الباحث القرآني

(سُورَةُ القِيامَةِ مَكِّيَّةٌ وهي أرْبَعُونَ آيَةً) (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيامَةِ﴾ ﴿ولا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوّامَةِ﴾ ﴿أيَحْسَبُ الإنْسانُ ألَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ﴾ ﴿بَلى قادِرِينَ عَلى أنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ﴾ ﴿بَلْ يُرِيدُ الإنْسانُ لِيَفْجُرَ أمامَهُ﴾ ﴿يَسْألُ أيّانَ يَوْمُ القِيامَةِ﴾ ﴿فَإذا بَرِقَ البَصَرُ﴾ ﴿وخَسَفَ القَمَرُ﴾ ﴿وجُمِعَ الشَّمْسُ والقَمَرُ﴾ ﴿يَقُولُ الإنْسانُ يَوْمَئِذٍ أيْنَ المَفَرُّ﴾ ﴿كَلّا لا وزَرَ﴾ ﴿إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ﴾ ﴿يُنَبَّأُ الإنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وأخَّرَ﴾ ﴿بَلِ الإنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ ﴿ولَوْ ألْقى مَعاذِيرَهُ﴾ ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾ [القيامة: ١٦] ﴿إنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وقُرْآنَهُ﴾ [القيامة: ١٧] ﴿فَإذا قَرَأْناهُ فاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [القيامة: ١٨] ﴿ثُمَّ إنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ﴾ [القيامة: ١٩] ﴿كَلّا بَلْ تُحِبُّونَ العاجِلَةَ﴾ [القيامة: ٢٠] ﴿وتَذَرُونَ الآخِرَةَ﴾ [القيامة: ٢١] ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢] ﴿إلى رَبِّها ناظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٣] ﴿ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٤] ﴿تَظُنُّ أنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٥] ﴿كَلّا إذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ﴾ [القيامة: ٢٦] ﴿وقِيلَ مَن راقٍ﴾ [القيامة: ٢٧] ﴿وظَنَّ أنَّهُ الفِراقُ﴾ [القيامة: ٢٨] ﴿والتَفَّتِ السّاقُ بِالسّاقِ﴾ [القيامة: ٢٩] ﴿إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المَساقُ﴾ [القيامة: ٣٠] ﴿فَلا صَدَّقَ ولا صَلّى﴾ [القيامة: ٣١] ﴿ولَكِنْ كَذَّبَ وتَوَلّى﴾ [القيامة: ٣٢] ﴿ثُمَّ ذَهَبَ إلى أهْلِهِ يَتَمَطّى﴾ [القيامة: ٣٣] ﴿أوْلى لَكَ فَأوْلى﴾ [القيامة: ٣٤] ﴿ثُمَّ أوْلى لَكَ فَأوْلى﴾ [القيامة: ٣٥] ﴿أيَحْسَبُ الإنْسانُ أنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ [القيامة: ٣٦] ﴿ألَمْ يَكُ نُطْفَةً مِن مَنِيٍّ يُمْنى﴾ [القيامة: ٣٧] ﴿ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى﴾ [القيامة: ٣٨] ﴿فَجَعَلَ مِنهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأُنْثى﴾ [القيامة: ٣٩] ﴿ألَيْسَ ذَلِكَ بِقادِرٍ عَلى أنْ يُحْيِيَ المَوْتى﴾ [القيامة: ٤٠] . (p-٣٨٢)بَرِقَ بِكَسْرِ الرّاءِ: فَزِعَ ودَهِشَ، وأصْلُهُ مِن بَرِقَ الرَّجُلُ، إذا نَظَرَ إلى البَرْقِ فَدُهِشَ بَصَرُهُ، ومِنهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: ؎ولَوْ أنَّ لُقْمانَ الحَكِيمَ تَعَرَّضَتْ لِعَيْنَيْهِ مَيٌّ سافِرًا كادَ يَبْرُقُ (قالَ الأعْشى): ؎وكُنْتُ أرى في وجْهِ مِيَّةَ لُمْحَةً ∗∗∗ فَأُبْرِقُ مَغْشِيًّا عَلِيَّ مَكانِيا وبَرَقَ بِفَتْحِ الرّاءِ: شُقَّ بَصَرُهُ، وهو مِنَ البَرِيقِ، أيْ: لَمَعَ بَصَرُهُ مِن شِدَّةِ شُخُوصِهِ. الوِزْرُ: ما يَلْجَأُ إلَيْهِ مِن حِصْنٍ أوْ جَبَلٍ أوْ غَيْرِهِما، قالَ الشّاعِرُ: ؎لَعَمْرُكَ ما لِلْفَتى مِن وِزْرٍ ∗∗∗ مِنَ المَوْتِ يُدْرِكُهُ والكِبَرُ النَّضِرَةُ: النِّعْمَةُ وجَمالُ البَشَرَةِ وطَراوَتِها، قالَ الشّاعِرُ: ؎أبى لِي قَبْرٌ لا يَزالُ مُقابَلِي ∗∗∗ وضَرْبَةُ فَأْسٍ فَوْقَ رَأْسِي فاقِرَهْ أيْ: مُؤَثِّرَةٌ. التَّراقِي جَمْعُ تَرْقُوَةٍ: وهي عِظامُ الصَّدْرِ، ولِكُلِّ إنْسانٍ تَرْقُوَتانِ، وهو مَوْضِعُ الحَشْرَجَةِ، قالَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ: ؎ورُبَّ عَظِيمَةٍ دافَعْتُ عَنْهم ∗∗∗ وقَدْ بَلَغَتْ نُفُوسُهُمُ التَّراقِي رَقى يَرْقِي مِنَ الرُّقْيَةِ، وهي ما يُسْتَشْفى بِهِ لِلْمَرِيضِ مِنَ الكَلامِ المُعَدِّ لِذَلِكَ. تَمَطّى: تَبَخْتَرَ في مِشْيَتِهِ، وأصْلُهُ مِنَ المَطا وهو الظَّهْرُ، أيْ: يَلْوِي مَطاهُ تَبَخْتُرًا. وقِيلَ: أصْلُهُ تَمطَّطَ أيْ: تَمَدَّدَ في مِشْيَتِهِ، ومَدَّ مَنكِبَيْهِ، قُلِبَتِ الطّاءُ فِيهِ حَرْفَ عِلَّةٍ كَراهَةَ اجْتِماعِ الأمْثالِ، كَما قالُوا: تَظَنّى مِنَ الظَّنِّ، وأصْلُهُ تَظَنَّنَ. والمَطِيطا: التَّبَخْتُرُ ومَدُّ اليَدَيْنِ في المَشْيِ، والمَطِيطُ: الماءُ الحاثِرُ في أسْفَلِ الحَوْضِ؛ لِأنَّهُ يَتَمَطَّطُ فِيهِ، أيْ: يَمْتَدُّ. وعَلى هَذا الِاشْتِقاقِ لا يَكُونُ أصْلُهُ مِنَ المَطِّ لِاخْتِلافِ المادَّتَيْنِ، إذْ مادَّةُ المَطا (م ط و) ومادَّةُ تَمَطَّطَ (م ط ط) . سُدًى: مُهْمَلٌ، يُقالُ إبِلٌ سُدًى أيْ: مُهْمَلَةٌ تَرْعى حَيْثُ شاءَتْ بِلا راعٍ، وأسْدَيْتُ الشَّيْءَ أيْ: أهْمَلْتُهُ، وأسْدَيْتُ حاجَتِي: ضَيَّعْتُها. قالَ الشّاعِرُ: ؎فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ جَهْدَ اليَمِينِ ∗∗∗ ما خَلَقَ اللَّهُ شَيْئًا سُدى وقالَ أبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ في المَقْصُورَةِ: ؎لَمْ أرَ كالمُزْنِ سَوامًا بُهْلًا ∗∗∗ تَحْسَبُها مَرْعِيَّةً وهي سُدى (p-٣٨٣)﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيامَة﴾ ﴿ولا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوّامَةِ﴾ ﴿أيَحْسَبُ الإنْسانُ ألَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ﴾ ﴿بَلى قادِرِينَ عَلى أنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ﴾ ﴿بَلْ يُرِيدُ الإنْسانُ لِيَفْجُرَ أمامَهُ﴾ ﴿يَسْألُ أيّانَ يَوْمُ القِيامَةِ﴾ ﴿فَإذا بَرِقَ البَصَرُ﴾ ﴿وخَسَفَ القَمَرُ﴾ ﴿وجُمِعَ الشَّمْسُ والقَمَرُ﴾ ﴿يَقُولُ الإنْسانُ يَوْمَئِذٍ أيْنَ المَفَرُّ﴾ ﴿كَلّا لا وزَرَ﴾ ﴿إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ﴾ ﴿يُنَبَّأُ الإنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وأخَّرَ﴾ ﴿بَلِ الإنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ ﴿ولَوْ ألْقى مَعاذِيرَهُ﴾ ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾ [القيامة: ١٦] ﴿إنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وقُرْآنَهُ﴾ [القيامة: ١٧] ﴿فَإذا قَرَأْناهُ فاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [القيامة: ١٨] ﴿ثُمَّ إنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ﴾ [القيامة: ١٩] ﴿كَلّا بَلْ تُحِبُّونَ العاجِلَةَ﴾ [القيامة: ٢٠] ﴿وتَذَرُونَ الآخِرَةَ﴾ [القيامة: ٢١] ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢] ﴿إلى رَبِّها ناظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٣] ﴿ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٤] ﴿تَظُنُّ أنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٥] ﴿كَلّا إذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ﴾ [القيامة: ٢٦] ﴿وقِيلَ مَن راقٍ﴾ [القيامة: ٢٧] ﴿وظَنَّ أنَّهُ الفِراقُ﴾ [القيامة: ٢٨] ﴿والتَفَّتِ السّاقُ بِالسّاقِ﴾ [القيامة: ٢٩] ﴿إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المَساقُ﴾ [القيامة: ٣٠] ﴿فَلا صَدَّقَ ولا صَلّى﴾ [القيامة: ٣١] ﴿ولَكِنْ كَذَّبَ وتَوَلّى﴾ [القيامة: ٣٢] ﴿ثُمَّ ذَهَبَ إلى أهْلِهِ يَتَمَطّى﴾ [القيامة: ٣٣] ﴿أوْلى لَكَ فَأوْلى﴾ [القيامة: ٣٤] ﴿ثُمَّ أوْلى لَكَ فَأوْلى﴾ [القيامة: ٣٥] ﴿أيَحْسَبُ الإنْسانُ أنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ [القيامة: ٣٦] ﴿ألَمْ يَكُ نُطْفَةً مِن مَنِيٍّ يُمْنى﴾ [القيامة: ٣٧] ﴿ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى﴾ [القيامة: ٣٨] ﴿فَجَعَلَ مِنهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأُنْثى﴾ [القيامة: ٣٩] ﴿ألَيْسَ ذَلِكَ بِقادِرٍ عَلى أنْ يُحْيِيَ المَوْتى﴾ [القيامة: ٤٠] . (p-٣٨٤)هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. ومُناسَبَتُها لِما قَبْلَها: أنَّ في آخِرِ ما قَبْلَها قَوْلَهُ: ﴿كَلّا بَلْ لا يَخافُونَ الآخِرَةَ﴾ [المدثر: ٥٣] ﴿كَلّا إنَّهُ تَذْكِرَةٌ﴾ [المدثر: ٥٤] وفِيها كَثِيرٌ مِن أحْوالِ القِيامَةِ، فَذَكَرَ هُنا يَوْمَ القِيامَةِ وجُمَلًا مِن أحْوالِها. وتَقَدَّمَ الكَلامُ في ﴿لا أُقْسِمُ﴾ . والخِلافُ في ”لا“، والخِلافُ في قِراءاتِها في أواخِرِ الواقِعَةِ. أقْسَمَ تَعالى بِيَوْمِ القِيامَةِ لِعِظَمِهِ وهَوْلِهِ. و﴿لا أُقْسِمُ﴾ قِيلَ: ”لا“ نافِيَةٌ، نَفى أنْ يُقْسِمَ بِالنَّفْسِ اللَّوّامَةِ، وأقْسَمَ بِيَوْمِ القِيامَةِ، نَصَّ عَلى هَذا الحَسَنُ. والجُمْهُورُ: عَلى أنَّ اللَّهَ أقْسَمَ بِالأمْرَيْنِ. واللَّوّامَةُ، قالَ الحَسَنُ: هي الَّتِي تَلُومُ صاحِبَها في تَرْكِ الطّاعَةِ ونَحْوِها، فَهي عَلى هَذا مَمْدُوحَةٌ، ولِذَلِكَ أقْسَمَ اللَّهُ بِها. ورُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وعَنْ مُجاهِدٍ، تَلُومُ عَلى ما فاتَ وتَنْدَمَ عَلى الشَّرِّ لِمَ فَعَلَتْهُ ؟، وعَلى الخَيْرِ لِمَ لَمْ تَسْتَكْثِرْ مِنهُ ؟ . وقِيلَ: النَّفْسُ المُتَّقِيَةُ الَّتِي تَلُومُ النُّفُوسَ في يَوْمِ القِيامَةِ عَلى تَقْصِيرِهِنَّ في التَّقْوى. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ: هي الفاجِرَةُ الخَشِعَةُ اللَّوّامَةُ لِصاحِبِها عَلى ما فاتَهُ مِن سَعْيِ الدُّنْيا وأعْراضِها، فَهي عَلى هَذا ذَمِيمَةٌ، ويَحْسُنُ نَفْيُ القَسَمِ بِها. والنَّفْسُ اللَّوّامَةُ: اسْمُ جِنْسٍ بِهَذا الوَصْفِ. وقِيلَ: هي نَفْسٌ مُعَيَّنَةٌ، وهي نَفْسُ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَمْ تَزَلْ لائِمَةً لَهُ عَلى فِعْلِهِ الَّذِي أخْرَجَهُ مِنَ الجَنَّةِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وكُلُّ نَفْسٍ مُتَوَسِّطَةٍ لَيْسَتْ بِمُطَمْئِنَةٍ ولا أمّارَةٍ بِالسُّوءِ، فَإنَّها لَوّامَةٌ في الطَّرَفَيْنِ، مَرَّةً تَلُومُ عَلى تَرْكِ الطّاعَةِ، ومَرَّةً تَلُومُ عَلى فَوْتِ ما تَشْتَهِي، فَإذا اطْمَأنَّتْ خَلَصَتْ وصَفَتْ. انْتَهى. والمُناسَبَةُ بَيْنَ القَسَمَيْنِ مِن حَيْثُ أحْوالِ النَّفْسِ مِن سَعادَتِها وشَقاوَتِها وظُهُورِ ذَلِكَ في يَوْمِ القِيامَةِ، وجَوابُ القَسَمِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ يَوْمُ القِيامَةِ المُقْسَمِ بِهِ وما بَعْدَهُ مِن قَوْلِهِ: (أيَحْسَبُ) الآيَةِ، وتَقْدِيرُهُ لِتُبْعَثُنَّ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ) قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [النساء: ٦٥] والأبْياتُ الَّتِي أنْشَدْتَها المُقْسَمُ عَلَيْهِ فِيها مَنفِيٌّ، وكانَ قَدْ أنْشَدَ قَوْلَ امْرِئِ القَيْسِ: ؎لا وأبِيكِ ابْنَةَ العامِرِيِّ ∗∗∗ لا يَدَّعِي القَوْمُ إنِّي أفِرُّ (وقَوْلُ غُوَيَّةَ بْنِ سُلْمى): ؎ألا نادَتْ أُمامَةُ بِاحْتِمالِي ∗∗∗ لِتُحْزِنَنِي فَلا يَكُ ما أُبالِي قالَ: فَهَلّا زَعَمْتَ أنَّ لا الَّتِي لِلْقَسَمِ زِيدَتْ مُوطِئَةً لِلنَّفْيِ بَعْدَهُ ومُؤَكِّدَةً لَهُ، وقَدَّرْتَ المُقْسَمَ عَلَيْهِ المَحْذُوفَ هاهُنا مَنفِيًّا، نَحْوُ قَوْلِكَ: ﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيامَةِ﴾ لا تُتْرَكُونَ سُدًى ؟ (قُلْتُ): لَوْ قَصَرُوا الأمْرَ عَلى النَّفْيِ دُونَ الإثْباتِ لَكانَ لِهَذا القَوْلِ مَساغٌ، ولَكِنَّهُ لَمْ يُقْسِمْ. ألا تَرى كَيْفَ لَقّى ﴿لا أُقْسِمُ بِهَذا البَلَدِ﴾ [البلد: ١] بِقَوْلِهِ: ﴿لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ في كَبَدٍ﴾ [البلد: ٤] وكَذَلِكَ ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ﴾ [الواقعة: ٧٥] ﴿إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾ [الواقعة: ٧٧] ؟ ثُمَّ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وجَوابُ القَسَمِ ما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (أيَحْسَبُ الإنْسانُ أنْ لَنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) وهو لَتُبْعَثُنَّ. انْتَهى، وهو تَقْدِيرُ النَّحّاسِ. وقَوْلُ مَن قالَ: جَوابُ القَسَمِ هو: (أيَحْسَبُ الإنْسانُ) . وما رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ أنَّ الجَوابَ: ﴿بَلى قادِرِينَ﴾ وما قِيلَ أنَّ ”لا“ في القَسَمَيْنِ لِنَفْيِهِما، أيْ: لا أُقْسِمُ عَلى شَيْءٍ، وأنَّ التَّقْدِيرَ: أسْألُكَ أيَحْسَبُ الإنْسانُ ؟ أقْوالٌ لا تَصْلُحُ أنْ يَرِدَ بِها، بَلْ تُطْرَحُ ولا يُسَوَّدُ بِها الوَرَقُ، ولَوْلا أنَّهم سَرَدُوها في الكُتُبِ لَمْ أُنَبِّهْ عَلَيْها. والإنْسانُ هُنا الكافِرُ المُكَذِّبُ بِالبَعْثِ. رُوِيَ «أنَّ عَدِيَّ بْنَ رَبِيعَةَ قالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: يا مُحَمَّدُ ! حَدِّثْنِي عَنْ يَوْمِ القِيامَةِ مَتى يَكُونُ أمْرُهُ ؟ فَأخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: لَوْ عايَنْتُ ذَلِكَ اليَوْمَ لَمْ (p-٣٨٥)أُصَدِّقْكَ ولَمْ أُؤْمِن بِهِ، أوْ يَجْمَعُ اللَّهُ هَذِهِ العِظامَ بَعْدَ بَلاها ؟» فَنَزَلَتْ. وقِيلَ: نَزَلَتْ في أبِي جَهْلٍ، كانَ يَقُولُ أيَزْعُمُ مُحَمَّدٌ ﷺ أنْ يَجْمَعَ اللَّهُ هَذِهِ العِظامَ بَعْدَ بَلاها وتَفَرُّقِها، فَيُعِيدُها خَلْقًا جَدِيدًا ؟ وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿نَجْمَعَ﴾ بِنُونٍ ﴿عِظامَهُ﴾ نَصْبًا. وقَتادَةُ: بِالتّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، ﴿عِظامَهُ﴾ رَفْعًا، والمَعْنى: بَعْدَ تَفَرُّقِها واخْتِلاطِها بِالتُّرابِ وتَطْيِيرِ الرِّياحِ إيّاها في أقاصِي الأرْضِ. وقَوْلُهُ: (أيَحْسَبُ) اسْتِفْهامُ تَقْرِيرٍ وتَوْبِيخٍ، حَيْثُ يُنْكِرُ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعالى عَلى إعادَةِ المَعْدُومِ. (بَلى): جَوابٌ لِلِاسْتِفْهامِ المُنْسَحِبِ عَلى النَّفْيِ، أيْ: بَلى نَجْمَعُها. وذَكَرَ العِظامَ، وإنْ كانَ المَعْنى إعادَةَ الإنْسانِ وجَمْعَ أجْزائِهِ المُتَفَرِّقَةِ؛ لِأنَّ العِظامَ هي قالَبُ الخَلْقِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (قادِرِينَ) بِالنَّصْبِ عَلى الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي في الفِعْلِ المُقَدَّرِ وهو يَجْمَعُها. وابْنُ أبِي عَبْلَةَ وابْنُ السَّمَيْقَعِ: قادِرُونَ، أيْ: نَحْنُ قادِرُونَ. ﴿عَلى أنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ﴾: وهي الأصابِعُ، أكْثَرُ العِظامِ تَفَرُّقًا وأدَقُّها أجْزاءً، وهي العِظامُ الَّتِي في الأنامِلِ ومَفاصِلِها، وهَذا عِنْدَ البَعْثِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ والجُمْهُورُ: المَعْنى نَجْعَلُها في حَياتِهِ هَذِهِ بُضْعَةً، أوْ عَظْمًا واحِدًا كَخُفِّ البَعِيرِ لا تَفارِيقَ فِيهِ، أيْ: في الدُّنْيا فَتَقِلُّ مَنفَعَتُهُ بِها، وهَذا القَوْلُ فِيهِ تَوَعُّدٌ، والمَعْنى الأوَّلُ هو الظّاهِرُ والمَقْصُودُ مِن رَصْفِ الكَلامِ. وذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ بِألْفاظٍ مُنَمَّقَةٍ عَلى عادَتِهِ في حِكايَةِ أقْوالِ المُتَقَدِّمِينَ. وقِيلَ: (قادِرِينَ) مَنصُوبٌ عَلى خَبَرِ كانَ، أيْ: بَلى كُنّا قادِرِينَ في الِابْتِداءِ. ﴿بَلْ يُرِيدُ الإنْسانُ﴾: بَلْ إضْرابٌ، وهو انْتِقالٌ مِن كَلامٍ إلى كَلامٍ مِن غَيْرِ إبْطالٍ. والظّاهِرُ أنَّ (يُرِيدُ) إخْبارٌ عَنْ ما يُرِيدُهُ الإنْسانُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (بَلْ يُرِيدُ) عَطْفٌ عَلى (أيَحْسَبُ) فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَبْلَهُ اسْتِفْهامًا، وأنْ يَكُونَ إيجابًا عَلى أنْ يُضْرَبَ عَنْ مُسْتَفْهَمٍ عَنْهُ إلى آخَرَ، أوْ يُضْرَبَ عَنْ مُسْتَفْهَمٍ عَنْهُ إلى مُوجِبٍ. انْتَهى. وهَذِهِ التَّقادِيرُ الثَّلاثَةُ لا تَظْهَرُ، وهي مُتَكَلَّفَةٌ، بَلِ المَعْنى: الإخْبارُ عَنِ الإنْسانِ مِن غَيْرِ إبْطالٍ لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ السّابِقَةِ، وهي نَجْمَعُها قادِرِينَ، لِنُبَيِّنَ ما هو عَلَيْهِ الإنْسانُ مِن عَدَمِ الفِكْرِ في الآخِرَةِ وأنَّهُ مَعْنِيٌّ بِشَهَواتِهِ. ومَفْعُولُ (يُرِيدُ) مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّعْلِيلُ في ﴿لِيَفْجُرَ﴾ . قالَ مُجاهِدٌ والحَسَنُ وعِكْرِمَةُ وابْنُ جُبَيْرٍ والضَّحّاكُ والسُّدِّيُّ: مَعْنى الآيَةِ: أنَّ الإنْسانَ إنَّما يُرِيدُ شَهَواتِهِ ومَعاصِيهِ؛ لِيَمْضِيَ فِيها أبَدًا قُدُمًا راكِبًا رَأْسَهُ مُطِيعًا أمَلَهُ ومُسَوِّفًا بِتَوْبَتِهِ. قالَ السُّدِّيُّ أيْضًا: لِيَظْلِمَ عَلى قَدْرِ طاقَتِهِ، وعَلى هَذا فالضَّمِيرُ في ﴿أمامَهُ﴾ عائِدٌ عَلى الإنْسانِ، وهو الظّاهِرُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ما يَقْتَضِي أنَّ الضَّمِيرَ عائِدٌ عَلى يَوْمِ القِيامَةِ أنَّ الإنْسانَ في زَمانِ وُجُودِهِ أمامَ يَوْمِ القِيامَةِ، وبَيْنَ يَدَيْهِ يَوْمَ القِيامَةِ خَلْفَهُ، فَهو يُرِيدُ شَهَواتِهِ؛ لِيَفْجُرَ في تَكْذِيبِهِ بِالبَعْثِ وغَيْرِ ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْ يَوْمِ القِيامَةِ، وهو لا يَعْرِفُ القَدْرَ الَّذِي هو فِيهِ. والأمامُ ظَرْفُ مَكانٍ اسْتُعِيرَ هُنا لِلزَّمانِ، أيْ: لِيَفْجُرَ فِيما بَيْنَ يَدَيْهِ ويَسْتَقْبِلُهُ مِن زَمانِ حَياتِهِ. ﴿يَسْألُ أيّانَ يَوْمُ القِيامَةِ﴾ أيْ: مَتى يَوْمُ القِيامَةِ ؟ سُؤالُ اسْتِهْزاءٍ وتَكْذِيبٍ وتَعَنُّتٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿بَرِقَ﴾ بِكَسْرِ الرّاءِ. وزَيْدُ بْنُ ثابِتٍ ونَصْرُ بْنُ عاصِمٍ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبِي إسْحاقَ، وأبُو حَيْوَةَ وابْنُ أبِي عَبْلَةَ والزَّعْفَرانِيُّ، وابْنُ مِقْسَمٍ ونافِعٌ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وأبانٌ عَنْ عاصِمٍ وهارُونَ ومَحْبُوبٍ، كِلاهُما عَنْ أبِي عَمْرٍو، والحَسَنُ والجَحْدَرِيُّ: بِخِلافٍ عَنْهُما بِفَتْحِها. قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: بَرَقَ بِالفَتْحِ: شَقَّ. وقالَ ابْنُ إسْحاقَ: خَفَتَ عِنْدَ المَوْتِ. قالَ مُجاهِدٌ: هَذا عِنْدَ المَوْتِ. وقالَ الحَسَنُ: هو يَوْمُ القِيامَةِ. وقَرَأ أبُو السَّمّالِ: بَلَقَ بِاللّامِ عِوَضَ الرّاءِ، أيِ: انْفَتَحَ وانْفَرَجَ، يُقالُ: بَلَقَ البابُ وأبْلَقْتُهُ وبَلَّقْتُهُ: فَتَحْتُهُ، هَذا قَوْلُ أهْلِ اللُّغَةِ إلّا الفَرّاءَ فَإنَّهُ يَقُولُ: بَلَقَهُ وأبْلَقَهُ إذا أغْلَقَهُ. وقالَ ثَعْلَبٌ: أخْطَأ الفَرّاءُ في ذَلِكَ، إنَّما هو بَلَقَ البابَ وأبْلَقَهُ إذا فَتَحَهُ. انْتَهى. ويُمْكِنُ أنْ تَكُونَ اللّامُ بَدَلًا مِنَ الرّاءِ، فَهُما يَتَعاقَبانِ في بَعْضِ الكَلامِ، نَحْوُ قَوْلِهِمْ: نَثَرَهُ ونَثَلَهُ، ووَجَرَ ووَجِلَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿وخَسَفَ﴾ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ. وأبُو حَيْوَةَ وابْنُ أبِي عَبْلَةَ ويَزِيدُ بْنُ (p-٣٨٦)قُطَيْبٍ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. يُقالُ: خَسَفَ القَمَرُ وخَسَفَهُ اللَّهُ، وكَذَلِكَ الشَّمْسُ. قالَ أبُو عُبَيْدَةَ وجَماعَةٌ مِن أهْلِ اللُّغَةِ: الخُسُوفُ والكُسُوفُ بِمَعْنًى واحِدٍ. وقالَ ابْنُ أبِي أُوَيْسٍ: الكُسُوفُ ذَهابُ بَعْضِ الضَّوْءِ، والخُسُوفُ جَمِيعُهُ. ﴿وجُمِعَ الشَّمْسُ والقَمَرُ﴾: لَمْ تَلْحَقْ عَلامَةُ التَّأْنِيثِ؛ لِأنَّ تَأْنِيثَ الشَّمْسِ مَجازٌ، أوْ لِتَغْلِيبِ التَّذْكِيرِ عَلى التَّأْنِيثِ. وقالَ الكِسائِيُّ: حُمِلَ عَلى المَعْنى، والتَّقْدِيرُ: جُمِعَ النُّورانِ أوِ الضِّياءانِ، ومَعْنى الجَمْعِ بَيْنَهُما، قالَ عَطاءُ بْنُ يَسارٍ: يُجْمَعانِ فَيُلْقَيانِ في النّارِ، وعَنْهُ يُجْمَعانِ يَوْمَ القِيامَةِ ثُمَّ يُقْذَفانِ في البَحْرِ، فَيَكُونانِ نارَ اللَّهِ الكُبْرى. وقِيلَ: يُجْمَعُ بَيْنَهُما في الطُّلُوعِ مِنَ المَغْرِبِ، فَيَطْلُعانِ أسْوَدَيْنِ مُكَوَّرَيْنِ. وقالَ عَلِيٌّ وابْنُ عَبّاسٍ: يُجْعَلانِ في نُورِ الحُجُبِ، وقِيلَ: يَجْتَمِعانِ ولا يَتَفَرَّقانِ، ويَقْرُبانِ مِنَ النّاسِ فَيَلْحَقُهُمُ العَرَقُ لِشِدَّةِ الحَرِّ، فَكَأنَّ المَعْنى: يُجْمَعُ حَرُّهُما. وقِيلَ: يُجْمَعُ بَيْنَهُما في ذَهابِ الضَّوْءِ، فَلا يَكُونُ ثَمَّ تَعاقُبُ لَيْلٍ ولا نَهارٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿المَفَرُّ﴾ بِفَتْحِ المِيمِ والفاءِ، أيْ: أيْنَ الفِرارُ ؟ وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ بْنِ أبِي طالِبٍ، والحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ، وابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ وعِكْرِمَةُ وأيُّوبُ السَّخْتِيانِيُّ وكُلْثُومُ بْنُ عِياضٍ، ومُجاهِدٌ وابْنُ يَعْمُرَ وحَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ وأبُو رَجاءٍ وعِيسى، وابْنُ أبِي إسْحاقَ وأبُو حَيْوَةَ وابْنُ أبِي عَبْلَةَ والزُّهْرِيُّ: بِكَسْرِ الفاءِ، وهو مَوْضِعُ الفِرارِ. وقَرَأ الحَسَنُ: بِكَسْرِ المِيمِ وفَتْحِ الفاءِ، ونَسَبَها ابْنُ عَطِيَّةَ لِلزُّهْرِيِّ، أيِ: الجَيِّدُ الفِرارِ، وأكْثَرُ ما يُسْتَعْمَلُ هَذا الوَزْنُ في الآلاتِ وفي صِفاتِ الخَيْلِ، نَحْوُ قَوْلِهِ: ؎مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعًا والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿كَلّا لا وزَرَ﴾ ﴿إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ﴾ مِن تَمامِ قَوْلِ الإنْسانِ. وقِيلَ: هو مِن كَلامِ اللَّهِ تَعالى، لا حِكايَةً عَنِ الإنْسانِ. (كَلًّا): رَدْعٌ عَنْ طَلَبِ المَفَرِّ ﴿لا وزَرَ﴾: لا مَلْجَأ، وعَبَّرَ المُفَسِّرُونَ عَنْهُ بِالجَبَلِ. قالَ مُطَرِّفُ بْنُ الشِّخِّيرِ: هو كانَ وِزْرُ فِرارِ العَرَبِ في بِلادِهِمْ، فَلِذَلِكَ اسْتُعْمِلَ، والحَقِيقَةُ أنَّهُ المَلْجَأُ مِن جَبَلٍ أوْ حِصْنٍ أوْ سِلاحٍ أوْ رَجُلٍ أوْ غَيْرِهِ. (إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ) أيْ: إلى حُكْمِهِ يَوْمئِذٍ تَقُولُ أيْنَ المَفَرُّ ﴿المُسْتَقَرُّ﴾ أيِ: الِاسْتِقْرارُ، أوْ مَوْضِعُ اسْتِقْرارٍ مِن جَنَّةٍ أوْ نارٍ إلى مَشِيئَتِهِ تَعالى، يُدْخِلُ مَن شاءَ الجَنَّةَ، ويُدْخِلُ مَن شاءَ النّارَ. ﴿بِما قَدَّمَ وأخَّرَ﴾ قالَ عَبْدُ اللَّهِ وابْنُ عَبّاسٍ: بِما قَدَّمَ في حَياتِهِ وأخَّرَ مِن سَنَةٍ يَعْمَلُ بِها بَعْدَهُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: بِما قَدَّمَ مِنَ المَعاصِي وأخَّرَ مِنَ الطّاعاتِ. وقالَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ: بِما قَدَّمَ مِن مالِهِ لِنَفْسِهِ، وبِما أخَّرَ مِنهُ لِلْوارِثِ. وقالَ النَّخَعِيُّ ومُجاهِدٌ: بِأوَّلِ عَمَلِهِ وآخِرِهِ. وقالَ الضَّحّاكُ: بِما قَدَّمَ مِن فَرْضٍ وأخَّرَ مِن فَرْضٍ. والظّاهِرُ حَمْلُهُ عَلى العُمُومِ، أيْ: يُخْبِرُهُ بِكُلِّ ما قَدَّمَ وكُلِّ ما أخَّرَ، مِمّا ذَكَرَهُ المُفَسِّرُونَ ومِمّا لَمْ يَذْكُرُوهُ. (بَصِيرَةً): خَبَرٌ عَنِ الإنْسانِ، أيْ: شاهِدٌ، قالَهُ قَتادَةُ، والهاءُ لِلْمُبالَغَةِ. وقالَ الأخْفَشُ: هو كَقَوْلِكَ فُلانٌ عِبْرَةٌ وحُجَّةٌ. وقِيلَ: أُنِّثَ لِأنَّهُ أرادَ جَوارِحَهُ، أيْ: جَوارِحُهُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ. وقِيلَ: (بَصِيرَةٌ) مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ المَوْصُوفِ، أيْ: عَيْنٌ بَصِيرَةٌ، و(عَلى نَفْسِهِ) الخَبَرُ. والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ خَبَرٍ عَنِ الإنْسانِ، والتَّقْدِيرُ: عَيْنٌ بَصِيرَةٌ، وإلَيْهِ ذَهَبَ الفَرّاءُ، وأنْشَدَ: ؎كَأنَّ عَلى ذِي العَقْلِ عَيْنًا بَصِيرَةً ∗∗∗ بِمَقْعَدِهِ، أوْ مَنظَرٍ هو ناظِرُهُ ؎يُحاذِرُ حَتّى يَحْسَبَ النّاسَ كُلَّهم ∗∗∗ مِنَ الخَوْفِ لا تَخْفى عَلَيْهِمْ سَرائِرُهُ وعَلى هَذا نَخْتارُ أنْ تَكُونَ (بَصِيرَةٌ) فاعِلًا بِالجارِّ والمَجْرُورِ، وهو الخَبَرُ عَنِ الإنْسانِ. ألا تَرى أنَّهُ قَدِ اعْتَمَدَ بِوُقُوعِهِ خَبَرًا عَنِ الإنْسانِ ؟ وعَلى هَذا فالتّاءُ لِلتَّأْنِيثِ. وتَأوَّلَ ابْنُ عَبّاسٍ (البَصِيرَةَ) بِالجَوارِحِ، أوِ المَلائِكَةِ الحَفَظَةِ. والمَعاذِيرُ عِنْدَ الجُمْهُورِ الأعْذارُ، فالمَعْنى: لَوْ جاءَ بِكُلِّ مَعْذِرَةٍ يَعْتَذِرُ بِها عَنْ نَفْسِهِ، فَإنَّهُ هو الشّاهِدُ عَلَيْها والحُجَّةُ البَيِّنَةُ عَلَيْها. وقِيلَ: المَعاذِيرُ جَمْعُ مَعْذِرَةٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قِياسُ مَعْذِرَةٍ مَعاذِرُ، فالمَعاذِيرُ لَيْسَ بِجَمْعِ مَعْذِرَةٍ، إنَّما هو اسْمُ جَمْعٍ لَها، ونَحْوُ المَناكِيرِ في المُنْكَرِ. انْتَهى. ولَيْسَ هَذا البِناءُ مِن (p-٣٨٧)أبْنِيَةِ أسْماءِ الجُمُوعِ، وإنَّما هو مِن أبْنِيَةِ جَمْعِ التَّكْسِيرِ، فَهو كَمَذاكِيرَ ومَلامِيحَ والمُفْرَدُ مِنهُما لَمْحَةٌ وذِكْرٌ. ولَمْ يَذْهَبْ أحَدٌ إلى أنَّهُما مِن أسْماءِ الجُمُوعِ، بَلْ قِيلَ: هُما جَمْعٌ لِلَمْحَةٍ وذِكْرٍ عَلى غَيْرِ قِياسٍ، أوْ هُما جَمْعٌ لِمُفْرَدٍ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ، وهو مِذْكارٌ ومَلْمَحَةٌ. وقالَ السُّدِّيُّ والضَّحّاكُ: المَعاذِيرُ: السُّتُورُ بِلُغَةِ اليَمَنِ، واحِدُها مِعْذارٌ، وهو يَمْنَعُ رُؤْيَةَ المُحْتَجِبِ، كَما تَمْنَعُ المَعْذِرَةُ عُقُوبَةَ الذَّنْبِ. وقالَهُ الزَّجّاجُ أيْضًا، أيْ: وإنْ رَمى مَسْتُورَةً يُرِيدُ أنْ يُخْفِيَ عَمَلَهُ، فَنَفْسُهُ شاهِدَةٌ عَلَيْهِ. وأنْشَدُوا في أنَّ المَعاذِيرَ السُّتُورُ قَوْلَ الشّاعِرِ: ؎ولَكِنَّها ضَنَّتْ بِمَنزِلِ ساعَةٍ ∗∗∗ عَلَيْنا، وأطَّتْ فَوْقَها بِالمَعاذِرِ وقِيلَ: البَصِيرَةُ: الكاتِبانِ يَكْتُبانِ ما يَكُونُ مِن خَيْرٍ أوْ شَرٍّ، أيْ: وإنْ تَسَتَّرَ بِالسُّتُورِ، وإذا كانَتْ مِنَ العُذْرِ، فَمَعْنى ﴿ولَوْ ألْقى﴾ أيْ: نَطَقَ بِمَعاذِيرِهِ وقالَها. وقِيلَ: ولَوْ رَمى بِأعْذارِهِ واسْتَسْلَمَ. وقالَ السُّدِّيُّ: ولَوْ أدْلى بِحُجَّةٍ وعُذْرٍ. وقِيلَ: ولَوْ أحالَ بَعْضَهم عَلى بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَوْلا أنْتُمْ لَكُنّا مُؤْمِنِينَ﴾ [سبإ: ٣١] . والعُذْرَةُ والعُذْرى: المَعْذِرَةُ، قالَ الشّاعِرُ: ؎ها إنَّ ذِي عُذْرَةٍ أنْ لا تَكُنْ نَفَعَتْ وقالَ فِيها: ولا عُذْرَ لِمَجْحُودٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب