الباحث القرآني

قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: (p-٣٦٥)﴿فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الوِلْدانَ شِيبًا﴾ ﴿السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وعْدُهُ مَفْعُولًا﴾ ﴿إنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شاءَ اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ ﴿إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أنَّكَ تَقُومُ أدْنى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ونِصْفَهُ وثُلُثَهُ وطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ واللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ والنَّهارَ عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكم فاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ عَلِمَ أنْ سَيَكُونُ مِنكم مَرْضى وآخَرُونَ يَضْرِبُونَ في الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وآخَرُونَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ فاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنهُ وأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ وأقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وما تُقَدِّمُوا لِأنْفُسِكم مِن خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هو خَيْرًا وأعْظَمَ أجْرًا واسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ . (يَوْمًا) مَنصُوبٌ بِـ (تَتَّقُونَ)، مَنصُوبٌ نَصْبَ المَفْعُولِ بِهِ عَلى المَجازِ، أيْ: كَيْفَ تَسْتَقْبِلُونَ هَذا اليَوْمَ العَظِيمَ الَّذِي مِن شَأْنِهِ كَذا وكَذا ؟ والضَّمِيرُ في (يَجْعَلُ) لِلْيَوْمِ، أُسْنِدَ إلَيْهِ الجَعْلُ لَمّا كانَ واقِعًا لَهُ عَلى سَبِيلِ المَجازِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (يَوْمًا) مَفْعُولٌ بِهِ، أيْ: فَكَيْفَ تَقُونَ أنْفُسَكم يَوْمَ القِيامَةِ وهَوْلَهُ إنْ بَقِيتُمْ عَلى الكُفْرِ ولَمْ تُؤْمِنُوا وتَعْمَلُوا صالِحًا ؟ انْتَهى. و(تَتَّقُونَ) مُضارِعُ اتَّقى، واتَّقى لَيْسَ بِمَعْنى وقى حَتّى يُفَسِّرَهُ بِهِ، واتَّقى يَتَعَدّى إلى واحِدٍ، ووَقى يَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ. قالَ تَعالى: ﴿ووَقاهم عَذابَ الجَحِيمِ﴾ [الدخان: ٥٦] ولِذَلِكَ قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَقُونَ أنْفُسَكم يَوْمَ القِيامَةِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ (تَتَّقُونَ) بِمَعْنى تَقُونَ، فَلا يَتَعَدّى تَعْدِيَتَهُ، ودَسَّ في قَوْلِهِ: ولَمْ تُؤْمِنُوا وتَعْمَلُوا صالِحًا الِاعْتِزالَ. قالَ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ظَرْفًا، أيْ: فَكَيْفَ لَكم بِالتَّقْوى في يَوْمِ القِيامَةِ إنْ كَفَرْتُمْ في الدُّنْيا ؟ قالَ: ويَجُوزُ أنْ يَنْتَصِبَ بِـ (كَفَرْتُمْ) عَلى تَأْوِيلِ جَحَدْتُمْ، أيْ: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ اللَّهَ وتَخْشَوْنَهُ إنْ جَحَدْتُمْ يَوْمَ القِيامَةِ ؟ والجَزاءُ لِأنَّ تَقْوى اللَّهِ خَوْفُ عِقابِهِ. انْتَهى. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (يَوْمًا) مُنَوَّنًا (يَجْعَلُ) بِالياءِ. والجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: (يَجْعَلُ) صِفَةٌ لِـ (يَوْمًا) فَإنْ كانَ الضَّمِيرُ في (يَجْعَلُ) عائِدًا عَلى اليَوْمِ فَواضِحٌ وهو الظّاهِرُ.، وإنْ عادَ عَلى اللَّهِ، كَما قالَ بَعْضُهم، فَلا بُدَّ مِن حَذْفِ ضَمِيرٍ يَعُودُ إلى اليَوْمِ، أيْ: يَجْعَلُ فِيهِ، كَقَوْلِهِ: ﴿يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ﴾ [البقرة: ٤٨] . وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ: نَجْعَلُ بِالنُّونِ، فالظَّرْفُ مُضافٌ إلى الجُمْلَةِ، والشِّيبُ مَفْعُولٌ ثانٍ لِيَجْعَلَ، أيْ: يَصِيرُ الصِّبْيانُ شُيُوخًا، وهو كِنايَةٌ عَنْ شِدَّةِ ذَلِكَ اليَوْمِ. ويُقالُ في اليَوْمِ الشَّدِيدِ: يَوْمٌ يُشِيبُ نَواصِيَ الأطْفالِ، والأصْلُ فِيهِ أنَّ الهُمُومَ إذا تَفاقَمَتْ أسْرَعَتْ بِالشِّيبِ. قالَ المُتَنَبِّي: ؎والهَمُّ يَخْتَرِمُ الجَسِيمَ نَحافَةً ويُشِيبُ ناصِيَةَ الصَّبِيِّ ويُهْرِمُ وقالَ قَوْمٌ: ذَلِكَ حَقِيقَةٌ تَشِيبُ رُؤُوسُهم مِن شِدَّةِ الهَوْلِ، كَما قَدْ يُرى الشَّيْبُ في الدُّنْيا مِنَ الهَمِّ المُفْرِطِ، كَهَوْلِ البَحْرِ ونَحْوِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يُوصَفَ اليَوْمُ بِالطُّولِ، وأنَّ الأطْفالَ يَبْلُغُونَ فِيهِ أوانَ الشَّيْخُوخَةِ. وقالَ السُّدِّيُّ: (الوِلْدانَ) أوْلادُ الزِّنا. وقِيلَ: أوْلادُ المُشْرِكِينَ، والظّاهِرُ العُمُومُ، أيْ: يَشِيبُ الصَّغِيرُ مِن غَيْرِ كِبَرٍ، وذَلِكَ حِينَ يُقالُ لِآدَمَ: يا آدَمُ ! قُمْ فابْعَثْ بَعْثَ النّارِ. وقِيلَ: هَذا وقْتَ الفَزَعِ قَبْلَ أنْ يُنْفَخَ في الصُّورِ نَفْخَةَ الصَّعْقِ. ﴿السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ﴾ قالَ الفَرّاءُ: يَعْنِي المُظِلَّةَ تُذَكَّرُ وتُؤَنَّثُ، فَجاءَ (مُنْفَطِرٌ) عَلى التَّذْكِيرِ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎فَلَوْ رَفَعَ السَّماءُ إلَيْهِ قَوْمًا ∗∗∗ لَحِقْنا بِالسَّماءِ وبِالسَّحابِ وعَلى القَوْلِ بِالتَّأْنِيثِ، فَقالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: هو مِن بابِ الجَرادِ المُنْتَشِرِ، والشَّجَرِ الأخْضَرِ، وأعْجازِ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ. انْتَهى، يَعْنِي أنَّها مِن بابِ اسْمِ الجِنْسِ الَّذِي بَيْنَهُ وبَيْنَ مُفْرَدِهِ تاءُ التَّأْنِيثِ، وأنَّ مُفْرَدَهُ سَماءٌ، واسْمُ الجِنْسِ يَجُوزُ فِيهِ التَّذْكِيرُ والتَّأْنِيثُ، فَجاءَ مُنْفَطِرٌ عَلى التَّذْكِيرِ. وقالَ أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ، (p-٣٦٦)وأبُو عُبَيْدَةَ والكِسائِيُّ، وتَبِعَهُمُ القاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: مَجازُها السَّقْفُ، فَجاءَ عَلَيْهِ مُنْفَطِرٌ، ولَمْ يَقُلْ مُنْفَطِرَةً. وقالَ أبُو عَلِيٍّ أيْضًا: التَّقْدِيرُ ذاتُ انْفِطارٍ، كَقَوْلِهِمْ: امْرَأةٌ مُرْضِعٌ، أيْ: ذاتُ رَضاعٍ، فَجَرى عَلى طَرِيقِ التَّسَبُّبِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أوِ السَّماءُ شَيْءٌ مُنْفَطِرٌ، فَجَعَلَ (مُنْفَطِرٌ) صِفَةً لِخَبَرٍ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ بِمُذَكَّرٍ وهو شَيْءٌ، والِانْفِطارُ: التَّصَدُّعُ والِانْشِقاقُ. والضَّمِيرُ في ”بِهِ“ الظّاهِرُ أنَّهُ يَعُودُ عَلى اليَوْمِ، والباءُ لِلسَّبَبِ، أيْ: بِسَبَبِ شِدَّةِ ذَلِكَ اليَوْمِ، أوْ ظَرْفِيَّةٌ، أيْ فِيهِ. وقالَ مُجاهِدٌ: يَعُودُ عَلى اللَّهِ، أيْ: بِأمْرِهِ وسُلْطانِهِ. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في (وعْدُهُ) عائِدٌ عَلى اليَوْمِ، فَهو مِن إضافَةِ المُصَدِّرِ إلى المَفْعُولِ، أيْ: أنَّهُ تَعالى وعَدَ عِبادَهُ هَذا اليَوْمَ، وهو يَوْمُ القِيامَةِ، فَلا بُدَّ مِن إنْجازِهِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ عائِدًا عَلى اللَّهِ تَعالى، فَيَكُونُ مِن إضافَةِ المَصْدَرِ إلى الفاعِلِ، وإنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ قَرِيبٌ؛ لِأنَّهُ مَعْلُومٌ أنَّ الَّذِي هَذِهِ مَواعِيدُهُ هو اللَّهُ تَعالى. (إنَّ هَذِهِ) أيِ السُّورَةُ، أوِ الأنْكالُ وما عُطِفَ عَلَيْهِ، والأخْذُ الوَبِيلُ، أوْ آياتُ القُرْآنِ المُتَضَمِّنَةُ شِدَّةَ القِيامَةِ (تَذْكِرَةٌ) أيْ: مَوْعِظَةٌ ﴿فَمَن شاءَ اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ بِالتَّقَرُّبِ إلَيْهِ بِالطّاعَةِ، ومَفْعُولُ شاءَ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الشَّرْطُ؛ لِأنَّ ”مَن“ شَرْطِيَّةٌ، أيْ: فَمَن شاءَ أنْ يَتَّخِذَ سَبِيلًا اتَّخَذَهُ إلى رَبِّهِ، ولَيْسَتِ المَشِيئَةُ هُنا عَلى مَعْنى الإباحَةِ، بَلْ تَتَضَمَّنُ مَعْنى الوَعْدِ والوَعِيدِ. ﴿إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أنَّكَ تَقُومُ أدْنى﴾: تُصَلِّي، كَقَوْلِهِ: ﴿قُمِ اللَّيْلَ﴾ [المزمل: ٢] . لَمّا كانَ أكْثَرُ أحْوالِ الصَّلاةِ القِيامَ عَبَّرَ بِهِ عَنْها، وهَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ تَخْفِيفًا لِما كانَ اسْتِمْرارُ اسْتِعْمالِهِ مِن أمْرِ قِيامِ اللَّيْلِ، إمّا عَلى الوُجُوبِ، وإمّا عَلى النَّدْبِ، عَلى الخِلافِ الَّذِي سَبَقَ. ﴿أدْنى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ﴾ أيْ: زَمانًا هو أقَلُّ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ، واسْتُعِيرَ الأدْنى، وهو الأقْرَبُ لِلْأوَّلِ؛ لِأنَّ المَسافَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إذا دَنَتْ قَلَّ ما بَيْنَهُما مِنَ الأحْيازِ، وإذا بَعُدَتْ كَثُرَ ذَلِكَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿مِن ثُلُثَيِ﴾ بِضَمِّ اللّامِ. والحَسَنُ وشَيْبَةُ وأبُو حَيْوَةَ، وابْنُ السَّمَيْقَعِ وهِشامٌ وابْنُ مُجاهِدٍ، عَنْ قُنْبُلٍ فِيما ذَكَرَ صاحِبُ الكامِلِ: بِإسْكانِها، وجاءَ ذَلِكَ عَنْ نافِعٍ وابْنِ عامِرٍ فِيما ذَكَرَ صاحِبُ اللَّوامِحِ. وقَرَأ العَرَبِيّانِ ونافِعٌ: ﴿ونِصْفَهُ وثُلُثَهُ﴾، بِجَرِّهِما عَطْفًا عَلى ﴿ثُلُثَيِ اللَّيْلِ﴾ . وباقِي السَّبْعَةِ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلى (أدْنى) لِأنَّهُ مَنصُوبٌ عَلى الظَّرْفِ، أيْ: وقْتًا أدْنى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ. فَقِراءَةُ النَّصْبِ مُناسِبَةٌ لِلتَّقْسِيمِ الَّذِي في أوَّلِ السُّورَةِ؛ لِأنَّهُ إذا قامَ اللَّيْلَ إلّا قَلِيلًا صَدَقَ عَلَيْهِ ﴿أدْنى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ﴾ لِأنَّ الزَّمانَ الَّذِي لَمْ يَقُمْ فِيهِ يَكُونُ الثُّلُثَ وشَيْئًا مِنَ الثُّلُثَيْنِ، فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (إلّا قَلِيلًا) . وأمّا قَوْلُهُ: (ونِصْفَهُ) فَهو مُطابِقٌ لِقَوْلِهِ أوَّلًا: (نِصْفَهْ) وأمّا ( ثُلُثَهُ ( فَإنَّ قَوْلَهُ: ﴿أوِ انْقُصْ مِنهُ قَلِيلًا﴾ [المزمل: ٣] قَدْ يَنْتَهِي النَّقْصُ في القَلِيلِ إلى أنْ يَكُونَ الوَقْتُ ثُلُثَ اللَّيْلِ. وأمّا قَوْلُهُ: ﴿أوْ زِدْ عَلَيْهِ﴾ [المزمل: ٤] فَإنَّهُ إذا زادَ عَلى النِّصْفِ قَلِيلًا، كانَ الوَقْتُ أقَلَّ مِنَ الثُّلُثَيْنِ، فَيَكُونُ قَدْ طابَقَ قَوْلَهُ: ﴿أدْنى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ﴾ ويَكُونُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿نِصْفَهُ أوِ انْقُصْ مِنهُ قَلِيلًا﴾ [المزمل: ٣] شَرْحًا لِمُبْهَمِ ما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿قُمِ اللَّيْلَ إلّا قَلِيلًا﴾ [المزمل: ٢] وعَلى قِراءَةِ النَّصْبِ. قالَ الحَسَنُ وابْنُ جُبَيْرٍ: مَعْنى تُحْصُوهُ: تُطِيقُوهُ، أيْ: قَدَّرَ تَعالى أنَّهم يُقَدِّرُونَ الزَّمانَ عَلى ما مَرَّ في أوَّلِ السُّورَةِ، فَلَمْ يُطِيقُوا قِيامَهُ لِكَثْرَتِهِ وشِدَّتِهِ، فَخَفَّفَ تَعالى عَنْهم فَضْلًا مِنهُ، لا لِعِلَّةِ جَهْلِهِمْ بِالتَّقْدِيرِ وإحْصاءِ الأوْقاتِ. وأمّا قِراءَةُ الجَرِّ، فالمَعْنى أنَّهُ قِيامٌ مُخْتَلِفٌ، مَرَّةً أدْنى مِنَ الثُّلُثَيْنِ، ومَرَّةً أدْنى مِنَ النِّصْفِ، ومَرَّةً أدْنى مِنَ الثُّلُثِ، وذَلِكَ لِتَعَذُّرِ مَعْرِفَةِ البَشَرِ مَقادِيرَ الزَّمانِ مَعَ عُذْرِ النَّوْمِ. وتَقْدِيرُ الزَّمانِ حَقِيقَةٌ إنَّما هو لِلَّهِ تَعالى، والبَشَرُ لا يُحْصُونَ ذَلِكَ، أيْ: لا يُطِيقُونَ مَقادِيرَ ذَلِكَ، فَتابَ عَلَيْهِمْ، أيْ: رَجَعَ بِهِمْ مِنَ الثِّقَلِ إلى الخِفَّةِ وأمَرَهم بِقِيامِ ما تَيَسَّرَ. وعَلى القِراءَتَيْنِ يَكُونُ عِلْمُهُ تَعالى بِذَلِكَ عَلى حَسَبِ الوُقُوعِ مِنهم؛ لِأنَّهم قامُوا تِلْكَ المَقادِيرَ في أوْقاتٍ مُخْتَلِفَةٍ قامُوا أدْنى مِنَ الثُّلُثَيْنِ ونِصْفًا وثُلُثًا، وقامُوا أدْنى مِنَ النِّصْفِ وأدْنى مِنَ الثُّلُثِ، فَلا تَنافِي بَيْنَ القِراءَتَيْنِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (وثُلُثَهُ) بِضَمِّ اللّامِ. وابْنُ كَثِيرٍ في رِوايَةِ شِبْلٍ: بِإسْكانِها. وطائِفَةٌ: مَعْطُوفٌ عَلى الضَّمِيرِ المَسْتَكِنُّ في ”تَقُومُ“، وحَسَّنَهُ الفَصْلُ بَيْنَهُما. وقَوْلُهُ: ﴿وطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ﴾ (p-٣٦٧)دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا عَلى الجَمِيعِ، إذْ لَوْ كانَ فَرْضًا، لَكانَ التَّرْكِيبُ: والَّذِينَ مَعَكَ، إلّا إنِ اعْتَقَدَ أنَّهم كانَ مِنهم مَن يَقُومُ في بَيْتِهِ، ومِنهم مَن يَقُومُ مَعَهُ، فَيُمْكِنُ إذْ ذاكَ الفَرْضِيَّةُ في حَقِّ الجَمِيعِ. ﴿واللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ والنَّهارَ﴾ أيْ: هو وحْدَهُ تَعالى العالِمُ بِمَقادِيرِ السّاعاتِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وتَقْدِيمُ اسْمِهِ عَزَّ وجَلَّ مُبْتَدَأً مَبْنِيًّا عَلَيْهِ، يُقَدِّرُ هو الدّالُّ عَلى مَعْنى الِاخْتِصاصِ بِالتَّقْدِيرِ. انْتَهى. وهَذا مَذْهَبُهُ، وإنَّما اسْتُفِيدَ الِاخْتِصاصُ مِن سِياقِ الكَلامِ لا مِن تَقْدِيمِ المُبْتَدَأِ. لَوْ قُلْتَ: زَيْدٌ يَحْفَظُ القُرْآنَ أوْ يَتَفَقَّهُ في كِتابِ سِيبَوَيْهِ، لَمْ يَدُلَّ تَقْدِيمُ المُبْتَدَأِ عَلى الِاخْتِصاصِ. وأنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، والضَّمِيرُ في ”تُحْصُوهُ“، الظّاهِرُ أنَّهُ عائِدٌ عَلى المَصْدَرِ المَفْهُومِ مِن يُقَدِّرُ، أيْ: أنْ لَنْ تُحْصُوا تَقْدِيرَ ساعاتِ اللَّيْلِ والنَّهارِ، لا تُحِيطُوا بِها عَلى الحَقِيقَةِ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلى القِيامِ المَفْهُومِ مِن قَوْلِهِ: ”فَتابَ عَلَيْكم“ . قِيلَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ كانَ فِيهِمْ مَن تَرَكَ بَعْضَ ما أمَرَ بِهِ. وقِيلَ: رَجَعَ بِكم مِن ثِقَلٍ إلى خَفٍّ، ومِن عُسْرٍ إلى يُسْرٍ، ورَخَّصَ لَكم في تَرْكِ القِيامِ المُقَدَّرِ. ﴿فاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ﴾ عَبَّرَ بِالقِراءَةِ عَنِ الصَّلاةِ؛ لِأنَّها بَعْضُ أرْكانِها، كَما عَبَّرَ عَنْها بِالقِيامِ والرُّكُوعِ والسُّجُودِ، أيْ: فَصَلُّوا ما تَيَسَّرَ عَلَيْكم مِن صَلاةِ اللَّيْلِ. وقِيلَ: وهَذا ناسِخٌ لِلْأوَّلِ، ثُمَّ نُسِخا جَمِيعًا بِالصَّلَواتِ الخَمْسِ. وهَذا الأمْرُ بِقَوْلِهِ: (فاقْرَءُوا) . قالَ الجُمْهُورُ: أمْرُ إباحَةٍ، وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وجَماعَةٌ: هو فَرْضٌ لا بُدَّ مِنهُ، ولَوْ خَمْسِينَ آيَةً. وقالَ الحَسَنُ وابْنُ سِيرِينَ: قِيامُ اللَّيْلِ فَرْضٌ، ولَوْ قَدْرُ حَلْبِ شاةٍ. وقِيلَ: هو أمْرٌ بِقِراءَةِ القُرْآنِ بِعَيْنِها، لا كِنايَةٌ عَنِ الصَّلاةِ. وإذا كانَ المُرادُ: فاقْرَءُوا في الصَّلاةِ ما تَيَسَّرَ، فالظّاهِرُ أنَّهُ لا يَتَعَيَّنُ ما يَقْرَأُ، بَلْ إذا قَرَأ ما تَيَسَّرَ لَهُ وسَهُلَ عَلَيْهِ أجْزَأهُ. وقَدَّرَهُ أبُو حَنِيفَةَ بِآيَةٍ، حَكاهُ عَنْهُ الماوَرْدِيُّ. وبِثَلاثٍ، حَكاهُ ابْنُ العَرَبِيِّ. وعَيَّنَ مالِكٌ والشّافِعِيُّ ما تَيَسَّرَ، قالا: هو فاتِحَةُ الكِتابِ، لا يَعْدِلُ عَنْها ولا يَقْتَصِرُ عَلى بَعْضِها. ﴿عَلِمَ أنْ سَيَكُونُ مِنكم مَرْضى﴾ بَيانٌ لِحِكْمَةِ النَّسْخِ، وهي تَعَذُّرُ القِيامِ عَلى المَرْضى، والضّارِبِينَ في الأرْضِ لِلتِّجارَةِ، والمُجاهِدِينَ في سَبِيلِ اللَّهِ ﴿فاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنهُ﴾ كَرَّرَ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ. ثُمَّ أمَرَ بِعَمُودَيِ الإسْلامِ البَدَنِيِّ والمالِيِّ، ثُمَّ قالَ: ﴿وأقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾: العَطْفُ يُشْعِرُ بِالتَّغايُرِ، فَقَوْلُهُ: (وآتُوا الزَّكاةَ) أمَرَ بِأداءِ الواجِبِ، ﴿وأقْرِضُوا اللَّهَ﴾ أمَرَ بِأداءِ الصَّدَقاتِ الَّتِي يُتَطَوَّعُ بِها. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿هُوَ خَيْرًا وأعْظَمَ أجْرًا﴾ بِنَصْبِهِما، واحْتَمَلَ هو أنْ يَكُونَ فَصْلًا، وأنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِضَمِيرِ النَّصْبِ في (تَجِدُوهُ) . ولَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ والحَوْفِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ في إعْرابِ (هو) إلّا الفَصْلَ. وقالَ أبُو البَقاءِ: هو فَصْلٌ، أوْ بَدَلٌ، أوْ تَأْكِيدٌ. فَقَوْلُهُ: أوْ بَدَلٌ وهْمٌ، لَوْ كانَ بَدَلًا لَطابَقَ في النَّصْبِ فَكانَ يَكُونُ إيّاهُ. وقَرَأ أبُو السَّمّالِ وابْنُ السَّمَيْقَعِ: هو خَيْرٌ وأعْظَمُ، بِرَفْعِهِما عَلى الِابْتِداءِ أوِ الخَبَرِ. قالَ أبُو زَيْدٍ: هو لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، يَرْفَعُونَ ما بَعْدَ الفاصِلَةِ، يَقُولُونَ: كانَ زَيْدٌ هو العاقِلُ بِالرَّفْعِ، وهَذا البَيْتُ لِقَيْسِ بْنِ ذَرِيحٍ وهو: ؎تَحِنُّ إلى لَيْلى وأنْتَ تَرَكْتَها ∗∗∗ وكُنْتَ عَلَيْها بِالمَلا أنْتَ أقْدَرُ قالَ أبُو عَمْرٍو الجَرْمِيُّ: أنْشَدَ سِيبَوَيْهِ هَذا البَيْتَ شاهِدًا لِلرَّفْعِ والقَوافِي مَرْفُوعَةٌ. ويُرْوى: أقْدَرَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهو فَصْلٌ وجازَ وإنْ لَمْ يَقَعْ بَيْنَ مَعْرِفَتَيْنِ؛ لِأنَّ أفْعَلَ مِن أشْبَهَ في امْتِناعِهِ مِن حَرْفِ التَّعْرِيفِ المَعْرِفَةِ. انْتَهى. ولَيْسَ ما ذَكَرَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ. ومِنهم مَن أجازَهُ، ولَيْسَ أفْعَلُ مِن أحْكامِ الفَصْلِ ومَسائِلِهِ، والخِلافُ الوارِدُ فِيها كَثِيرٌ جِدًّا، وقَدْ جَمَعْنا فِيهِ كِتابًا سَمَّيْناهُ بِالقَوْلِ الفَصْلِ في أحْكامِ الفَصْلِ، وأوْدَعْنا مُعْظَمَهُ شَرْحَ التَّسْهِيلِ مِن تَأْلِيفِنا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب