الباحث القرآني

﴿ويا آدَمُ اسْكُنْ أنْتَ وزَوْجُكَ الجَنَّةَ فَكُلا مِن حَيْثُ شِئْتُما ولا تَقْرَبا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظّالِمِينَ﴾ . أيْ: وقُلْنا يا آدَمُ. وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ في البَقَرَةِ. إلّا أنَّ هُنا فَكُلا مِن حَيْثُ شِئْتُما وفي البَقَرَةِ: ﴿وكُلا مِنها رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُما﴾ [البقرة: ٣٥]، قالُوا: وجاءَتْ عَلى أحَدِ مَحامِلِها وهو أنْ يَكُونَ الثّانِي بَعْدَ الأوَّلِ، وحُذِفَ رَغَدًا هُنا عَلى سَبِيلِ الِاخْتِصارِ، وأُثْبِتَ هُناكَ؛ لِأنَّ تِلْكَ مَدَنِيَّةٌ وهَذِهِ مَكِّيَّةٌ فَوُفِّيَ المَعْنى هُناكَ بِاللَّفْظِ. ﴿فَوَسْوَسَ لَهُما الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِن سَوْآتِهِما وقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلّا أنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أوْ تَكُونا مِنَ الخالِدِينَ﴾، أيْ: فَعَلَ الوَسْوَسَةَ لِأجْلِهِما، وأمّا قَوْلُهُ: (فَوَسْوَسَ) إلَيْهِ فَمَعْناهُ ألْقى الوَسْوَسَةَ إلَيْهِ، قالَ الحَسَنُ: وصَلَتْ وسْوَسَتُهُ لَهُما في الجَنَّةِ وهو في الأرْضِ بِالقُوَّةِ الَّتِي خَلَقَها اللَّهُ لَهُ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا قَوْلٌ ضَعِيفٌ يَرُدُّهُ لَفْظُ القُرْآنِ، وقِيلَ: كانَ في السَّماءِ وكانا يَخْرُجانِ إلَيْهِ، وقِيلَ: مِن بابِ الجَنَّةِ وهُما بِها، وقِيلَ: كانَ يَدْخُلُ إلَيْهِما في فَمِ الحَيَّةِ، وقالَ الكِرْمانِيُّ: ألْهَمَهُما، وقالَ ابْنُ القُشَيْرِيِّ: أوْرَدَ عَلَيْهِما الخَواطِرَ المُزَيَّنَةَ، وهَذانِ القَوْلانِ يُخالِفانِ ظاهِرَ القُرْآنِ؛ لِأنَّ ظاهِرَهُ يَدُلُّ عَلى قَوْلٍ ومُحاوَرَةٍ وقَسَمٍ، والظّاهِرُ أنَّ اللّامَ لامُ كَيْ، قَصَدَ إبْداءَ سَوْءاتِهِما وتَنْحَطُّ مَرْتَبَتُهُما بِذَلِكَ، ويَسُوءُهُما بِكَشْفِ ما يَنْبَغِي سَتْرُهُ ولا يَجْتَنِبانِ نَهْيَ اللَّهِ، فَيَكُونُ هو وهُما سَواءً في المُخالَفَةِ، هو أُمِرَ بِالسُّجُودِ فَأبى، وهُما نُهِيا فَلَمْ يَنْتَهِيا، وقالَ قَوْمٌ: إنَّها لامُ الصَّيْرُورَةِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلِمٌ بِهَذِهِ العُقُوبَةِ المَخْصُوصَةِ فَيَقْصُدُها، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ كَشْفَ العَوْرَةِ مِن عَظائِمِ الأُمُورِ، وأنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُسْتَهْجَنًا في الطِّباعِ مُسْتَقْبَحًا في العُقُولِ. انْتَهى. وهو عَلى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزالِيِّ في أنَّ العَقْلَ يُقَبِّحُ ويُحَسِّنُ، والظّاهِرُ أنَّهُ يُرادُ مَدْلُولُ سَوْءاتِهِما نَفْسِهِما وهُما الفَرْجُ والدُّبُرُ (p-٢٧٩)قِيلَ: وكانا لا يَرَيانِهِما قَبْلَ أكْلِ الشَّجَرَةِ فَلَمّا أكَلا بَدَتا لَهُما، وقِيلَ: لَمْ يَكُنْ كُلُّ واحِدٍ يَرى سَوْءَةَ صاحِبِهِ، وقالَ قَتادَةُ كَنّى بِسَوْءاتِهِما عَنْ جَمِيعِ بَدَنِهِما وذَكَرَ السَّوْءَةَ؛ لِأنَّها أقْبَحُ ما يَظْهَرُ مِن بَنِي آدَمَ، وقَرَأ الجُمْهُورُ (وُورِيَ)، وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: أُورِيَ بِإبْدالِ الواوِ هَمْزَةً وهو بَدَلٌ جائِزٌ، وقَرَأ ابْنُ وثّابٍ: ”ما وُرِيَ“ بِواوٍ مَضْمُومَةٍ مِن غَيْرِ واوٍ بَعْدَها عَلى وزْنِ كُسِيَ، وقَرَأ مُجاهِدٌ، والحَسَنُ مِن سَوَّتِهِما بِالإفْرادِ وتَسْهِيلِ الهَمْزَةِ بِإبْدالِها واوًا وإدْغامِ الواوِ فِيها، وقَرَأ الحَسَنُ أيْضًا، وأبُو جَعْفَرِ بْنُ القَعْقاعِ وشَيْبَةُ بْنُ نَصّاحٍ: ”مِن سَوّاتِهِما“ بِتَسْهِيلِ الهَمْزَةِ وتَشْدِيدِ الواوِ، وقُرِئَ: مِن سَواتِهِما بِواوٍ واحِدَةٍ وحَذْفِ الهَمْزَةِ، ووَجْهُهُ أنَّهُ حَذَفَها وألْقى حَرَكَتَها عَلى الواوِ، فَمَن قَرَأ بِالجَمْعِ فَهو مِن وضْعِ الجَمْعِ مَوْضِعَ التَّثْنِيَةِ كَراهَةَ اجْتِماعِ مِثْلَيْنِ، ومَن قَرَأ بِالإفْرادِ فَمِن وضْعِهِ مَوْضِعَ التَّثْنِيَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الجَمْعُ عَلى أصْلِ وضْعِهِ بِاعْتِبارِ أنَّ كُلَّ عَوْرَةٍ هي الدُّبُرُ والفَرْجُ وذَلِكَ أرْبَعَةٌ: فَهي جَمْعٌ. وإلّا أنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ اسْتِثْناءٌ مُفَرَّغٌ مِنَ المَفْعُولِ مِن أجْلِهِ، أيْ: ما نَهاكُما رَبُّكُما لِشَيْءٍ إلّا كَراهَةَ أنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ ويُقَدِّرُهُ الكُوفِيُّونَ إلّا أنْ تَكُونا، وإضْمارُ الِاسْمِ وهو كَراهَةٌ أحْسَنُ مِن إضْمارِ الحَرْفِ، وهو لا، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ المَلائِكَةَ بِالمَنظَرِ الأعْلى، وأنَّ البَشَرِيَّةَ تَلْمَحُ مَرْتَبَتَها. انْتَهى. وقالَ ابْنُ فَوْرَكٍ: لا حُجَّةَ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ المَلائِكَةَ أفْضَلُ مِنَ البَشَرِ؛ لِأنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ مَلَكَيْنِ في أنْ لا يَكُونَ لَهُما شَهْوَةً في طَعامٍ. انْتَهى. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، والضَّحّاكُ ويَحْيى بْنُ كَثِيرٍ والزُّهْرِيُّ، وابْنُ حَكِيمٍ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ مَلِكَيْنِ بِكَسْرِ اللّامِ، ويَدُلُّ لِهَذِهِ القِراءَةِ ﴿هَلْ أدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الخُلْدِ ومُلْكٍ لا يَبْلى﴾ [طه: ١٢٠] ومِنَ الخالِدِينَ مِنَ الَّذِينَ لا يَمُوتُونَ ويَبْقُونَ في الجَنَّةِ ساكِنِينَ. ﴿وقاسَمَهُما إنِّي لَكُما لَمِنَ النّاصِحِينَ﴾ لَمْ يَكْتَفِ إبْلِيسُ بِالوَسْوَسَةِ وهو الإلْقاءُ في خُفْيَةٍ سِرًّا ولا بِالقَوْلِ حَتّى أقْسَمَ عَلى أنَّهُ ناصِحٌ لَهُما. والمُقاسَمَةُ مُفاعَلَةٌ تَقْتَضِي المُشارَكَةَ في الفِعْلِ فَتُقْسِمُ لِصاحِبِكَ ويُقْسِمُ لَكَ، تَقُولَ قاسَمْتُ فُلانًا حالَفْتُهُ وتَقاسَما تَحالَفا، وأمّا هُنا فَمَعْنى وقاسَمَهُما أقْسَمَ لَهُما؛ لِأنَّ اليَمِينَ لَمْ يُشارِكاهُ فِيها. وهو كَقَوْلِ الشّاعِرِ: ؎وقاسَمَهُما بِاللَّهِ جَهْدًا لَأنْتُمُ ألَذُّ مِنَ السَّلْوى إذا ما نَشُورُها و”فاعَلَ“ قَدْ يَأْتِي بِمَعْنى ”أفْعَلَ“ نَحْوُ باعَدْتُ الشَّيْءَ وأبْعَدْتُهُ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقاسَمَهُما، أيْ: حَلَفَ لَهُما، وهي مُفاعَلَةٌ إذْ قَبُولُ المَحْلُوفِ لَهُ وإقْبالِهِ عَلى مَعْنى اليَمِينِ كالقَسَمِ وتَقْرِيرِهِ وإنْ كانَ بادِيَ الرَّأْيِ يَعْنِي أنَّها مِن واحِدٍ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَأنَّهُ قالَ لَهُما أُقْسِمُ لَكُما أنِّي لَمِنَ النّاصِحِينَ وقالا لَهُ أتُقْسِمُ بِاللَّهِ إنَّكَ لَمِنَ النّاصِحِينَ، فَجَعَلَ ذَلِكَ مُقاسَمَةً بَيْنَهم، أوْ أقْسَمَ لَهُما بِالنَّصِيحَةِ وأقْسَما لَهُ بِقَبُولِها، أوْ أخْرَجَ قَسَمَ إبْلِيسَ عَلى وزْنِ المُفاعَلَةِ؛ لِأنَّهُ اجْتَهَدَ فِيها اجْتِهادَ المُقاسِمِ. انْتَهى. وقُرِئَ وقاسَمَهُما بِاللَّهِ و(لَكُما) مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ ناصِحٌ لَكُما، أوْ أعْنِي، أوْ بِالنّاصِحِينَ، عَلى أنَّ ألْ مَوْصُولَةٌ وتُسُومِحَ في الظَّرْفِ والمَجْرُورِ ما لا يُتَسامَحُ في غَيْرِهِما، أوْ عَلى أنَّ ألْ لِتَعْرِيفِ الجِنْسِ لا مَوْصُولَةً، أوْجُهٌ مَقُولَةٌ. ﴿فَدَلّاهُما بِغُرُورٍ﴾ [الأعراف: ٢٢]، أيِ: اسْتَنْزَلَهُما إلى الأكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ بِغُرُورِهِ، أيْ: بِخِداعِهِ إيّاهُما وإظْهارِ النُّصْحِ وإبِطانِ الغِشِّ وإطْماعِهِما أنْ يَكُونا مَلَكَيْنِ، أوْ خالِدَيْنِ وبِإقْسامِهِ أنَّهُ ناصِحٌ لَهُما جَعَلَ مَن يَغْتَرُّ بِالكَلامِ حَتّى يُصَدِّقَ فَيَقَعُ في مُصِيبَةٍ بِالَّذِي يُدْلِي مِن عُلُوٍّ إلى أسْفَلَ بِحَبْلٍ ضَعِيفٍ فَيَنْقَطِعُ بِهِ فَيَهْلِكُ، وقالَ الأزْهَرِيُّ: لِهَذِهِ الكَلِمَةِ أصْلانِ أحَدُهُما: أنَّ الرَّجُلَ يُدْلِي دَلْوَهُ في البِئْرِ لِيَأْخُذَ الماءَ فَلا يَجِدُ فِيها ماءً، وُضِعَتِ التَّدْلِيَةُ مَوْضِعَ الطَّمَعِ فِيما لا فائِدَةَ فِيهِ فَيُقالُ: دَلّاهُ، أيْ: أطْمَعَهُ الثّانِي جَرَّأهُما عَلى أكْلِ الشَّجَرَةِ، والأصْلُ فِيهِ دَلَلْهُما مِنَ الدّالِّ والدَّلالَةِ وهُما الجَراءَةُ. انْتَهى. فَأُبْدِلَ مِنَ المُضاعَفِ الأخِيرِ حَرْفُ عِلَّةٍ، كَما قالُوا: تَظَنَّيْتُ وأصْلُهُ تَظَنَّنْتُ (p-٢٨٠)ومِن كَلامِ بَعْضِ العُلَماءِ: خَدَعَ الشَّيْطانُ آدَمَ فانْخَدَعَ، ونَحْنُ مَن خَدَعَنا بِاللَّهِ عَزَّ وجَلَّ انْخَدَعْنا لَهُ، ورُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ قَتادَةَ وعَنِ ابْنِ عُمَرَ. ﴿فَلَمّا ذاقا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما﴾ [الأعراف: ٢٢]، أيْ: وجَدا طَعْمَها آكِلِينَ مِنها كَما قالَ تَعالى فَأكَلا مِنها وتَطايَرَتْ عَنْهُما مَلابِسُ الجَنَّةِ فَظَهَرَتْ لَهُما عَوْراتُهُما وتَقَدَّمَ أنَّهُما كانا قَبْلَ ذَلِكَ لا يَرَيانِها مِن أنْفُسِهِما، ولا أحَدَهُما مِنَ الآخَرِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ، وابْنُ جُبَيْرٍ: كانَ عَلَيْهِما ظُفُرٌ كاسٍ فَلَمّا أكَلا تَبَلَّسَ عَنْهُما فَبَدَتْ سَوْءاتُهُما وبَقِيَ مِنهُ عَلى الأصابِعِ قَدْرُ ما يَتَذَكَّرانِ بِهِ المُخالَفَةَ فَيُجَدِّدانِ النَّدَمَ. وقالَ وهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كانَ عَلَيْهِما نُورٌ يَسْتُرُ عَوْرَةَ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما فانْقَشَعَ بِالأكْلِ ذَلِكَ النُّورُ. وقِيلَ: كانَ عَلَيْهِما نُورٌ فَنَقَصَ وتَجَسَّدَ مِنهُ شَيْءٌ في أظْفارِ اليَدَيْنِ والرِّجْلَيْنِ تَذْكِرَةً لَهُما لِيَسْتَغْفِرُوا في كُلِّ وقْتٍ، وأبْناؤُهُما بِعْدَهُما كَما جَرى لِأُوَيْسٍ القَرَنِيِّ حِينَ أذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُ البَرَصَ إلّا لُمْعَةً أبْقاها لِيَتَذَكَّرَ نِعَمَهُ فَيَشْكُرَ. وقالَ قَوْمٌ: لَمْ يَقْصِدْ بِالسَّوْءَةِ العَوْرَةَ، والمَعْنى: انْكَشَفَ لَهُما مَعايِشُهُما وما يَسُوؤُهُما، وهَذا القَوْلُ يَنْبُو عَنْهُ دَلالَةُ اللَّفْظِ ويُخالِفُ قَوْلَ الجُمْهُورِ، وقِيلَ: أكَلَتْ حَوّاءُ أوَّلًا فَلَمْ يُصِبْها شَيْءٌ، ثُمَّ آدَمُ فَكانَ البُدُوُّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب