الباحث القرآني

﴿وإنْ كانَ طائِفَةٌ مِنكم آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فاصْبِرُوا حَتّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وهو خَيْرُ الحاكِمِينَ﴾ هَذا الكَلامُ مِن أحْسَنِ ما تَلَطَّفَ بِهِ في المُحاوَرَةِ إذْ بَرَزَ المُتَحَقِّقُ في صُورَةِ المَشْكُوكِ فِيهِ، وذَلِكَ أنَّهُ قَدْ آمَنَ بِهِ طائِفَةٌ بِدَلِيلِ قَوْلِ المُسْتَكْبِرِينَ عَنِ الإيمانِ (p-٣٤١)﴿لَنُخْرِجَنَّكَ ياشُعَيْبُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ﴾ [الأعراف: ٨٨] وهو أيْضًا مِن بارِعِ التَّقْسِيمِ إذْ لا يَخْلُو قَوْمُهُ مِنَ القِسْمَيْنِ، والَّذِي أُرْسِلَ بِهِ هُنا ما أمَرَهم بِهِ مِن إفْرادِ اللَّهِ تَعالى بِالعِبادَةِ وإيفاءِ الكَيْلِ والمِيزانِ ونَهاهم عَنْهُ مِنَ البَخْسِ والإفْسادِ والقُعُودِ المَذْكُورِ، ومُتَعَلِّقُ (لَمْ يُؤْمِنُوا) مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ ما قَبْلَهُ وتَقْدِيرُهُ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، والخِطابُ بِقَوْلِهِ (مِنكم) لِقَوْمِهِ ويَنْبَغِي أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ (فاصْبِرُوا) خِطابًا لِفَرِيقَيْ قَوْمِهِ مَن آمَنَ ومَن لَمْ يُؤْمِن، و(بَيْنَنا) أيْ بَيْنَ الجَمِيعِ فَيَكُونُ ذَلِكَ وعْدًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ الَّذِي هو نَتِيجَةُ الصَّبْرِ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وأُوذُوا حَتّى أتاهم نَصْرُنا ووَعِيدًا لِلْكافِرِينَ بِالعُقُوبَةِ والخَسارِ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: المَعْنى وإنْ كُنْتُمْ يا قَوْمِ قَدِ اخْتَلَفْتُمْ عَلَيَّ وشَعَّبْتُمْ بِكُفْرِكم أمْرِي فَآمَنَتْ طائِفَةٌ وكَفَرَتْ طائِفَةٌ، فاصْبِرُوا أيُّها الكَفَرَةُ حَتّى يَأْتِيَ حُكْمُ اللَّهِ بَيْنِي وبَيْنَكم، فَفي قَوْلِهِ فاصْبِرُوا قُوَّةُ التَّهْدِيدِ والوَعِيدِ هَذا ظاهِرُ الكَلامِ، وإنَّ المُخاطَبَةَ بِجَمِيعِ الآيَةِ لِلْكُفّارِ، قالَ النَّقّاشُ وقالَ مُقاتِلُ بْنُ سُلَيْمانَ: المَعْنى ﴿فاصْبِرُوا﴾ يا مَعْشَرَ الكُفّارِ قالَ: وهَذا قَوْلُ الجَماعَةِ انْتَهى. وهَذا القَوْلُ بَدَأ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، فَقالَ ﴿فاصْبِرُوا﴾ فَتَرَبَّصُوا وانْتَظَرُوا ﴿حَتّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا﴾ أيْ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ بِأنْ يَنْصُرَ المُحِقِّينَ عَلى المُبْطِلِينَ ويُظْهِرَهم عَلَيْهِمْ، وهَذا وعِيدٌ لِلْكافِرِينَ بِانْتِقامِ اللَّهِ تَعالى مِنهم لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَتَرَبَّصُوا إنّا مَعَكم مُتَرَبِّصُونَ﴾ [التوبة: ٥٢] انْتَهى. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وحَكى مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أبِي سَعِيدٍ أنَّ الخِطابَ بِقَوْلِهِ ﴿فاصْبِرُوا﴾ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلى مَعْنى الوَعْدِ لَهم، وقالَهُ مُقاتِلُ بْنُ حَيّانَ انْتَهى. وثَنى بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، فَقالَ أوْ هو مَوْعِظَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وحَثٌّ عَلى الصَّبْرِ واحْتِمالِ ما كانَ يَلْحَقُهم مِن أذى المُشْرِكِينَ إلى أنْ يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَهم ويَنْتَقِمَ لَهم مِنهُمُ انْتَهى. والَّذِي قَدَّمْناهُ أوَّلًا مِن أنَّهُ خِطابٌ لِلْفَرِيقَيْنِ هو قَوْلُ أبِي عَلِيٍّ وأتى بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ ثالِثًا، فَقالَ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ خِطابًا لِلْفَرِيقَيْنِ لِيَصْبِرَ المُؤْمِنُونَ عَلى أذى الكُفّارِ ولِيَصْبِرَ الكُفّارُ عَلى ما يَسُوءُهم مِن إيمانِ مَن آمَنَ مِنهم حَتّى يَحْكُمَ اللَّهُ فَيَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ انْتَهى. وهو جارٍ عَلى عادَتِهِ مِن ذِكْرِ تَجْوِيزاتٍ في الكَلامِ تُوهِمُ أنَّها مِن قَوْلِهِ، وهي أقْوالٌ لِلْعُلَماءِ المُتَقَدِّمِينَ ﴿وهُوَ خَيْرُ الحاكِمِينَ﴾ لِأنَّ حُكْمَهُ عَدْلٌ لا يُخْشى أنْ يَكُونَ فِيهِ حَيْفٌ وجَوْرٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب