الباحث القرآني

﴿إنَّكم لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِن دُونِ النِّساءِ بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾ هَذا بَيانٌ لِقَوْلِهِ: ﴿أتَأْتُونَ الفاحِشَةَ﴾ [الأعراف: ٨٠] وأتى هُنا مِن قَوْلِهِ أتى المَرْأةَ غَشِيَها وهو اسْتِفْهامٌ عَلى جِهَةِ التَّوْبِيخِ والإنْكارِ، وقَرَأ نافِعٌ وحَفْصٌ (إنَّكم) عَلى الخَبَرِ المُسْتَأْنَفِ، و(شَهْوَةً) مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ. قالَهُ الحَوْفِيُّ، وابْنُ عَطِيَّةَ، وجَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وأبُو البَقاءِ، أيْ: مُشْتَهِينَ تابِعِينَ لِلشَّهْوَةِ غَيْرَ مُلْتَفِتِينَ لِقُبْحِها، أوْ مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ. قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وبَدَأ بِهِ أبُو البَقاءِ، أيْ: لِلِاشْتِهاءِ لا حامِلَ لَكم عَلى ذَلِكَ إلّا مُجَرَّدُ الشَّهْوَةِ ولا ذَمَّ أعْظَمُ مِنهُ؛ لِأنَّهُ وصْفٌ لَهم بِالبَهِيمَةِ، وأنَّهم لا داعِيَ لَهم مِن جِهَةِ العَقْلِ كَطَلَبِ النَّسْلِ ونَحْوِهِ و﴿مِن دُونِ النِّساءِ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ: مُنْفَرِدِينَ عَنِ النِّساءِ، وقالَ الحَوْفِيُّ: ﴿مِن دُونِ النِّساءِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِشَهْوَةٍ و(بَلْ) هُنا لِلْخُرُوجِ مِن قِصَّةٍ إلى قِصَّةٍ تُنْبِئُ بِأنَّهم مُتَجاوِزُو الحَدِّ في الِاعْتِداءِ، وقِيلَ: إضْرابٌ عَنْ تَقْرِيرِهِمْ وتَوْبِيخِهِمْ والإنْكارُ، أوْ عَنِ الإخْبارِ عَنْهم بِهَذِهِ المَعْصِيَةِ الشَّنِيعَةِ إلى الحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِالحالِ الَّتِي تَنْشَأُ عَنْها القَبائِحُ وتَدْعُو إلى اتِّباعِ الشَّهَواتِ وهي الإسْرافُ، وهو الزِّيادَةُ المُفْسِدَةُ لَمّا كانَتْ عادَتُهُمُ الإسْرافَ أسْرَفُوا حَتّى في بابِ قَضاءِ الشَّهْوَةِ وتَجاوَزُوا المُعْتادَ إلى غَيْرِهِ ونَحْوِهِ ﴿بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ﴾ [الشعراء: ١٦٦]، وقِيلَ: إضْرابٌ عَنْ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ ما عَدَلْتُمْ، بَلْ أنْتُمْ، وقالَ الكِرْمانِيُّ: بَلْ رَدٌّ لِجَوابِ زَعَمُوا أنْ يَكُونَ لَهم عُذْرٌ، أيْ: لا عُذْرَ لَكم ولا حُجَّةَ ﴿بَلْ أنْتُمْ﴾ وجاءَ هُنا ﴿مُسْرِفُونَ﴾ باسِمِ الفاعِلِ لِيَدُلَّ عَلى الثُّبُوتِ ولِمُوافَقَةِ ما سَبَقَ مِن رُءُوسِ الآيِ في خَتْمِها بِالأسْماءِ، وجاءَ في النَّمْلِ ﴿تَجْهَلُونَ﴾ [النمل: ٥٥] بِالمُضارِعِ لِتَجَدُّدِ الجَهْلِ فِيهِمْ ولِمُوافَقَةِ ما سَبَقَ مِن رُءُوسِ الآيِ في خَتْمِها بِالأفْعالِ. ﴿وما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إلّا أنْ قالُوا أخْرِجُوهم مِن قَرْيَتِكُمْ﴾ الضَّمِيرُ في ﴿أخْرِجُوهُمْ﴾ عائِدٌ عَلى لُوطٍ ومَن آمَنَ بِهِ ولَمّا تَأخَّرَ نُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ عَنْ سُورَةِ النَّمْلِ أُضْمِرَ ما فَسَّرَهُ الظّاهِرُ في النَّمْلِ مِن قَوْلِهِ: ﴿أخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِن قَرْيَتِكُمْ﴾ [النمل: ٥٦]، وآلُ لُوطٍ ابْنَتاهُ وهُما رَعْواءُ ورَيْفاءُ ومَن تَبِعَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ، وقِيلَ: لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلّا ابْنَتاهُ كَما قالَ تَعالى: ﴿فَما وجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ المُسْلِمِينَ﴾ [الذاريات: ٣٦] وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى آلِ لُوطٍ وأهْلِهِ وإنْ كانَ لَمْ يَجْرِ لَهم ذِكْرٌ فَإنَّ المَعْنى يَقْتَضِيهِمْ، وقَرَأ الحَسَنُ (جَوابُ) بِالرَّفْعِ. انْتَهى وهُنا جاءَ العَطْفُ بِالواوِ، والمُرادُ بِها أحَدُ مَحامِلِها الثَّلاثِ مِنَ التَّعْقِيبِ المَعْنِيِّ في النَّمْلِ في قَوْلِهِ: ﴿تَجْهَلُونَ﴾ [النمل: ٥٥] ﴿فَما﴾ [النمل: ٥٦] وفي العَنْكَبُوتِ ﴿وتَأْتُونَ في نادِيكُمُ المُنْكَرَ فَما﴾ [العنكبوت: ٢٩] وكانَ التَّعْقِيبُ مُبالَغَةً في الرَّدِّ حَيْثُ لَمْ يُمْهِلُوا في الجَوابِ زَمانًا، بَلْ أعْجَلُوهُ بِالجَوابِ سُرْعَةً (p-٣٣٥)وعَدَمَ البَراءَةِ بِما يُجاوِبُونَ بِهِ ولَمْ يُطابِقِ الجَوابُ قَوْلَهُ؛ لِأنَّهُ لَمّا أنْكَرَ عَلَيْهِمُ الفاحِشَةَ وعَظَّمَ أمْرَها ونَسَبَهم إلى الإسْرافِ بادَرُوا بِشَيْءٍ لا تَعَلُّقَ لَهُ بِكَلامِهِ وهو الأمْرُ بِالإخْراجِ ونَظِيرُهُ جَوابُ قَوْمِ إبْراهِيمَ بِأنْ قالُوا: ﴿حَرِّقُوهُ وانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ﴾ [الأنبياء: ٦٨] حَتّى قَبَّحَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿أُفٍّ لَكم ولِما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٧] فَأتَوْا بِجَوابٍ لا يُطابِقُ كَلامَهُ، والقَرْيَةُ هي سَدُومُ سُمِّيَتْ باسِمِ سَدُومَ بْنِ باقِيمَ الَّذِي يُضْرَبُ المَثَلُ في الحُكُوماتِ، هاجَرَ لُوطٌ مَعَ عَمِّهِ إبْراهِيمَ مِن أرْضِ بابِلَ فَنَزَلَ إبْراهِيمُ أرْضَ فِلَسْطِينَ، وأنْزَلَ لُوطًا الأُرْدُنَّ. ﴿إنَّهم أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ يَتَقَذَّرُونَ عَنْ إتْيانِ أدْبارِ الرِّجالِ والنِّساءِ، وقِيلَ: يَأْتُونَ النِّساءَ في الأطْهارِ، وقالَ ابْنُ بَحْرٍ: يَرْتَقِبُونَ أطْهارَ النِّساءِ فَيُجامِعُونَهُنَّ فِيها، وقِيلَ: يَتَنَزَّهُونَ عَنْ فِعْلِنا، وهو مَعْنى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٍ، وقِيلَ: يَغْتَسِلُونَ مِنَ الجَنابَةِ ويَتَطَهَّرُونَ بِالماءِ، عَيَّرُوهم بِذَلِكَ ويُسَمّى هَذا النَّوْعُ في عِلْمِ البَيانِ التَّعْرِيضَ بِما يُوهِمُ الذَّمَّ، وهو مَدْحٌ كَقَوْلِهِ: ؎ولا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهم بِهِنَّ فُلُولٌ مِن قِراعِ الكَتائِبِ ولِذَلِكَ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: عابُوهم بِما يُمْدَحُ بِهِ، والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: (إنَّهم) تَعْلِيلٌ لِلْإخْراجِ، أيْ: لِأنَّهم لا يُوافِقُونَنا عَلى ما نَحْنُ عَلَيْهِ، ومَن لا يُوافِقُنا وجَبَ أنْ نُخْرِجَهُ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقَوْلُهم ﴿إنَّهم أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ سُخْرِيَةٌ بِهِمْ وبِتَطَهُّرِهِمْ مِنَ الفَواحِشِ وافْتِخارٌ بِما كانُوا فِيهِ مِنَ القَذارَةِ كَما يَقُولُ الشَّيْطانُ مِنَ الفَسَقَةِ لِبَعْضِ الصُّلَحاءِ إذا وعَظَهُمُ أبْعِدُوا عَنّا هَذا المُتَقَشِّفَ وأرِيحُونا مِن هَذا المُتَزَهِّدِ. ﴿فَأنْجَيْناهُ وأهْلَهُ إلّا امْرَأتَهُ كانَتْ مِنَ الغابِرِينَ﴾، أيْ: ﴿فَأنْجَيْناهُ وأهْلَهُ﴾ مِنَ العَذابِ الَّذِي حَلَّ بِقَوْمِهِ وأهْلِهِ هُمُ المُؤْمِنُونَ مَعَهُ، أوِ ابْنَتاهُ عَلى الخِلافِ الَّذِي سَبَقَ، واسْتَثْنى مِن أهْلِهِ امْرَأتَهُ فَلَمْ تَنْجُ واسْمُها واهِلَةُ كانَتْ مُنافِقَةً تُسِرُّ الكُفْرَ مُوالِيَةً لِأهْلِ سَدُومَ ومَعْنى ﴿مِنَ الغابِرِينَ﴾ مِنَ الَّذِينَ بَقُوا في دِيارِهِمْ فَهَلَكُوا، وعَلى هَذا يَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿كانَتْ مِنَ الغابِرِينَ﴾ تَفْسِيرًا وتَوْكِيدًا لِما تَضَمَّنَهُ الِاسْتِثْناءُ مِن كَوْنِها لَمْ يُنْجِها اللَّهُ تَعالى. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: ﴿إلّا امْرَأتَهُ﴾ اكْتَفى بِهِ في أنَّها لَمْ تَنْجُ، ثُمَّ ابْتَدَأ وصْفَها بَعْدَ ذَلِكَ بِصِفَةٍ لا تَتَعَلَّقُ بِها النَّجاةُ ولا الهَلَكَةُ، وهي أنَّها كانَتْ مِمَّنْ أسَنَّ وبَقِيَ مِن عَصْرِهِ إلى عَصْرِ غَيْرِهِ فَكانَتْ غابِرَةً، أيْ: مُتَقَدِّمَةً في السِّنِّ كَما قالَ: إلّا عَجُوزًا في الغابِرِينَ إلى أنْ هَلَكَتْ مَعَ قَوْمِها. انْتَهى. وجاءَ ﴿مِنَ الغابِرِينَ﴾ تَغْلِيبًا لِلذُّكُورِ عَلى الإناثِ، وقالَ الزَّجّاجُ: مِنَ الغائِبِينَ عَنِ النَّجاةِ فَيَكُونُ تَوْكِيدًا لِما تَضَمَّنَهُ الِاسْتِثْناءُ. انْتَهى. و﴿كانَتْ﴾ بِمَعْنى صارَتْ، أوْ كانَتْ في عِلْمِ اللَّهِ، أوْ باقِيَةٌ عَلى ظاهِرِها مِن تَقْيِيدِ غُبُورِها بِالزَّمانِ الماضِي، أقْوالٌ. ﴿وأمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَرًا﴾ ضَمَّنَ (أمْطَرْنا) مَعْنى أرْسَلْنا فَلِذَلِكَ عَدّاهُ بِعَلى كَقَوْلِهِ: فَأمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، والمَطَرُ هُنا هي حِجارَةٌ، وقَدْ ذُكِرَتْ في غَيْرِ آيَةٍ خَسَفَ بِهِمْ وأمْطَرَتْ عَلَيْهِمُ الحِجارَةَ، وقِيلَ: كانَتِ المُؤْتَفِكَةُ خَمْسَ مَدائِنَ، وقِيلَ: سِتٌّ، وقِيلَ: أرْبَعٌ، اقْتَلَعَها جِبْرِيلُ بِجَناحِهِ فَرَفَعَها حَتّى سَمِعَ أهْلُ السَّماءِ نَهِيقَ الحَمِيرِ وصِياحَ الدِّيَكَةِ، ثُمَّ عَكَسَها فَرَدَّ أعْلاها أسْفَلَها وأرْسَلَها إلى الأرْضِ، وتَبِعَتْهُمُ الحِجارَةُ مَعَ هَذا فَأهْلَكَتْ مَن كانَ مِنهم في سَفَرٍ، أوْ خارِجًا عَنِ البِقاعِ، وقالَتِ امْرَأةُ لُوطٍ حِينَ سَمِعَتِ الرَّجَّةَ واقَوْماهُ والتَفَتَتْ فَأصابَتْها صَخْرَةٌ فَقَتَلَتْها، والظّاهِرُ أنَّ الإمْطارَ شَمِلَهم كُلَّهم، وقِيلَ: خُسِفَ بِأهْلِ المُدُنِ وأمْطَرَتِ الحِجارَةُ عَلى المُسافِرِينَ مِنهم، وسُئِلَ مُجاهِدٌ هَلْ سَلِمَ مِنهم أحَدٌ قالَ: لا، إلّا رَجُلًا كانَ بِمَكَّةَ تاجِرًا وقَفَ الحَجَرُ لَهُ أرْبَعِينَ يَوْمًا حَتّى قَضى تِجارَتَهُ، وخَرَجَ مِنَ الحَرَمِ فَأصابَهُ فَماتَ، وكانَ عَدَدُهم مِائَةَ ألْفٍ. ﴿فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُجْرِمِينَ﴾ خِطابٌ لِلرَّسُولِ، أوْ لِلسّامِعِ قِصَّتَهم كَيْفَ كانَ مَآلُ مَن أجْرَمَ، وفِيهِ إيقاظٌ وازْدِجارٌ أنْ تَسْلُكَ هَذِهِ الأُمَّةُ هَذا المَسْلَكَ (p-٣٣٦)و﴿المُجْرِمِينَ﴾ عامٌّ في قَوْمِ نُوحٍ وهُودٍ وصالِحٍ ولُوطٍ، وغَيْرِهِمْ وهو مِن نَظَرِ التَّفَكُّرِ، أوْ مِن نَظَرِ البَصَرِ فِيمَن بَقِيَتْ لَهُ آثارُ مَنازِلَ ومَساكِنَ كَثَمُودَ وقَوْمِ لُوطٍ، كَما قالَ تَعالى ﴿وعادًا وثَمُودَ وقَدْ تَبَيَّنَ لَكم مِن مَساكِنِهِمْ﴾ [العنكبوت: ٣٨] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب