الباحث القرآني

قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: (p-٣٥١)﴿وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلى الطَّرِيقَةِ لَأسْقَيْناهم ماءً غَدَقًا﴾ ﴿لِنَفْتِنَهم فِيهِ ومَن يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذابًا صَعَدًا﴾ ﴿وأنَّ المَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أحَدًا﴾ ﴿وأنَّهُ لَمّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾ ﴿قُلْ إنَّما أدْعُوا رَبِّي ولا أُشْرِكُ بِهِ أحَدًا﴾ ﴿قُلْ إنّى لا أمْلِكُ لَكم ضَرًّا ولا رَشَدًا﴾ ﴿قُلْ إنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أحَدٌ ولَنْ أجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا﴾ ﴿إلّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ ورِسالاتِهِ ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَإنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أبَدًا﴾ [الجن: ٢٣] ﴿حَتّى إذا رَأوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَن أضْعَفُ ناصِرًا وأقَلُّ عَدَدًا﴾ [الجن: ٢٤] ﴿قُلْ إنْ أدْرِي أقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أمَدًا﴾ [الجن: ٢٥] ﴿عالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أحَدًا﴾ [الجن: ٢٦] ﴿إلّا مَنِ ارْتَضى مِن رَسُولٍ فَإنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ رَصَدًا﴾ [الجن: ٢٧] ﴿لِيَعْلَمَ أنْ قَدْ أبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وأحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وأحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾ [الجن: ٢٨] . (p-٣٥٢)هَذا مِن جُمْلَةِ المُوحى المُنْدَرِجِ تَحْتَ ﴿أُوحِيَ إلَيَّ﴾ [الجن: ١] وأنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، والضَّمِيرُ في (اسْتَقامُوا) . قالَ الضَّحّاكُ والرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ، وزَيْدُ بْنُ أسْلَمَ وأبُو مِجْلِزٍ: هو عائِدٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿فَمَن أسْلَمَ﴾ [الجن: ١٤] والطَّرِيقَةُ: طَرِيقَةُ الكُفْرِ، أيْ: لَوْ كَفَرَ مَن أسْلَمَ مِنَ النّاسِ ﴿لَأسْقَيْناهُمْ﴾ إمْلاءً لَهم واسْتِدْراجًا. واسْتِعارَةُ الِاسْتِقامَةِ لِلْكُفْرِ قَلِقَةٌ لا تُناسِبُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ وابْنُ جُبَيْرٍ: هو عائِدٌ عَلى القاسِطِينَ، والمَعْنى عَلى الطَّرِيقَةِ الإسْلامُ والحَقُّ؛ لَأنْعَمْنا عَلَيْهِمْ، نَحْوُ قَوْلِهِ: ﴿ولَوْ أنَّ أهْلَ الكِتابِ آمَنُوا واتَّقَوْا﴾ [المائدة: ٦٥] الآيَةِ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ في (اسْتَقامُوا) عائِدٌ عَلى الخَلْقِ كُلِّهِمْ، و(أنْ) هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ. ﴿لَأسْقَيْناهم ماءً غَدَقًا﴾: كِنايَةٌ عَنْ تَوْسِعَةِ الرِّزْقِ لِأنَّهُ أصْلُ المَعاشِ. وقالَ بَعْضُهم: المالُ حَيْثُ الماءِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (غَدَقًا) بِفَتْحِ الدّالِ. وعاصِمٌ في رِوايَةِ الأعْشى بِكَسْرِها. ويُقالُ: غَدَقَتِ العَيْنُ تُغْدِقُ غَدَقًا فَهي غَدِقَةٌ، إذا كَثُرَ ماؤُها. (لِنَفْتِنَهم) أيْ: لِنَخْتَبِرَهم كَيْفَ يَشْكُرُونَ ما أنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِهِ، أوْ لِنَمْتَحِنَهم ونَسْتَدْرِجَهم، وذَلِكَ عَلى الخِلافِ فِيمَن يَعُودُ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ في (اسْتَقامُوا) . وقَرَأ الأعْمَشُ وابْنُ وثّابٍ، بِضَمِّ واوِ (لَوْ) . والجُمْهُورُ بِكَسْرِها. وقَرَأ الكُوفِيُّونَ: (يَسْلُكُهُ) بِالياءِ، وباقِي السَّبْعَةِ بِالنُّونِ. وابْنُ جُنْدُبٍ بِالنُّونِ مِن أسْلَكَ، وبَعْضُ التّابِعِينَ بِالياءِ مِن أسْلَكَ أيْضًا، وهُما لُغَتانِ: سَلَكَ وأسْلَكَ، قالَ الشّاعِرُ: ؎حَتّى إذا أسْلَكُوهم في قُتائِدَةٍ وقَرَأ الجُمْهُورُ: (صَعَدًا) بِفَتْحَتَيْنِ، وذُو مَصْدَرِ صَعِدَ وصَفَ بِهِ العَذابَ، أيْ: يَعْلُو المُعَذَّبَ ويَغْلِبُهُ، وفُسِّرَ بِشاقٍّ. يُقالُ: فُلانٌ في صُعُدٍ مِن أمْرِهِ، أيْ: في مَشَقَّةٍ. وقالَ عُمَرُ: ما يُتَصَعَّدُ بِي شَيْءٌ كَما يُتَصَعَّدُ في خُطْبَةِ النِّكاحِ، أيْ: ما يَشُقُّ عَلَيَّ. وقالَ أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ وابْنُ عَبّاسٍ: صَعَدٌ: جَبَلٌ في النّارِ. وقالَ الخُدْرِيُّ: كُلَّما وضَعُوا أيْدِيَهم عَلَيْهِ ذابَتْ. وقالَ عِكْرِمَةُ: هو صَخْرَةٌ مَلْساءُ في جَهَنَّمَ يُكَلَّفُ صُعُودَها، فَإذا انْتَهى إلى أعْلاها حَدَرَ إلى جَهَنَّمَ، فَعَلى هَذا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِن (عَذابٍ) عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: عَذابٌ صَعَدٌ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (صَعَدًا) مَفْعُولَ (يَسْلُكْهُ)، (وعَذابًا) مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ. وقَرَأ قَوْمٌ: (صُعُدًا) بِضَمَّتَيْنِ. وابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ بِضَمِّ الصّادِ وفَتْحِ العَيْنِ. قالَ الحَسَنُ: مَعْناهُ لا راحَةَ فِيهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿وأنَّ المَساجِدَ﴾ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ عَطْفًا عَلى ﴿أنَّهُ اسْتَمَعَ﴾ [الجن: ١] فَهو مِن جُمْلَةِ المُوحى. وقالَ الخَلِيلُ: مَعْنى الآيَةِ: ﴿وأنَّ المَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا﴾ أيْ: لِهَذا السَّبَبِ، وكَذَلِكَ عِنْدَهُ ﴿لِإيلافِ قُرَيْشٍ﴾ [قريش: ١] (فَلْيَعْبُدُوا) وكَذَلِكَ (وأنَّ هَذِهِ أُمَتُّكم) أيْ: ولِأنَّ هَذِهِ. وقَرَأ ابْنُ هُرْمُزَ وطَلْحَةُ: (وإنَّ المَساجِدَ) بِكَسْرِها عَلى الِاسْتِئْنافِ وعَلى تَقْدِيرِ الخَلِيلِ، فالمَعْنى: فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أحَدًا في المَساجِدِ؛ لِأنَّها لِلَّهِ خاصَّةً ولِعِبادَتِهِ، والظّاهِرُ أنَّ المَساجِدَ هي البُيُوتُ المُعَدَّةُ لِلصَّلاةِ والعِبادَةِ في كُلِّ مِلَّةٍ. وقالَ الحَسَنُ: كُلُّ مَوْضِعٍ سُجِدَ فِيهِ فَهو مَسْجِدٌ، كانَ مَخْصُوصًا لِذَلِكَ أوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأنَّ الأرْضَ كُلَّها مَسْجِدُ هَذِهِ الأُمَّةِ. وأبْعَدَ ابْنُ عَطاءٍ في قَوْلِهِ إنَّها الآرابُ الَّتِي يُسْجَدُ عَلَيْها، واحِدُها مَسْجَدٌ بِفَتْحِ الجِيمِ، وهي الجَبْهَةُ والأنْفُ واليَدانِ والرُّكْبَتانِ والقَدَمانِ، عَدَّ الجَبْهَةَ والأنْفَ واحِدًا، وأبْعَدَ أيْضًا مَن قالَ: المَسْجِدُ الحَرامُ؛ لِأنَّهُ قِبْلَةُ المَساجِدِ، وقالَ: إنَّهُ جَمَعَ مَسْجِدٌ وهو السُّجُودُ. ورُوِيَ أنَّها نَزَلَتْ حِينَ تَغَلَّبَتْ قُرَيْشٌ عَلى الكَعْبَةِ، فَقِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: المَواضِعُ كُلُّها لِلَّهِ، فاعْبُدْهُ حَيْثُ كُنْتَ. «وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: نَزَلَتْ لِأنَّ الجِنَّ قالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نَشْهَدُ الصَّلاةَ مَعَكَ عَلى نَأْيِنا عَنْكَ ؟ فَنَزَلَتِ الآيَةُ لِيُخاطِبَهم عَلى مَعْنى أنَّ عِبادَتَكم حَيْثُ كُنْتُمْ مَقْبُولَةٌ إذا دَخَلْنا المَساجِدَ» . وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿وأنَّهُ لَمّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ﴾ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، عَطْفًا عَلى قِراءَتِهِمْ ﴿وأنَّ المَساجِدَ﴾ بِالفَتْحِ. وقَرَأ ابْنُ هُرْمُزَ وطَلْحَةُ ونافِعٌ وأبُو بَكْرٍ: بِكَسْرِها عَلى الِاسْتِئْنافِ. وعَبْدُ اللَّهِ هو مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (يَدْعُوهُ) أيْ: يَدْعُو اللَّهَ (p-٣٥٣)(كادُوا) أيْ: كادَ الجِنُّ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ والضَّحّاكُ: يَنْقَضُّونَ عَلَيْهِ لِاسْتِماعِ القُرْآنِ. وقالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ: الضَّمِيرُ في (كادُوا) لِكُفّارِ قُرَيْشٍ والعَرَبِ في اجْتِماعِهِمْ عَلى رَدِّ أمْرِهِ. وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: المَعْنى أنَّها قَوْلُ الجِنِّ لِقَوْمِهِمْ يَحْكُونَ، والضَّمِيرُ في (كادُوا) لِأصْحابِهِ الَّذِينَ يَطَّوَّعُونَ لَهُ ويُقَيَّدُونَ بِهِ في الصَّلاةِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): هَلّا قِيلَ رَسُولُ اللَّهِ أوِ النَّبِيُّ ؟ (قُلْتُ): لِأنَّ تَقْدِيرَهُ: وأُوحِيَ إلَيَّ أنَّهُ لَمّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ، فَلَمّا كانَ واقِعًا في كَلامِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَنْ نَفْسِهِ، جِيءَ بِهِ عَلى ما يَقْتَضِيهِ التَّواضُعُ والتَّذَلُّلُ، أوْ لِأنَّ المَعْنى أنَّ عِبادَةَ عَبْدِ اللَّهِ لِلَّهِ لَيْسَتْ بِأمْرٍ مُسْتَبْعَدٍ عَنِ العَقْلِ، ولا مُسْتَنْكَرٍ حَتّى يَكُونُوا عَلَيْهِ لِبَدًا. ومَعْنى (قامَ يَدْعُوهُ): قامَ يَعْبُدُهُ، يُرِيدُ قِيامَهُ لِصَلاةِ الفَجْرِ بِنَخْلَةَ حِينَ أتاهُ الجِنُّ، فاسْتَمَعُوا لِقِراءَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ. ﴿كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾ أيْ: يَزْدَحِمُونَ عَلَيْهِ مُتَراكِمِينَ؛ تَعَجُّبًا مِمّا رَأوْا مِن عِبادَتِهِ، واقْتِداءِ أصْحابِهِ بِهِ قائِمًا وراكِعًا وساجِدًا، وإعْجابًا بِما تَلا مِنَ القُرْآنِ؛ لِأنَّهم رَأوْا ما لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ، وسَمِعُوا بِما لَمْ يَسْمَعُوا بِنَظِيرِهِ. انْتَهى، وهو قَوْلٌ مُتَقَدِّمٌ كَثَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِخَطابَتِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (لِبَدًا) بِكَسْرِ اللّامِ وفَتْحِ الباءِ جَمْعُ لِبْدَةٍ، نَحْوُ: كِسْرَةٍ وكِسَرٍ، وهي الجَماعاتُ شُبِّهَتْ بِالشَّيْءِ المُتَلَبِّدِ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ، ومِنهُ قَوْلُ عَبْدِ مَنافِ بْنِ رِبْعٍ: ؎صافُّوا بِسِتَّةِ أبْياتٍ وأرْبَعَةٍ ∗∗∗ حَتّى كَأنَّ عَلَيْهِمْ جانِبًا لِبَدًا وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أعْوانًا. وقَرَأ مُجاهِدٌ وابْنُ مُحَيْصِنٍ وابْنُ عامِرٍ: بِخِلافٍ عَنْهُ بِضَمِّ اللّامِ جَمْعُ لُبْدَةٍ، كُزُبْرَةٍ وزُبُرٍ. وعَنِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ أيْضًا: تَسْكِينُ الباءِ وضَمُّ اللّامِ (لُبْدًا) . وقَرَأ الحَسَنُ والجَحْدَرِيُّ وأبُو حَيْوَةَ وجَماعَةٌ عَنْ أبِي عَمْرٍو: بِضَمَّتَيْنِ جَمْعٍ لَبْدٍ، كَرَهْنٍ ورُهُنٍ، أوْ جَمْعُ لَبُودٍ، كَصَبُورٍ وصُبُرٍ. وقَرَأ الحَسَنُ والجَحْدَرِيُّ: بِخِلافٍ عَنْهُما، (لُبَّدًا) بِضَمِّ اللّامِ وشَدِّ الباءِ المَفْتُوحَةِ. قالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ وابْنُ زَيْدٍ: لَمّا قامَ الرَّسُولُ لِلدَّعْوَةِ، تَلَبَّدَتِ الإنْسُ والجِنُّ عَلى هَذا الأمْرِ لِيُطْفِئُوهُ، فَأبى اللَّهُ إلّا أنْ يَنْصُرَهُ ويُتِمَّ نُورَهُ. انْتَهى. وأبْعَدَ مَن قالَ عَبْدُ اللَّهِ هُنا نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كادَ قَوْمُهُ يَقْتُلُونَهُ حَتّى اسْتَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنهم، قالَهُ الحَسَنُ. وأبْعَدَ مِنهُ قَوْلُ مَن قالَ إنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: قالَ إنَّما أدْعُو رَبِّي أيْ: أعْبُدُهُ، أيْ: قالَ لِلْمُتَظاهِرِينَ عَلَيْهِ: ﴿إنَّما أدْعُو رَبِّي﴾ أيْ: لَمْ آتِكم بِأمْرٍ يُنْكَرُ، إنَّما أعْبُدُ رَبِّي وحْدَهُ، ولَيْسَ ذَلِكَ مِمّا يُوجِبُ إطْباقَكم عَلى عَداوَتِي. أوْ قالَ لِلْجِنِّ عِنْدَ ازْدِحامِهِمْ مُتَعَجِّبِينَ: لَيْسَ ما تَرَوْنَ مِن عِبادَةِ اللَّهِ بِأمْرٍ يُتَعَجَّبُ مِنهُ، إنَّما يُتَعَجَّبُ مِمَّنْ يَعْبُدُ غَيْرَهُ. أوْ قالَ الجِنُّ لِقَوْمِهِمْ: ذَلِكَ حِكايَةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وهَذا كُلُّهُ مُرَتَّبٌ عَلى الخِلافِ في عَوْدِ الضَّمِيرِ في (كادُوا) . وقَرَأ عاصِمٌ وحَمْزَةُ وأبُو عَمْرٍو بِخِلافٍ عَنْهُ: (قُلْ) أيْ: قُلْ يا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاءِ المُزْدَحِمِينَ عَلَيْكَ، وهم إمّا الجِنُّ وإمّا المُشْرِكُونَ، عَلى اخْتِلافِ القَوْلَيْنِ في ضَمِيرِ (كادُوا) . ثُمَّ أمَرَهُ تَعالى أنْ يَقُولَ لَهم ما يَدُلُّ عَلى تَبَرُّئِهِ مِنَ القُدْرَةِ عَلى إيصالِ خَيْرٍ أوْ شَرٍّ إلَيْهِمْ، وجَعَلَ الضَّرَّ مُقابِلًا لِلرُّشْدِ تَعْبِيرًا بِهِ عَنِ الغَيِّ، إذِ الغَيُّ ثَمَرَتُهُ الضَّرَرُ، يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: ضَرًّا ولا نَفْعًا ولا غَيًّا ولا رَشَدًا، فَحَذَفَ مِن كُلِّ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ مُقابِلَهُ. وقَرَأ الأعْرَجُ: (رُشُدًا) بِضَمَّتَيْنِ. ولَمّا تَبَرَّأ - عَلَيْهِ السَّلامُ - مِن قُدْرَتِهِ عَلى نَفْعِهِمْ وضَرِّهِمْ، أمَرَ بِأنْ يُخْبِرَهم بِأنَّهُ مَرْبُوبٌ لِلَّهِ تَعالى، يَفْعَلُ فِيهِ رَبُّهُ ما يُرِيدُ، وأنَّهُ لا يُمْكِنُ أنْ يُجِيرَهُ مِنهُ أحَدٌ، ولا يَجِدُ مِن دُونِهِ مَلْجَأً يَرْكَنُ إلَيْهِ، قالَ قَرِيبًا مِنهُ قَتادَةُ. وقالَ السُّدِّيُّ: حِرْزًا. وقالَ الكَلْبِيُّ: مَدْخَلًا في الأرْضِ، وقِيلَ: ناصِرًا، وقِيلَ: مَذْهَبًا ومَسْلَكًا، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎يا لَهْفَ نَفْسِي ! ونَفْسِي غَيْرُ مُجْدِيَةٍ ∗∗∗ عَنِّي، وما مِن قَضاءِ اللَّهِ مُلْتَحَدُ وقِيلَ: في الكَلامِ حَذْفٌ وهو: قالُوا لَهُ اتْرُكْ ما تَدْعُو إلَيْهِ ونَحْنُ نُجِيرُكَ، فَقِيلَ لَهُ: قُلْ لَنْ يُجِيرَنِي. وقِيلَ: هو جَوابٌ لِقَوْلِ ورْدانَ سَيِّدِ الجِنِّ، وقَدِ ازْدَحَمُوا عَلَيْهِ، قالَ ورْدانُ: أنا أُرَحِّلُهم عَنْكَ، فَقالَ: (p-٣٥٤)إنِّي لَنْ يُجِيَرَنِي أحَدٌ، ذَكَرَهُ الماوَرْدِيُّ. ﴿إلّا بَلاغًا﴾ [الجن: ٢٣] قالَ الحَسَنُ: هو اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ، أيْ: لَنْ يُجِيرَنِي أحَدٌ، لَكِنْ إنْ بَلَّغْتُ رَحِمَنِي بِذَلِكَ. والإجارَةُ لِلْبَلاغِ مُسْتَعارَةٌ، إذْ هو سَبَّبُ إجارَةِ اللَّهِ تَعالى ورَحِمَتِهِ. وقِيلَ عَلى هَذا المَعْنى: هو اسْتِثْناءٌ مُتَّصِلٌ، أيْ: لَنْ يُجِيرَنِي في أحَدٍ، لَكِنْ لَمْ أجِدْ شَيْئًا أمِيلُ إلَيْهِ وأعْتَصِمُ بِهِ إلّا أنْ أُبَلِّغَ وأُطِيعَ فَيُجِيرَنِي اللَّهُ، فَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلى الِاسْتِثْناءِ مِن (مُلْتَحَدًا)، وعَلى البَدَلِ وهو الوَجْهُ؛ لِأنَّ ما قَبْلَهُ نَفْيًا، وعَلى البَدَلِ خَرَّجَهُ الزَّجّاجُ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: هَذا الِاسْتِثْناءُ مُنْقَطِعٌ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَقُلْ: ولَمْ أجِدْ مُلْتَحَدًا بَلْ، قالَ: (مِن دُونِهِ) والبَلاغُ مِنَ اللَّهِ لا يَكُونُ داخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا﴾ لِأنَّهُ لا يَكُونُ مِن دُونِ اللَّهِ، بَلْ يَكُونُ مِنَ اللَّهِ وبِإعانَتِهِ وتَوْفِيقِهِ. وقالَ قَتادَةُ: التَّقْدِيرُ لا أمْلِكُ إلّا بَلاغًا إلَيْكم، فَأمّا الإيمانُ والكُفْرُ فَلا أمْلِكُ. انْتَهى، وفِيهِ بُعْدٌ لِطُولِ الفَصْلِ بَيْنَهُما. وقِيلَ، (إلّا) في تَقْدِيرِ الِانْفِصالِ: إنْ شَرْطِيَّةٌ ولا نافِيَةٌ، وحُذِفَ فِعْلُها لِدَلالَةِ المَصْدَرِ عَلَيْهِ، والتَّقْدِيرُ: إنْ لَمْ أبْلُغْ بَلاغًا مِنَ اللَّهِ ورِسالَتِهِ، وهَذا كَما تَقُولُ: إنْ لا قِيامًا قُعُودًا، أيْ: إنْ لَمْ تَقُمْ قِيامًا فاقْعُدْ قُعُودًا، وحَذْفُ هَذا الفِعْلِ قَدْ يَكُونُ لِدَلالَةٍ عَلَيْهِ بَعْدَهُ أوْ قَبْلَهُ، كَما حُذِفَ في قَوْلِهِ: ؎فَطَلِّقْها فَلَسْتَ لَها بِكُفْءٍ ∗∗∗ وإلّا يَعْلُ مَفْرِقَكَ الحُسامُ التَّقْدِيرُ: وإنْ لا تُطَلِّقْها، فَحَذَفَ (تُطَلِّقْها) لِدَلالَةِ فَطَلِّقْها عَلَيْهِ، ومِن لِابْتِداءِ الغايَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تابِعًا لِـ قَتادَةَ، أيْ: لا أمْلِكُ إلّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ، و﴿قُلْ إنِّي لَنْ يُجِيرَنِي﴾: جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ اعْتَرَضَ بِها لِتَأْكِيدِ نَفْيِ الِاسْتِطاعَةِ عَنْ نَفْسِهِ، وبَيانِ عَجْزِهِ عَلى مَعْنى إنَّ اللَّهَ إنْ أرادَ بِهِ سُوءً مِن مَرَضٍ أوْ مَوْتٍ أوْ غَيْرِهِما، لَمْ يَصِحَّ أنْ يُجِيرَهُ مِنهُ أحَدٌ أوْ يَجِدَ مِن دُونِهِ مَلاذًا يَأْوِي إلَيْهِ. انْتَهى. (ورِسالاتِهِ) قِيلَ: عَطْفٌ عَلى (بَلاغًا) أيْ: إلّا أنْ أُبَلِّغَ عَنِ اللَّهِ، أوْ أُبَلِّغَ رِسالاتِهِ. الظّاهِرُ أنَّ (رِسالاتِهِ) عَطْفٌ عَلى (اللَّهِ)، أيْ: إلّا أنْ أُبَلِّغَ عَنِ اللَّهِ وعَنْ رِسالاتِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب