الباحث القرآني

﴿ولا تُفْسِدُوا في الأرْضِ بَعْدَ إصْلاحِها﴾ . هَذا نَهْيٌ عَنْ إيقاعِ الفَسادِ في الأرْضِ وإدْخالِ ماهِيَّتِهِ في الوُجُودِ فَيَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ أنْواعِهِ مِن (p-٣١٢)إيقاعِ الفَسادِ في الأرْضِ وإدْخالِ ماهِيَّتِهِ في الوُجُودِ فَيَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ أنْواعِهِ مِن إفْسادِ النُّفُوسِ والأنْسابِ والأمْوالِ والعُقُولِ والأدْيانِ ومَعْنى (بَعْدَ إصْلاحِها) بَعْدَ أنْ أصْلَحَ اللَّهُ خَلْقَها عَلى الوَجْهِ المُلائِمِ لِمَنافِعِ الخَلْقِ ومَصالِحِ المُكَلَّفِينَ، وما رُوِيَ عَنِ المُفَسِّرِينَ مِن تَعْيِينِ نَوْعِ الإفْسادِ والإصْلاحِ يَنْبَغِي أنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلى التَّمْثِيلِ إذِ ادِّعاءُ تَخْصِيصِ شَيْءٍ مِن ذَلِكَ لا دَلِيلَ عَلَيْهِ كالظُّلْمِ بَعْدَ العَدْلِ، أوِ الكُفْرِ بَعْدَ الإيمانِ، أوِ المَعْصِيَةِ بَعْدَ الطّاعَةِ، أوْ بِالمَعْصِيَةِ فَيُمْسِكُ اللَّهُ المَطَرَ ويُهْلِكُ الحَرْثَ بَعْدَ إصْلاحِها بِالمَطَرِ والخِصْبِ، أوْ يَقْتُلُ المُؤْمِنَ بَعْدَ بَقائِهِ، أوْ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ بَعْدَ الوَحْيِ، أوْ بِتَغْوِيرِ الماءِ المَعِينِ وقَطْعِ الشَّجَرِ والثَّمَرِ ضِرارًا، أوْ بِقَطْعِ الدَّنانِيرِ والدَّراهِمِ، أوْ بِتِجارَةِ الحُكّامِ، أوْ بِالإشْراكِ بِاللَّهِ بَعْدَ بِعْثَةِ الرُّسُلِ وتَقْرِيرِ الشَّرائِعِ وإيضاحِ المِلَّةِ. ﴿وادْعُوهُ خَوْفًا وطَمَعًا﴾ لَمّا كانَ الدُّعاءُ مِنَ اللَّهِ بِمَكانٍ كَرَّرَهُ فَقالَ أوَلًا ﴿ادْعُوا رَبَّكم تَضَرُّعًا وخُفْيَةً﴾ [الأعراف: ٥٥] وهاتانِ الحالَتانِ مِنَ الأوْصافِ الظّاهِرَةِ؛ لِأنَّ الخُشُوعَ والِاسْتِكانَةَ وإخْفاءَ الصَّوْتِ لَيْسَتْ مِنَ الأفْعالِ القَلْبِيَّةِ، أيْ: وجِلِينَ مُشْفِقِينَ وراجِينَ مُؤَمِّلِينَ فَبَدَأ أوَّلًا بِأفْعالِ الجَوارِحِ، ثُمَّ ثانِيًا بِأفْعالِ القُلُوبِ، وانْتَصَبَ خَوْفًا وطَمَعًا عَلى أنَّهُما مَصْدَرانِ في مَوْضِعِ الحالِ، أوِ انْتِصابُ المَفْعُولِ لَهُ وعَطْفُ أحَدِهِما عَلى الآخَرِ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ الخَوْفُ والرَّجاءُ مُتَساوِيَيْنِ لِيَكُونا لِلْإنْسانِ كالجَناحَيْنِ لِلطّائِرِ يَحْمِلانِهِ في طَرِيقِ اسْتِقامَةٍ فَإنِ انْفَرَدَ أحَدُهُما هَلَكَ الإنْسانُ، وقَدْ قالَ كَثِيرٌ مِنَ العُلَماءِ: يَنْبَغِي أنْ يَغْلِبَ الخَوْفُ الرَّجاءَ عَلى طُولِ الحَياةِ فَإذا جاءَ المَوْتُ غَلَبَ الرَّجاءُ ورَأى كَثِيرٌ مِنَ العُلَماءِ أنْ يَكُونَ الخَوْفُ أغْلَبَ ومِنهُ تَمَنِّي الحَسَنِ البَصْرِيِّ أنْ يَكُونَ الرَّجُلُ الَّذِي هو آخِرُ مَن يَدْخَلُ الجَنَّةَ وتَمَنّى سالِمٌ مَوْلى أبِي حُذَيْفَةَ أنْ يَكُونَ مِن أصْحابِ الأعْرافِ؛ لِأنَّ مَذْهَبَهُ أنَّهم مُذْنِبُونَ، وسالِمٌ هَذا مِن رُتْبَةِ الدِّينِ والفَضْلِ بِحَيْثُ قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ كَلامًا مَعْناهُ: لَوْ كانَ سالِمٌ مَوْلى أبِي حُذَيْفَةَ حَيًّا لَوَلَّيْتُهُ الخِلافَةَ. وأبْعَدَ مَن ذَهَبَ إلى أنَّ المَعْنى خَوْفًا مِنَ الرَّدِّ وطَمَعًا في الإجابَةِ. ﴿إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَقَوْلِهِ: ﴿وإنِّي لَغَفّارٌ لِمَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحًا﴾ [طه: ٨٢]، انْتَهى. يَعْنِي أنَّ الرَّحْمَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالمُحْسِنِ وهو مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحًا وهَذا كُلُّهُ حَمْلُ القُرْآنِ وإنَّما عَلى مَذْهَبِهِ مِنَ الِاعْتِزالِ، والرَّحْمَةُ مُؤَنَّثَةٌ فَقِياسُها أنْ يُخْبِرَ عَنْها إخْبارَ (p-٣١٣)المُؤَنَّثِ فَيُقالُ قَرِيبَةٌ، فَقِيلَ: ذُكِرَ عَلى المَعْنى لِأنَّ الرَّحْمَةَ بِمَعْنى الرَّحِمِ والتَّرَحُّمِ، وقِيلَ: ذُكِرَ لِأنَّ الرَّحْمَةَ بِمَعْنى الغُفْرانِ والعَفْوِ. قالَهُ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ واخْتارَهُ الزَّجّاجُ، وقِيلَ بِمَعْنى المَطَرِ قالَهُ الأخْفَشُ أوِ الثَّوابِ قالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ، فالرَّحْمَةُ في هَذِهِ الأقْوالِ بَدَلٌ عَنْ مُذَكَّرٍ. وقِيلَ: التَّذْكِيرُ عَلى طَرِيقِ النَّسَبِ، أيْ ذاتُ قُرْبٍ، وقِيلَ: قَرِيبٌ نَعْتٌ لِمُذَكَّرٍ مَحْذُوفٍ أيْ شَيْءٌ قَرِيبٌ، وقِيلَ: قَرِيبٌ مُشَبَّهٌ بِفَعِيلٍ الَّذِي هو بِمَعْنى مَفْعُولٍ، نَحْوُ خَصِيبٍ وجَرِيحٍ كَما شُبِّهَ فَعِيلٌ بِهِ فَقِيلَ شَيْئًا مِن أحْكامِهِ فَقِيلَ: في جَمْعِهِ فُعَلاءُ كَأسِيرٍ وأُسَراءٍ وقَتِيلٍ وقُتَلاءٍ كَما قالُوا: رَحِيمٌ ورُحَماءٌ وعَلِيمٌ وعُلَماءٌ، وقِيلَ: هو مَصْدَرٌ جاءَ عَلى فَعِيلٍ كالضَّغِيثِ وهو صَوْتُ الأرْنَبِ والنَّقِيقِ، وإذا كانَ مَصْدَرًا صَحَّ أنْ يُخْبَرَ بِهِ عَنِ المُذَكَّرِ والمُؤَنَّثِ والمُفْرَدِ والمُثَنّى والمَجْمُوعِ بِلَفْظِ المَصْدَرِ، وقِيلَ لِأنَّ تَأْنِيثَ الرَّحْمَةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ قالَهُالجَوْهَرِيُّ، وهَذا لَيْسَ بِجَيِّدٍ إلّا مَعَ تَقْدِيمِ الفِعْلِ أمّا إذا تَأخَّرَ فَلا يَجُوزُ إلّا التَّأْنِيثُ تَقُولُ: الشَّمْسُ طالِعَةٌ ولا يَجُوزُ طالِعٌ إلّا في ضَرُورَةِ الشِّعْرِ بِخِلافِ التَّقْدِيمِ، فَيَجُوزُ أطالِعَةٌ الشَّمْسُ وأطالِعٌ الشَّمْسُ، كَما يَجُوزُ طَلَعَتِ الشَّمْسُ وطَلَعَ الشَّمْسُ، ولا يَجُوزُ طَلَعَ إلّا في الشِّعْرِ، وقِيلَ: فَعِيلٌ هُنا بِمَعْنى المَفْعُولِ أيْ مُقَرَّبَةٌ فَيَصِيرُ مِن بابِ كَفٍّ خَضِيبٍ وعَيْنٍ كَحِيلٍ قالَهُ الكِرْمانِيُّ، ولَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأنَّ ما ورَدَ مِن ذَلِكَ إنَّما هو مِنَ الثُّلاثِيِّ غَيْرِ المَزِيدِ وهَذا بِمَعْنى مُقَرَّبَةٍ فَهو مِنَ الثُّلاثِيِّ المَزِيدِ ومَعَ ذَلِكَ فَهو لا يَنْقاسُ، وقالَ الفَرّاءُ إذا اسْتُعْمِلَ في النَّسَبِ والقَرابَةِ فَهو مَعَ المُؤَنَّثِ بِتاءٍ، ولا بُدَّ تَقُولُ هَذِهِ قَرِيبَةُ فُلانٍ وإنِ اسْتُعْمِلَتْ في قُرْبِ المَسافَةِ أوِ الزَّمَنِ فَقَدْ تَجِيءُ مَعَ المُؤَنَّثِ بِتاءٍ وقَدْ تَجِيءُ بِغَيْرِ تاءٍ تَقُولُ: دارُكَ مِنِّي قَرِيبٌ، وفُلانَةٌ مِنّا قَرِيبٌ ومِنهُ هَذا، وقَوْلُ الشّاعِرِ: ؎عَشِيَّةَ لا عَفْراءُ مِنكَ قَرِيبَةٌ فَتَدْنُو ولا عَفْراءُ مِنكَ بَعِيدُ فَجَمَعَ في هَذا البَيْتِ بَيْنَ الوَجْهَيْنِ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذا قَوْلُ الفَرّاءِ في كِتابِهِ وقَدْ مَرَّ في كُتُبِ بَعْضِ المُفَسِّرِينَ مُغَيَّرًا انْتَهى. ورَدَّ الزَّجّاجُ وقالَ هَذا عَلى الفَرّاءِ هَذا خَطَأٌ لِأنَّ سَبِيلَ المُذَكَّرِ والمُؤَنَّثِ أنْ يَجْرِيا عَلى أفْعالِهِما وقالَ مَنِ احْتَجَّ لَهُ هَذا كَلامُ العَرَبِ، قالَ تَعالى: ﴿وما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا﴾ [الأحزاب: ٦٣] . وقالَ الشّاعِرُ: ؎لَهُ الوَيْلُ إنْ أمْسى ولا أُمُّ هاشِمٍ ∗∗∗ قَرِيبٌ ولا البَسْباسَةُ اِبْنَةُ يَشْكُرا وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ (قَرِيبٌ) في الآيَةِ لَيْسَ بِصِفَةٍ لِلرَّحْمَةِ وإنَّما هو ظَرْفٌ لَها ومَوْضِعٌ فَتَجِيءُ هَكَذا في المُؤَنَّثِ والِاثْنَيْنِ والجَمْعِ وكَذَلِكَ بِعِيدٌ فَإنْ جَعَلُوها صِفَةً بِمَعْنى مُقْتَرِبَةٍ قالُوا قَرِيبَةٌ وقَرِيبَتانِ وقَرِيباتُ. قالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمانَ وهَذا خَطَأٌ ولَوْ كانَ كَما قالَ لَكانَ قَرِيبٌ مَنصُوبًا كَما تَقُولُ إنَّ زَيْدًا قَرِيبًا مِنكَ انْتَهى ولَيْسَ بِخَطَأٍ لِأنَّهُ يَكُونُ قَدِ اتَّسَعَ في الظَّرْفِ فاسْتَعْمَلَهُ غَيْرَ ظَرْفٍ كَما تَقُولُ هِنْدٌ خَلْفَكَ وفاطِمَةٌ أمامُكَ بِالرَّفْعِ إذا اتَّسَعْتَ في الخَلْفِ والأمامِ وإنَّما يَلْزَمُ النَّصْبُ إذا بَقِيَتا عَلى الظَّرْفِيَّةِ ولَمْ يَتَّسِعْ فِيهِما، وقَدْ أجازُوا أنَّ قَرِيبًا مِنكَ زَيْدٌ عَلى أنْ يَكُونَ (قَرِيبًا) اسْمَ إنَّ و(زَيْدٌ) الخَبَرَ فاتُّسِعَ في قَرِيبٍ (p-٣١٤)واسْتُعْمِلَ اسْمًا لا مَنصُوبًا عَلى الظَّرْفِ، والظّاهِرُ عَدَمُ تَقْيِيدِ قُرْبِ الرَّحْمَةِ مِنَ المُحْسِنِ بِزَمانٍ بَلْ هي قَرِيبٌ مِنهُ مُطْلَقًا وذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أنَّهُ وقْتَ مُفارَقَةِ الأرْواحِ لِلْأجْسادِ تَنالُهُمُ الرَّحْمَةُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب