الباحث القرآني

﴿قالَ المَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إنّا لَنَراكَ في سَفاهَةٍ وإنّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذِبِينَ﴾ أتى بِوَصْفِ ﴿المَلَأُ﴾ بِالَّذِينَ كَفَرُوا ولَمْ يَأْتِ بِهَذا الوَصْفِ في قَوْمِ نُوحٍ؛ لِأنَّ قَوْمَ هُودٍ كانَ في أشْرافِهِمْ مَن آمَنَ بِهِ، مِنهم مَرْثَدُ (p-٣٢٤)بْنُ سَعْدِ بْنِ عُفَيْرٍ. ولَمْ يَكُنْ في أشْرافِ قَوْمِ نُوحٍ مُؤْمِنٌ ألا تَرى إلى قَوْلِهِمْ ﴿وما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلّا الَّذِينَ هم أراذِلُنا﴾ [هود: ٢٧] وقَوْلِهِمْ ﴿أنُؤْمِنُ لَكَ واتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ﴾ [الشعراء: ١١١]، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ وصْفًا جاءَ لِلذَّمِّ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الفَرْقُ ولِنَراكَ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن رُؤْيَةِ العَيْنِ ومِن رُؤْيَةِ القَلْبِ كَما تَقَدَّمَ القَوْلُ في قِصَّةِ نُوحٍ و﴿فِي سَفاهَةٍ﴾، أيْ: في خِفَّةِ حِلْمٍ وسَخافَةِ عَقْلٍ حَيْثُ تَتْرُكُ دِينَ قَوْمِكَ إلى دِينٍ غَيْرِهِ وفي سَفاهَةٍ يَقْتَضِي أنَّهُ فِيها قَدِ احْتَوَتْ عَلَيْهِ كالظَّرْفِ المُحْتَوِي عَلى الشَّيْءِ، ولَمّا كانَ كَلامُ نُوحٍ لِقَوْمِهِ أشَدَّ مِن كَلامِ هُودٍ تَقْوِيَةً لِقَوْلِهِ: ﴿إنِّي أخافُ عَلَيْكم عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: ٥٩] كانَ جَوابُهم أغْلَظَ وهو ﴿إنّا لَنَراكَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [الأعراف: ٦٠] وكانَ كَلامُ هُودٍ ألْطَفَ لِقَوْلِهِ: ﴿أفَلا تَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: ٦٥] فَكانَ جَوابُهم لَهُ ألْطَفَ مِن جَوابِ قَوْمِ نُوحٍ لِنُوحٍ بِقَوْلِهِمْ ﴿إنّا لَنَراكَ في سَفاهَةٍ﴾، ثُمَّ أتْبَعُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ ﴿وإنّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذِبِينَ﴾ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ أخْبَرَهم بِما يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ العَذابِ إنْ لَمْ يَتَّقُوا اللَّهَ، أوْ عَلَّقُوا الظَّنَّ بِقَوْلِهِ: ﴿ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: ٧٣]، أيْ: إنَّ لَنا آلِهَةً فَحَصْرُها في واحِدٍ كَذِبٌ. وقِيلَ: الظَّنُّ هُنا بِمَعْنى اليَقِينِ، أوْ بِمَعْنى تَرْجِيحِ أحَدِ الجائِزَيْنِ قَوْلانِ لِلْمُفَسِّرِينَ والثّانِي لِلْحَسَنِ، والزَّجّاجِ، وقالَ الكِرْمانِيُّ: خَوَّفَ نُوحٌ الكُفّارَ بِالطُّوفانِ العامِّ واشْتَغَلَ بِعَمَلِ السَّفِينَةِ فَقالُوا ﴿إنّا لَنَراكَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [الأعراف: ٦٠] حَيْثُ تُتْعِبُ نَفْسَكَ في إصْلاحِ سَفِينَةٍ كَبِيرَةٍ في مَفازَةٍ لَيْسَ فِيها ماءٌ ولَمْ يَظْهَرْ ما يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ، وهو رَدِيفُ عِبادَةِ الأوْثانِ، ونَسَبُ قَوْمِهِ في السَّفاهَةِ فَقابَلُوهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ. ﴿قالَ ياقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ ولَكِنِّي رَسُولٌ مِن رَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿أُبَلِّغُكم رِسالاتِ رَبِّي وأنا لَكم ناصِحٌ أمِينٌ﴾ تَقَدَّمَتْ كَيْفِيَّةُ هَذا النَّفْيِ في قَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ﴾ [الأعراف: ٦١] وهُناكَ جاءَ ﴿وأنْصَحُ لَكُمْ﴾ [الأعراف: ٦٢] وهُنا جاءَ ﴿وأنا لَكم ناصِحٌ أمِينٌ﴾ لَمّا كانَ آخِرُ جَوابِهِمْ جُمْلَةً اسْمِيَّةً جاءَ قَوْلُهُ كَذَلِكَ فَقالُوا هم ﴿وإنّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذِبِينَ﴾ قالَ هو ﴿وأنا لَكم ناصِحٌ أمِينٌ﴾ وجاءَ بِوَصْفِ الأمانَةِ وهي الوَصْفُ العَظِيمُ الَّذِي حَمَلَهُ الإنْسانُ ولا أمانَةَ أعْظَمُ مِن أمانَةِ الرِّسالَةِ وإيصالِ أعْبائِها إلى المُكَلَّفِينَ، والمَعْنى: أنِّي عُرِفْتُ فِيكم بِالنُّصْحِ فَلا يَحِقُّ لَكم أنْ تَتَّهِمُونِي. وبِالأمانَةِ فِيما أقُولُ فَلا يَنْبَغِي أنْ أُكَذَّبَ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَوْلُهُ: ﴿أمِينٌ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ عَلى الوَحْيِ والذِّكْرِ النّازِلِ مِن قِبَلِ اللَّهِ، ويُحْتَمَلُ أنَّهُ أمِينٌ عَلَيْهِمْ وعَلى غَيْبِهِمْ وعَلى إرادَةِ الخَيْرِ بِهِمْ، والعَرَبُ تَقُولُ: فُلانٌ لِفُلانٍ ناصِحُ الجَيْبِ أمِينُ الغَيْبِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ مِنَ الأمْنِ، أيْ: جِهَتِي ذاتُ أمْنٍ لَكم مِنَ الكَذِبِ والغِشِّ، قالَ القُشَيْرِيُّ: شَتّانَ ما بَيْنَ مَن دَفَعَ عَنْهُ رَبُّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ما ضَلَّ صاحِبُكم وما غَوى﴾ [النجم: ٢] ﴿وما صاحِبُكم بِمَجْنُونٍ﴾ [التكوير: ٢٢] ومَن دَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ﴾ [الأعراف: ٦١] ﴿لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ﴾، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وفي إجابَةِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ مَن نَسَبَهم إلى الضَّلالَةِ والسَّفاهَةِ بِما أجابُوهم مِنَ الكَلامِ الصّادِرِ عَنِ الحِلْمِ والإغْضاءِ وتَرْكِ المُقابَلَةِ بِما قالُوا لَهم مَعَ عِلْمِهِمْ بِأنَّ خُصُومَهم أصْلُ السَّفّاهِينَ، وأسْفَلُهم أدَبٌ حَسَنٌ وخُلُقٌ عَظِيمٌ وحِكايَةُ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ عَنْهم ذَلِكَ تَعْلِيمٌ لِعِبادِهِ كَيْفَ يُخاطِبُونَ السُّفَهاءَ وكَيْفَ يَغُضُّونَ عَنْهم ويُسْبِلُونَ أذْيالَهم عَلى ما يَكُونُ مِنهم. ﴿أوَعَجِبْتُمْ أنْ جاءَكم ذِكْرٌ مِن رَبِّكم عَلى رَجُلٍ مِنكم لِيُنْذِرَكُمْ﴾ [الأعراف: ٦٣] أتى هُنا بِعِلَّةٍ واحِدَةٍ وهي الإنْذارُ وهو التَّخْوِيفُ بِالعَذابِ واخْتَصَرَ ما يَتَرَتَّبُ عَلى الإنْذارِ مِنَ التَّقْوى ورَجاءِ الرَّحْمَةِ. ﴿واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكم خُلَفاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾، أيْ: سُكّانَ الأرْضِ بَعْدَهم. قالَهُ السُّدِّيُّ، وابْنُ إسْحاقَ، أوْ جَعَلَكم مُلُوكًا في الأرْضِ اسْتَخْلَفَكم فِيها. قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وتَذْكِيرُ هُودٍ بِذَلِكَ يَدُلُّ عَلى قُرْبِ زَمانِهِمْ مِن زَمانِ نُوحٍ لِقَوْلِهِ: ﴿مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾ و”إذْ“ ظَرْفٌ في قَوْلِ الحَوْفِيِّ فَيَكُونُ مَفْعُولُ (اذْكُرُوا) مَحْذُوفًا، أيْ: واذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ عَلَيْكم وقْتَ كَذا، والعامِلُ في (إذْ) ما تَضَمَّنَهُ النِّعَمُ مِنَ الفِعْلِ وفي قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ (إذْ) مَفْعُولٌ بِهِ وهو مَنصُوبٌ بِاذْكُرُوا، أيِ: اذْكُرُوا وقْتَ جَعْلِكم. ﴿وزادَكم في الخَلْقِ بَسْطَةً﴾ ظاهِرُ التَّوارِيخِ أنَّ البَسْطَةَ الِامْتِدادُ والطُّولُ والجَمالُ في الصُّوَرِ (p-٣٢٥)والأشْكالِ، فَيُحْتَمَلُ إذْ ذاكَ أنْ يَكُونَ الخَلْقُ بِمَعْنى المَخْلُوقِينَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، أيْ: وزادَكم في خَلْقِكم بَسْطَةً، أيْ: مَدَّ وطَوَّلَ وحَسَّنَ خَلْقَكم قِيلَ: كانَ أقْصَرُهم سِتِّينَ ذِراعًا وأطْوَلُهم مِائَةَ ذِراعٍ. قالَهُ الكَلْبِيُّ، والسُّدِّيُّ، وقالَ أبُو حَمْزَةَ اليَمانِيُّ: سَبْعُونَ ذِراعًا. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ثَمانُونَ ذِراعًا. وقالَ مُقاتِلٌ: اثْنا عَشَرَ ذِراعًا. وقالَ وهْبٌ: كانَ رَأْسُ أحَدِهِمْ مِثْلَ القُبَّةِ العَظِيمَةِ وعَيْنُهُ تُفْرِخُ فِيها الضِّباعُ وكَذَلِكَ مِنخَرُهُ. وإذا كانَ الخَلْقُ بِمَعْنى المَخْلُوقِينَ فالخَلْقُ قَوْمُ نُوحٍ، أوْ أهْلُ زَمانِهِمْ، أوِ النّاسُ كُلُّهم أقْوالٌ، وقِيلَ: الزِّيادَةُ في الإجْرامِ، وهي ما تَصِلُ إلَيْهِ يَدُ الإنْسانِ إذا رَفَعَها، وقِيلَ: الزِّيادَةُ هي في القُوَّةِ والجَلادَةِ لا في الإجْرامِ. وقِيلَ: زِيادَةُ البَسْطَةِ كَوْنُهم مِن قَبِيلَةٍ واحِدَةٍ مُشارِكِينَ في القُوَّةِ مُتَناصِرِينَ يُحِبُّ بَعْضُهم بَعْضًا، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى (وزادَكم بَسْطَةً)، أيِ: اقْتِدارًا في المَخْلُوقِينَ واسْتِيلاءً. ﴿فاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ ذَكَّرَهم أوَّلًا بِإنْعامِهِ عَلَيْهِمْ حَيْثُ جَعَلَهم خُلَفاءَ وزادَهم بَسْطَةً، وذَكَّرَهم ثانِيًا بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ مُطْلَقًا لا بِتَقْيِيدِ زَمانِ الجَعْلِ، و(اذْكُرُوا) الظّاهِرُ أنَّهُ مِنَ الذِّكْرِ وهو أنْ لا يَتَناسَوْا نِعَمَهُ، بَلْ تَكُونُ نِعَمُهُ عَلى ذِكْرٍ مِنكم رَجاءَ أنْ تَفْلَحُوا، وتَعْلِيقُ رَجاءِ الفَلاحِ عَلى مُجَرَّدِ الذِّكْرِ لا يَظْهَرُ فَيَحْتاجُ إلى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ رَجاءُ الفَلاحِ، وتَقْدِيرُهُ واللَّهُ أعْلَمُ فاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وإفْرادَهُ بِالعِبادَةِ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: ﴿أجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وحْدَهُ﴾ وفي ذِكْرِهِمْ ﴿آلاءَ اللَّهِ﴾ ذِكْرُ المُنْعِمِ عَلَيْهِمُ المُسْتَحِقِّ لِإفْرادِهِ بِالعِبادَةِ ونَبْذِهِ ما سِواهُ، وقِيلَ: اذْكُرُوا هُنا بِمَعْنى اشْكُرُوا. ﴿قالُوا أجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وحْدَهُ ونَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ الظّاهِرُ أنَّهم أنْكَرُوا أنْ يَتْرُكُوا أصْنامَهم ويُفْرِدُوا اللَّهَ بِالعِبادَةِ مَعَ اعْتِرافِهِمْ بِاللَّهِ حُبًّا لِما نَشَئُوا عَلَيْهِ وتَآلُفًا لِما وجَدُوا آباءَهم عَلَيْهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونُوا مُنْكِرِينَ لِلَّهِ ويَكُونَ قَوْلُهم ﴿لِنَعْبُدَ اللَّهَ وحْدَهُ﴾، أيْ: عَلى قَوْلِكَ يا هُودُ ودَعْواكَ. قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وقالَ: التَّأْوِيلُ الأوَّلُ أظْهَرُ فِيهِمْ وفي عُبّادِ الأوْثانِ ولا يَجْحَدُ رُبُوبِيَّةَ اللَّهِ مِنَ الكَفَرَةِ إلّا مَنِ ادَّعاها لِنَفْسِهِ كَفِرْعَوْنَ ونُمْرُودَ. انْتَهى. وكانَ في قَوْلِ هُودٍ لِقَوْمِهِ ﴿فاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ﴾ دَلِيلٌ قاطِعٌ عَلى أنَّهُ لا يُعْبَدُ إلّا المُنْعِمُ، وأصْنامُهم جَماداتٌ لا قُدْرَةَ لَها عَلى شَيْءٍ ألْبَتَّةَ، والعِبادَةُ هي نِهايَةُ التَّعْظِيمِ فَلا يَلِيقُ إلّا بِمَن يَصْدُرُ عَنْهُ نِهايَةُ الإنْعامِ ولَمّا نَبَّهَ عَلى هَذِهِ الحُجَّةِ ولَمْ يَكُنْ لَهم أنْ يُجِيبُوا عَنْها عَدَلُوا إلى التَّقْلِيدِ البَحْتِ فَقالُوا ﴿أجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وحْدَهُ﴾ والمَجِيءُ هُنا يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ حَقِيقَةً بِكَوْنِهِ مُتَغَيِّبًا عَنْ قَوْمِهِ مُنْفَرِدًا بِعِبادَةِ رَبِّهِ، ثُمَّ أرْسَلَهُ اللَّهُ إلَيْهِمْ فَجاءَهم مِن مَكانِ مُتَغَيَّبِهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهم ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِهْزاءِ؛ لِأنَّهم كانُوا يَعْتَقِدُونَ أنَّ اللَّهَ لا يُرْسِلُ إلّا المَلائِكَةَ فَكَأنَّهم قالُوا: أجِئْتَنا مِنَ السَّماءِ كَما يَجِيءُ المَلَكُ ولا يُرِيدُونَ حَقِيقَةَ المَجِيءِ ولَكِنِ التَّعَرُّضَ والقَصْدَ كَما يُقالُ: ذَهَبَ يَشْتُمُنِي لا يُرِيدُونَ حَقِيقَةَ الذَّهابِ كَأنَّهم قالُوا: أقَصَدْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وحْدَهُ وتَعَرَّضْتَ لَنا بِتَكالِيفِ ذَلِكَ، وفي قَوْلِهِمْ ﴿فَأْتِنا بِما تَعِدُنا﴾ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ كانَ يَعِدُهم بِعَذابِ اللَّهِ إنْ دامُوا عَلى الكُفْرِ، وقَوْلُهم ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى تَصْمِيمِهِمْ عَلى تَكْذِيبِهِ واحْتِقارِهِمْ لِأمْرِ النُّبُوَّةِ واسْتِعْجالِ العُقُوبَةِ إذْ هي عِنْدَهم لا تَقَعُ أصْلًا، وقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: ﴿إنّا لَنَراكَ في سَفاهَةٍ﴾ و﴿وإنّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذِبِينَ﴾ فَلَمّا كانُوا يَعْتَقِدُونَ كَوْنَهُ كاذِبًا قالُوا ﴿فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾، أيْ: في نُبُوَّتِكَ وإرْسالِكَ، أوْ في أنَّ العَذابَ نازِلٌ بِنا. ﴿قالَ قَدْ وقَعَ عَلَيْكم مِن رَبِّكم رِجْسٌ وغَضَبٌ﴾، أيْ: حَلَّ بِكم وتَحَتَّمَ عَلَيْكم قالَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ والأكْثَرُونَ: الرِّجْسُ هُنا العَذابُ مِنَ الِارْتِجاسِ وهو الِاضْطِرابُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: السُّخْطُ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: لا يَكُونُ العَذابُ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ حاصِلًا في ذَلِكَ الوَقْتِ، وقالَ القَفّالُ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الِازْدِيادُ في الكُفْرِ بِالرَّيْنِ عَلى القُلُوبِ، أيْ: لِتَمادِيهِمْ عَلى الكُفْرِ وقَعَ عَلَيْكم (p-٣٢٦)مِنَ اللَّهِ رَيْنٌ عَلى قُلُوبِكم كَقَوْلِهِ: ﴿فَزادَتْهم رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة: ١٢٥] فَإنَّ الرِّجْسَ السُّخْطُ، أوِ الرَّيْنُ فَقَوْلُهُ: ﴿قَدْ وقَعَ﴾ عَلى حَقِيقَتِهِ مِنَ المُضِيِّ وإنْ كانَ العَذابُ فَيَكُونُ مِن جَعْلِ الماضِي مَوْضِعَ المُسْتَقْبَلِ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ. ﴿أتُجادِلُونَنِي في أسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أنْتُمْ وآباؤُكُمْ﴾ هَذا إنْكارٌ مِنهُ لِمُخاصَمَتِهِمْ لَهُ فِيما لا يَنْبَغِي فِيهِ الخِصامُ وهو ذِكْرُ ألْفاظٍ لَيْسَ تَحْتَها مَدْلُولٌ يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ فَصارَتِ المُنازَعَةُ باطِلَةً بِذَلِكَ ومَعْنى ﴿سَمَّيْتُمُوها﴾ سَمَّيْتُمْ بِها أنْتُمْ وآباؤُكم، أيْ: أحْدَثْتُمُوها قَرِيبًا أنْتُمْ وآباؤُكم وهي صَمُودُ وصُداءُ والهَباءُ، وقَدْ ذَكَرَها مَرْثَدُ بْنُ سَعْدٍ في شِعْرِهِ فَقالَ: ؎عَصَتْ عادٌ رَسُولَهُمُ فَأضْحَوْا عِطاشًا ما تَبُلُّهُمُ السَّماءُ ؎لَهم صَنَمٌ يُقالُ لَهُ صَمُودٌ ∗∗∗ يُقابِلُهُ صُداءٌ والهَباءُ ؎فَبَصَّرَنا الرَّسُولُ سَبِيلَ رُشْدٍ ∗∗∗ فَأبْصَرَنا الهُدى وجَلا العَماءُ ؎وإنَّ إلَهَ هُودٍ هُو إلَهِي ∗∗∗ عَلى اللَّهِ التَّوَكُّلُ والرَّجاءُ فالجِدالُ إذْ ذاكَ يَكُونُ في الألْفاظِ لا مَدْلُولاتِها، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الجِدالُ وقَعَ في المُسَمَّياتِ وهي الأصْنامُ، فَيَكُونُ أطْلَقَ الأسْماءَ وأرادَ بِها المُسَمَّياتِ وكانَ ذَلِكَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: ﴿أتُجادِلُونَنِي﴾ في ذَواتِ أسْماءٍ ويَكُونُ المَعْنى ﴿سَمَّيْتُمُوها﴾ آلِهَةً وعَبَدْتُمُوها مِن دُونِ اللَّهِ، قِيلَ: سَمَّوْا كُلَّ صَنَمٍ بِاسْمٍ عَلى ما اشْتَهَوْا، وزَعَمُوا أنَّ بَعْضَهم يَسْقِيهِمُ المَطَرَ وبَعْضَهم يَشْفِيهِمْ مِنَ المَرَضِ وبَعْضَهم يَصْحَبُهم في السَّفَرِ وبَعْضَهم يَأْتِيهِمْ بِالرِّزْقِ. ﴿ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِن سُلْطانٍ﴾ والجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ما نَزَّلَ﴾ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ، والمَعْنى: أنَّهُ لَيْسَ لَكم بِذَلِكَ حُجَّةٌ ولا بُرْهانٌ وجاءَ هُنا ﴿نَزَّلَ﴾ وفي مَكانٍ غَيْرِهِ أنْزَلَ وكِلاهُما فَصِيحٌ والتَّعْدِيَةُ بِالتَّضْعِيفِ والهَمْزَةِ سَواءٌ. ﴿فانْتَظِرُوا إنِّي مَعَكم مِنَ المُنْتَظِرِينَ﴾، وهَذا غايَةٌ في التَّهْدِيدِ والوَعِيدِ، أيْ: فانْتَظِرُوا عاقِبَةَ أمْرِكم في عِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وفي تَكْذِيبِ رَسُولِهِ، وهَذا غايَةٌ في الوُثُوقِ بِما يَحِلُّ بِهِمْ وإنَّهُ كائِنٌ لا مَحالَةَ. ﴿فَأنْجَيْناهُ والَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّا﴾ يَعْنِي مَن آمَنَ مَعَهُ ﴿بِرَحْمَةٍ﴾ سابِقَةٍ لَهم مِنَ اللَّهِ وفَضْلٍ عَلَيْهِمْ حَيْثُ جَعَلَهم آمَنُوا فَكانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِنَجاتِهِمْ مِمّا أصابَ قَوْمَهم مِنَ العَذابِ. ﴿وقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ كِنايَةٌ عَنِ اسْتِئْصالِهِمْ بِالهَلاكِ بِالعَذابِ وتَقَدَّمَ الكَلامُ في دابِرِ في قَوْلِهِ: ﴿فَقُطِعَ دابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ [الأنعام: ٤٥] وفي قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا﴾ تَنْبِيهٌ عَلى عِلَّةِ قَطْعِ دابِرِهِمْ وفي قَوْلِهِ: ﴿بِآياتِنا﴾ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ كانَتْ لِهُودٍ مُعْجِزاتٌ ولَكِنْ لَمْ تُذْكَرْ لَنا بِتَعْيِينِها. ﴿وما كانُوا مُؤْمِنِينَ﴾ جُمْلَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِقَوْلِهِ: ﴿كَذَّبُوا بِآياتِنا﴾، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ إخْبارًا مِنَ اللَّهِ تَعالى أنَّهم مِمَّنْ عَلِمَ اللَّهُ تَعالى أنَّهم لَوْ بَقُوا لَمْ يُؤْمِنُوا، أيْ: ما كانُوا مِمَّنْ يَقْبَلُ إيمانًا ألْبَتَّةَ ولَوْ عَلِمَ اللَّهُ تَعالى أنَّهم يُؤْمِنُونَ لَأبْقاهم وذَلِكَ أنَّ المُكَذِّبَ بِالآياتِ قَدْ يُؤْمِنُ بِها بَعْدَ ذَلِكَ ويَحْسُنُ حالُهُ، فَأمّا مَن خَتَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالكُفْرِ فَلا يُؤْمِنُ أبَدًا، وفي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِمَن آمَنَ مِنهم كَمَرْثَدِ بْنِ سَعْدٍ ومَن نَجا مَعَ هُودٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كَأنَّهُ قالَ: وقَطَعْنا دابِرَ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا مِنهم، ولَمْ يَكُونُوا مِثْلَ مَن آمَنُ مِنهم لِيُؤْذِنَ أنَّ الهَلاكَ خَصَّ المُكَذِّبِينَ ونَجّى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ. قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وذَكَرَ المُفَسِّرُونَ هُنا قِصَّةَ هَلاكِ عادٍ وذَكَرُوا فِيها أشْياءَ لا تَعَلُّقَ لَها بِلَفْظِ القُرْآنِ ولا صَحَّتْ عَنِ (p-٣٢٧)الرَّسُولِ، فَضَرَبْتُ عَنْ ذِكْرِها صَفْحًا، وأمّا ما لَهُ تَعَلُّقٌ بِلَفْظِ القُرْآنِ فَيَأْتِي في مَواضِعِهِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب