَ، القَوْلُ الثّانِي: أنَّ الكافَ بِمَعْنى إذْ وما زائِدَةٌ، تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ إذْ أخْرَجَكَ، وهَذا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أنَّ الكافَ تَكُونُ بِمَعْنى إذْ في لِسانِ العَرَبِ، ولَمْ يَثْبُتْ أنَّ ما تُزادُ بَعْدَ هَذا غَيْرَ الشَّرْطِيَّةِ، وكَذَلِكَ لا تُزادُ ما ادُّعِيَ أنَّهُ بِمَعْناها، القَوْلُ الثّالِثُ: الكافُ بِمَعْنى عَلى وما بِمَعْنى الَّذِي، تَقْدِيرُهُ: امْضِ عَلى الَّذِي أخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ، وهَذا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أنَّ الكافَ تَكُونُ بِمَعْنى عَلى، ولِأنَّهُ يَحْتاجُ المَوْصُولُ إلى عائِدٍ، وهو لا يَجُوزُ أنْ يُحْذَفَ في مِثْلِ هَذا التَّرْكِيبِ، القَوْلُ الرّابِعُ: قالَ عِكْرِمَةُ: التَّقْدِيرُ: وأطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، كَما أخْرَجَكَ في الطّاعَةِ خَيْرٌ لَكم، كَما كانَ إخْراجُكَ خَيْرًا لَهُمُ، القَوْلُ الخامِسُ: قالَ الكِسائِيُّ وغَيْرُهُ، كَما أخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ عَلى كَراهَةٍ مِن فَرِيقٍ مِنهم، كَذَلِكَ يُجادِلُونَكَ في قِتالِ كُفّارِ مَكَّةَ، ويَوَدُّونَ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهم أنَّكَ (p-٤٦١)إنَّما تَفْعَلُ ما أُمِرْتَ بِهِ لا ما يُرِيدُونَ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والتَّقْدِيرُ عَلى هَذا التَّأْوِيلِ: يُجادِلُونَكَ في الحَقِّ مُجادَلَةً لِكَراهَتِهِمْ إخْراجَ رَبِّكَ إيّاكَ مِن بَيْتِكَ، فالمُجادَلَةُ عَلى هَذا التَّأْوِيلِ بِمَثابَةِ الكَراهَةِ، وكَذا وقَعَ التَّشْبِيهُ في المَعْنى، وقائِلُ هَذِهِ المَقالَةِ يَقُولُ: إنَّ المُجادِلِينَ هُمُ المُشْرِكُونَ، القَوْلُ السّادِسُ: قالَ الفَرّاءُ: التَّقْدِيرُ امْضِ لِأمْرِكَ في الغَنائِمِ ونَفِّلْ مَن شِئْتَ إنْ كَرِهُوا كَما أخْرَجَكَ رَبُّكَ، انْتَهى. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والعِبارَةُ بِقَوْلِهِ: امْضِ لِأمْرِكَ ونَفِّلْ مَن شِئْتَ غَيْرُ مُحَرَّرَةٍ، وتَحْرِيرُ هَذا المَعْنى عِنْدِي أنْ يُقالَ: هَذِهِ الكافُ شَبَّهَتْ هَذِهِ القِصَّةَ الَّتِي هي إخْراجُهُ مِن بَيْتِهِ بِالقِصَّةِ المُتَقَدِّمَةِ الَّتِي هي سُؤالُهم عَنِ الأنْفالِ، كَأنَّهم سَألُوا عَنِ النَّفْلِ وتَشاجَرُوا فَأخْرَجَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهم فَكانَتْ هَذِهِ الخِيَرَةُ، كَما كَرِهُوا في هَذِهِ القِصَّةِ انْبِعاثَ النَّبِيِّ ﷺ بِإخْراجِهِ اللَّهُ مِن بَيْتِهِ، فَكانَتْ في ذَلِكَ الخِيَرَةُ وتَشاجُرُهم في النَّفْلِ بِمَثابَةِ كَراهِيَتِهِمْ هاهُنا الخُرُوجَ، وحُكْمَ اللَّهِ في النَّفْلِ بِأنَّهُ لِلَّهِ والرَّسُولِ، فَهو بِمَثابَةِ إخْراجِهِ نَبِيَّهُ مِن بَيْتِهِ، ثُمَّ كانَتِ الخِيَرَةُ في القِصَّتَيْنِ مِمّا صَنَعَ اللَّهُ، وعَلى هَذا التَّأْوِيلِ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿يُجادِلُونَكَ﴾ كَلامًا مُسْتَأْنَفًا يُرادُ بِهِ الكُفّارُ، أيْ: يُجادِلُونَكَ في شَرِيعَةِ الإسْلامِ مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ الحَقُّ (p-٤٦٢)فِيها، كَأنَّما يُساقُونَ إلى المَوْتِ في الدُّعاءِ إلى الإيمانِ، وهَذا الَّذِي ذَكَرْتُ مِن أنَّ يُجادِلُونَكَ في الكُفّارِ مَنصُوصٌ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَهَذانَ قَوْلانِ مُطَّرِدانِ يَتِمُّ بِهِما المَعْنى ويَحْسُنُ وصْفُ اللَّفْظِ، انْتَهى. ونَعْنِي بِالقَوْلَيْنِ قَوْلَ الفَرّاءِ وقَوْلَ الكِسائِيِّ، وقَدْ كَثُرَ الكَلامُ في هاتَيْنِ المَقالَتَيْنِ، ولا يَظْهَرانِ، ولا يَلْتَئِمانِ مِن حَيْثُ دَلالَةِ العاطِفِ، القَوْلُ السّابِعُ: قالَ الأخْفَشُ: الكافُ نَعْتٌ لِحَقًّا، والتَّقْدِيرُ: هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا كَما أخْرَجَكَ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والمَعْنى عَلى هَذا التَّأْوِيلِ كَما زادَ لا يَتَناسَقُ، القَوْلُ الثّامِنُ أنَّ الكافَ في مَوْضِعِ رَفْعٍ، والتَّقْدِيرُ: كَما أخْرَجَكَ رَبُّكَ فاتَّقُوا اللَّهَ، كَأنَّهُ ابْتِداءٌ وخَبَرٌ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا المَعْنى وضَعَهُ هَذا المُفَسِّرُ، ولَيْسَ مِن ألْفاظِ الآيَةِ في وِرْدٍ ولا صَدْرٍ، القَوْلُ التّاسِعُ: قالَ الزَّجّاجُ: الكافُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، والتَّقْدِيرُ: الأنْفالُ ثابِتَةٌ لِلَّهِ ثَباتًا، كَما أخْرَجَكَ رَبُّكَ، وهَذا الفِعْلُ أخَذَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وحَسَّنَهُ. فَقالَ يَنْتَصِبُ عَلى أنَّهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ لِلْفِعْلِ المُقَدَّرِ في قَوْلِهِ: ﴿الأنْفالُ لِلَّهِ والرَّسُولِ﴾ [الأنفال: ١]، أيِ: الأنْفالُ اسْتَقَرَّتْ لِلَّهِ والرَّسُولِ وثَبَتَتْ مَعَ كَراهَتِهِمْ ثَباتًا، مِثْلَ ثَباتِ إخْراجِ رَبِّكَ إيّاكَ مِن بَيْتِكَ وهم كارِهُونَ، انْتَهى، وهَذا فِيهِ بُعْدٌ لِكَثْرَةِ الفَصْلِ بَيْنَ المُشَبَّهِ والمُشَبَّهِ بِهِ، ولا يَظْهَرُ كَبِيرُ مَعْنًى لِتَشْبِيهِ هَذا بِهَذا، بَلْ لَوْ كانا مُتَقارِبَيْنِ لَمْ يَظْهَرْ لِلتَّشْبِيهِ كَبِيرُ فائِدَةٍ، القَوْلُ العاشِرُ: أنَّ الكافَ في مَوْضِعِ رَفْعٍ، والتَّقْدِيرُ: لَهم دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ومَغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كَرِيمٌ هَذا وعْدُ حَقٍّ كَما أخْرَجَكَ، وهَذا في حَذْفِ مُبْتَدَأٍ وخَبَرٍ، ولَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ لَمْ يَلْتَئِمِ التَّشْبِيهُ ولَمْ يَحْسُنِ، القَوْلُ الحادِيَ عَشَرَ: أنَّ الكافَ في مَوْضِعِ رَفْعٍ أيْضًا، والمَعْنى: وأصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكم ذَلِكم خَيْرٌ لَكم كَما أخْرَجَكَ، فالكافُ نَعْتٌ لِخَبَرِ ابْتِداءٍ مَحْذُوفٍ، وهَذا أيْضًا فِيهِ حَذْفٌ وطُولٌ، فَصَلَ بَيْنَ قَوْلِهِ: وأصْلِحُوا وبَيْنَ كَما أخْرَجَكَ، القَوْلُ الثّانِي عَشَرَ: أنَّهُ شَبَّهَ كَراهِيَةَ أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِخُرُوجِهِ مِنَ المَدِينَةِ حِينَ تَحَقَّقُوا خُرُوجَ قُرَيْشٍ لِلدَّفْعِ عَنْ أبِي سُفْيانَ وحِفْظِ غَيْرِهِ بِكَراهِيَتِهِمْ نَزْعَ الغَنائِمِ مِن أيْدِيهِمْ وجَعْلَها لِلرَّسُولِ، أوِ التَّنْفِيلَ مِنها، وهَذا القَوْلُ أخَذَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وحَسَّنَهُ، فَقالَ: يَرْتَفِعُ مَحَلُّ الكافِ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: هَذا الحالُ كَحالِ إخْراجِكَ، يَعْنِي أنَّ حالَهم في كَراهَةِ ما رَأيْتَ مِن تَنْفِيلِ القِراءَةِ، مِثْلَ حالِهِمْ في كَراهَةِ خُرُوجِهِمْ لِلْحَرْبِ، وهَذا النَّهْيُ قالَهُ هَذا القائِلُ، وحَسَّنَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، هو ما فَسَّرَ بِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ قَوْلَ الفَرّاءِ بِقَوْلِهِ: هَذِهِ الكافُ شَبَّهَتْ هَذِهِ القِصَّةَ الَّتِي هي إخْراجُهُ مِن بَيْتِهِ بِالقِصَّةِ المُتَقَدِّمَةِ الَّتِي هي سُؤالُهم عَنِ الأنْفالِ إلى آخِرِ كَلامِهِ، القَوْلُ الثّالِثَ عَشَرَ أنَّ المَعْنى: قِسْمَتُكَ لِلْغَنائِمِ حَقٌّ كَما كانَ خُرُوجُكَ حَقًّا؛ القَوْلُ الرّابِعَ عَشَرَ: أنَّ التَّشْبِيهَ وقَعَ بَيْنَ إخْراجَيْنِ، أيْ: إخْراجُكَ رَبُّكَ إيّاكَ مِن بَيْتِكَ، وهو مَكَّةُ وأنْتَ كارِهٌ لِخُرُوجِكَ، وكانَتْ عاقِبَةُ ذَلِكَ الخَيْرَ والنَّصْرَ والظَّفَرَ كَإخْراجِ رَبِّكَ إيّاكَ مِنَ المَدِينَةِ، وبَعْضُ المُؤْمِنِينَ كارِهٌ يَكُونُ عَقِيبُ ذَلِكَ الظَّفَرَ والنَّصْرَ، القَوْلُ الخامِسَ عَشَرَ: الكافُ لِلتَّشْبِيهِ عَلى سَبِيلِ المَجازِ، كَقَوْلِ القائِلِ لِعَبْدِهِ: كَما وجَّهْتُكَ إلى أعْدائِي فاسْتَضْعَفُوكَ وسَألْتَ مَدَدًا فَأمْدَدْتُكَ وقَوَّيْتُكَ وأزَحْتُ عِلَلَكَ فَخُذْهُمُ الآنَ فَعاقِبْهم بِكَذا، وكَما كَسَوْتُكَ وأجْرَيْتُ عَلَيْكَ الرِّزْقَ فاعْمَلْ كَذا، وكَما أحْسَنْتُ إلَيْكَ ما شَكَرْتَنِي عَلَيْهِ، فَتَقْدِيرُ الآيَةِ: كَما أخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالحَقِّ، وغَشّاكُمُ النُّعاسَ أمَنَةً مِنهُ، يَعْنِي بِهِ إيّاهُ ومَن مَعَهُ، وأنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكم بِهِ، وأنْزَلَ عَلَيْكم مِنَ السَّماءِ مَلائِكَةً مُرْدِفِينَ فاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْناقِ واضْرِبُوا مِنهم كُلَّ بَنانٍ، كَأنَّهُ يَقُولُ قَدْ أزَحْتُ عِلَلَكم وأمْدَدْتُكم بِالمَلائِكَةِ، فاضْرِبُوا مِنهم هَذِهِ المَواضِعَ، وهو القَتْلُ لِتَبْلُغُوا مُرادَ اللَّهِ في إحْقاقِ الحَقِّ وإبْطالِ الباطِلِ، ومُلَخَّصُ هَذا القَوْلِ الطَّوِيلِ أنَّ: ﴿كَما أخْرَجَكَ﴾ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: فاضْرِبُوا، وفِيهِ مِنَ الفَصْلِ والبُعْدِ ما لا خَفاءَ بِهِ، وقَدِ انْتَهى ذِكْرُ هَذِهِ الأقْوالِ الخَمْسَةَ عَشَرَ الَّتِي وقَفْنا عَلَيْها. ومَن دَفَعَ إلى (p-٤٦٣)حَوْكِ الكَلامِ وتَقَلَّبَ في إنْشاءِ أفانِينِهِ وزاوَلِ الفَصاحَةِ والبَلاغَةِ لَمْ يَسْتَحْسِنْ شَيْئًا مِن هَذِهِ الأقْوالِ، وإنْ كانَ بَعْضُ قائِلِها لَهُ إمامَةٌ في عِلْمِ النَّحْوِ ورُسُوخُ قَدَمٍ، لَكِنَّهُ لَمْ يَحْتَطْ بِلَفْظِ الكَلامِ، ولَمْ يَكُنْ في طَبْعِهِ صَوْغُهُ أحْسَنَ صَوْغٍ، ولا التَّصَرُّفُ في النَّظَرِ فِيهِ مِن حَيْثُ الفَصاحَةِ وما بِهِ يَظْهَرُ الإعْجازُ. وقَبْلَ تَسْطِيرِ هَذِهِ الأقْوالِ هُنا وقَعْتُ عَلى جُمْلَةٍ مِنها فَلَمْ يَلْقَ لِخاطِرِي مِنها شَيْءٌ، فَرَأيْتُ في النَّوْمِ أنَّنِي أمْشِي في رَصِيفٍ ومَعِي رَجُلٌ أُباحِثُهُ في قَوْلِهِ: ﴿كَما أخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالحَقِّ﴾ فَقُلْتُ لَهُ: ما مَرَّ بِي شَيْءٌ مُشْكِلٌ مِثْلُ هَذا، ولَعَلَّ ثَمَّ مَحْذُوفًا يَصِحُّ بِهِ المَعْنى، وما وقَفْتُ فِيهِ لِأحَدٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ عَلى شَيْءٍ طائِلٍ، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: ظَهَرَ لِيَ السّاعَةَ تَخْرِيجُهُ، وإنَّ ذَلِكَ المَحْذُوفَ هو: نَصَرَكَ، واسْتَحْسَنْتُ أنا وذَلِكَ الرَّجُلُ هَذا التَّخْرِيجَ، ثُمَّ انْتَبَهْتُ مِنَ النَّوْمِ وأنا أذْكُرُهُ، والتَّقْدِيرُ: فَكَأنَّهُ قِيلَ: ﴿كَما أخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالحَقِّ﴾، أيْ: بِسَبَبِ إظْهارِ دِينِ اللَّهِ وإعْزازِ شَرِيعَتِهِ وقَدْ كَرِهُوا خُرُوجَكَ تَهَيُّبًا لِلْقِتالِ وخَوْفًا مِنَ المَوْتِ؛ إذْ كانَ أمْرُ النَّبِيِّ ﷺ لِخُرُوجِهِمْ بَغْتَةً، ولَمْ يَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ لِلْخُرُوجِ وجادَلُوكَ في الحَقِّ بَعْدَ وُضُوحِهِ نَصَرَكَ اللَّهُ وأمَدَّكَ بِمَلائِكَتِهِ ودَلَّ عَلى هَذا المَحْذُوفِ الكَلامُ الَّذِي بَعْدَهُ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكم فاسْتَجابَ لَكُمْ﴾ [الأنفال: ٩] الآياتِ، ويَظْهَرُ أنَّ الكافَ في هَذا التَّخْرِيجِ المَنامِيِّ لَيْسَتْ لِمَحْضِ التَّشْبِيهِ بَلْ فِيها مَعْنى التَّعْلِيلِ، وقَدْ نَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلى أنَّها قَدْ تُحْدِثُ فِيها مَعْنى التَّعْلِيلِ وخَرَّجُوا عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿واذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٨] وأنْشَدُوا: ؎لا تَشْتُمِ النّاسَ كَما لا تُشْتَمِ أيْ لِانْتِفاءِ أنْ يَشْتُمَكَ النّاسُ لا تَشْتُمْهم، ومِنَ الكَلامِ الشّائِعِ عَلى هَذا المَعْنى، كَما تُطِيعُ اللَّهَ يُدْخِلُكَ الجَنَّةَ، أيْ: لِأجْلِ طاعَتِكَ اللَّهَ يُدْخِلُكَ الجَنَّةَ، فَكانَ المَعْنى: إنْ خَرَجْتَ لِإعْزازِ دِينِ اللَّهِ وقَتْلِ أعْدائِهِ نَصَرَكَ اللَّهُ وأمَدَّكَ بِالمَلائِكَةِ، والواوُ في وإنَّ فَرِيقًا واوُ الحالِ، والظّاهِرُ أنَّ مِن بَيْتِكَ هو مَقامُ سُكْناهُ؛ وقِيلَ: المَدِينَةُ؛ لِأنَّها مُهاجَرُهُ ومُخْتَصَّةٌ بِهِ؛ وقِيلَ: مَكَّةُ، وفِيهِ بُعْدٌ؛ لِأنَّ الظّاهِرَ أنَّ هَذا إخْبارٌ عَنْ خُرُوجِهِ إلى بَدْرٍ، فَصَرْفُهُ إلى الخُرُوجِ مِن مَكَّةَ لَيْسَ بِظاهِرٍ، ومَفْعُولُ لَكارِهُونَ هو الخُرُوجُ، أيْ: لَكارِهُونَ الخُرُوجَ مَعَكَ، وكَراهَتُهم ذَلِكَ إمّا لِنَفْرَةِ الطَّبْعِ، أوْ لِأنَّهم لَمْ يُسْتَنْفَرُوا، أوِ العُدُولُ مِنَ العِيرِ إلى النَّفِيرِ لِما في ذَلِكَ مِن قُوَّةِ أخْذِ الأمْوالِ، ولِما في هَذا مِنَ القَتْلِ والقِتالِ، أوْ لِتَرْكِ مَكَّةَ ودِيارِهِمْ وأمْوالِهِمْ، أقْوالٌ أرْبَعَةٌ: والظّاهِرُ أنَّ ضَمِيرَ الرَّفْعِ في يُجادِلُونَكَ عائِدٌ عَلى فَرِيقِ المُؤْمِنِينَ الكارِهِينَ، وجِدالُهم قَوْلُهم: ما كانَ خُرُوجُنا إلّا لِلْعِيرِ ولَوْ عَرَفْنا لاسْتَعْدَدْنا لِلْقِتالِ، والحَقُّ هُنا نُصْرَةُ دِينِ الإسْلامِ؛ وقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلى المُشْرِكِينَ، وجِدالُهم في الحَقِّ هو في شَرِيعَةِ الإسْلامِ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: بُعْدَ ما بَيَّنَ، بِضَمِّ الباءِ مِن غَيْرِ تاءٍ، وفي قَوْلِهِ: بَعْدَ ما تَبَيَّنَ إنْكارٌ عَظِيمٌ عَلَيْهِمْ؛ لِأنَّ مَن جادَلَ في شَيْءٍ لَمْ يَتَّضِحْ كانَ أخَفَّ عَتْبًا، أمّا مَن نازَعَ في أمْرٍ واضِحٍ، فَهو جَدِيرٌ بِاللَّوْمِ والإنْكارِ، ثُمَّ شَبَّهَ حالَهم في فَرْطِ فَزَعِهِمْ، وهم يُسارُ بِهِمْ إلى الظَّفَرِ والغَنِيمَةِ بِحالِ مَن يُساقُ عَلى الصَّفا إلى المَوْتِ، وهو مُشاهِدٌ لِأسْبابِهِ ناظِرٌ إلَيْها لا يَشُكُّ فِيها؛ وقِيلَ: كانَ خَوْفُهم لِقِلَّةِ العَدَدِ وأنَّهم كانُوا رَجّالَةً، ورُوِيَ أنَّهُ ما كانَ فِيهِمْ إلّا فارِسانِ، وكانُوا ثَلاثَمِائَةٍ وثَلاثَةَ عَشَرَ، وكانَ المُشْرِكُونَ في نَحْوِ ألْفِ رَجُلٍ، وقِصَّةُ بَدْرٍ هَذِهِ مُسْتَوْعَبَةٌ في كِتابِ السِّيَرِ، وقَدْ لَخَّصَ مِنها الزَّمَخْشَرِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ ما يُوقَفُ عَلَيْهِ في كِتابَيْهِما.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب