الباحث القرآني

﴿إنَّ ولِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الكِتابَ وهو يَتَوَلّى الصّالِحِينَ﴾ لَمّا أحالَهم عَلى الِاسْتِنْجادِ بِآلِهَتِهِمْ في ضَرِّهِ وأراهم أنَّ اللَّهَ هو القادِرُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ عَقَّبَ ذَلِكَ بِالِاسْتِنادِ إلى اللَّهِ تَعالى والتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ والإعْلامِ أنَّهُ تَعالى هو ناصِرُهُ عَلَيْهِمْ، وبَيَّنَ جِهَةَ نَصْرِهِ عَلَيْهِمْ بِأنْ أوْحى إلَيْهِ كِتابَهُ وأعَزَّهُ بِرِسالَتِهِ، ثُمَّ أنَّهُ تَعالى يَتَوَلّى الصّالِحِينَ مِن عِبادِهِ ويَنْصُرُهم عَلى أعْدائِهِ ولا يَخْذُلُهم، وقَرَأ الجُمْهُورُ: إنَّ ولِيِّيَ اللَّهُ بِياءٍ مُشَدَّدَةٍ وهي ياءُ فَعِيلٍ أُدْغِمَتْ في لامِ الكَلِمَةِ، وبِياءِ المُتَكَلِّمِ بَعْدَها مَفْتُوحَةً، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو في رِوايَةٍ عَنْهُ بِياءٍ واحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ، ورَفْعِ الجَلالَةِ، قالَ أبُو عَلِيٍّ لا يَخْلُو مِن أنْ يُدْغِمَ الياءَ الَّتِي هي لامُ الفِعْلِ في ياءِ الإضافَةِ وهو لا يَجُوزُ؛ لِأنَّهُ يَنْفَكُّ الإدْغامُ الأوَّلُ، أوْ تُدْغَمُ ياءُ فَعِيلٍ في ياءِ الإضافَةِ، ويُحْذَفُ لامُ الفِعْلِ فَلَيْسَ إلّا هَذا، انْتَهى، ويُمْكِنُ تَخْرِيجُ هَذِهِ القِراءَةِ عَلى وجْهٍ آخَرَ، وهو أنْ لا يَكُونَ ولِيٌّ مُضافًا إلى ياءِ مُتَكَلِّمٍ، بَلْ هو اسْمٌ نَكِرَةٌ اسْمُ إنَّ، والخَبَرُ اللَّهُ وحُذِفَ مِن ولِيٍّ التَّنْوِينُ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ، كَما حُذِفَ مِن قَوْلِهِ: قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ، وقَوْلِهِ: ولا ذاكِرُ اللَّهَ إلّا قَلِيلًا، والتَّقْدِيرُ: إنَّ ولِيًّا حَقَّ ولِيٍّ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الكِتابَ، وجَعْلُ اسْمِ إنَّ نَكِرَةً والخَبَرُ مَعْرِفَةٌ في فَصِيحِ الكَلامِ. قالَ الشّاعِرُ: ؎وإنَّ حَرامًا أنْ أسُبَّ مُجاشِعًا بِآبائِيَ الشُّمِّ الكِرامِ الخَضارِمِ وهَذا تَوْجِيهٌ لِهَذِهِ القِراءَةِ سَهْلٌ، واخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنِ الجَحْدَرِيِّ، فَنَقَلَ عَنْهُ صاحِبُ كِتابِ اللَّوامِحِ في شَواذِّ القِراءاتِ: إنَّ ولِيِّ، بِياءٍ مَكْسُورَةٍ مُشَدَّدَةٍ وحُذِفَتْ ياءُ المُتَكَلِّمِ لَمّا سَكَنَتِ التَقى ساكِنانِ فَحُذِفَتْ، كَما تَقُولُ: إنَّ صاحِبِي الرَّجُلُ الَّذِي تَعَلَّمَ، ونَقَلَ عَنْهُ أبُو عَمْرٍو الدّانِيُّ: إنَّ ولِيَّ اللَّهِ، بِياءٍ واحِدَةٍ مَنصُوبَةٍ مُضافَةٍ إلى اللَّهِ، وذَكَرَها الأخْفَشُ وأبُو حاتِمٍ غَيْرَ مَنصُوبَةٍ وضَعَّفَها أبُو حاتِمٍ، وخَرَّجَ الأخْفَشُ وغَيْرُهُ هَذِهِ القِراءَةَ عَلى أنْ يَكُونَ المُرادُ جِبْرِيلَ، قالَ الأخْفَشُ: فَيَصِيرُ الَّذِي نَزَّلَ الكِتابَ مِن صِفَةِ جِبْرِيلَ بِدَلالَةِ ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ﴾ [النحل: ١٠٢]، وفي قِراءَةِ العامَّةِ مِن صِفَةِ اللَّهِ تَعالى، انْتَهى، يَعْنِي أنْ يَكُونَ خَبَرُ إنَّ هو قَوْلَهُ: ﴿الَّذِي نَزَّلَ الكِتابَ﴾، قالَ الأخْفَشُ: فَأمّا ﴿وهُوَ يَتَوَلّى الصّالِحِينَ﴾ فَلا يَكُونُ إلّا مِنَ الإخْبارِ عَنِ اللَّهِ تَعالى، وتَفْسِيرُ هَذِهِ القِراءَةِ بِأنَّ المُرادَ بِها جِبْرِيلُ وإنِ احْتَمَلَها لَفْظُ الآيَةِ لا يُناسِبُ ما قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ ولا ما بَعْدَها، ويَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ مِنَ الإعْرابِ ولا يَكُونُ المَعْنى جِبْرِيلَ، أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ ﴿ولِيِّيَ اللَّهُ﴾ اسْمَ إنَّ، والَّذِي نَزَّلَ الكِتابَ هو الخَبَرُ عَلى تَقْدِيرِ حَذْفِ الضَّمِيرِ العائِدِ عَلى المَوْصُولِ، والمَوْصُولُ هو النَّبِيُّ ﷺ، والتَّقْدِيرُ: أنَّ ولِيَّ اللَّهِ الشَّخْصُ الَّذِي نَزَّلَ الكِتابَ عَلَيْهِ، فَحَذَفَ عَلَيْهِ وإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَرْطُ جَوازِ الحَذْفِ المَقِيسِ لَكِنَّهُ قَدْ جاءَ نَظِيرُهُ في كَلامِ العَرَبِ. قالَ الشّاعِرُ: ؎وإنَّ لِسانِي شُهْدَةٌ يُشْتَفى بِها ∗∗∗ وهْوَ عَلى مَن صَبَّهُ اللَّهُ عَلْقَمُ التَّقْدِيرُ: وهو عَلى مَن صَبَّهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَلْقَمُ. وقالَ الآخَرُ: ؎فَأصْبَحَ مِن أسْماءَ قَيْسٌ كَقابِضٍ ∗∗∗ عَلى الماءِ لا يَدْرِي بِما هو قابِضُ التَّقْدِيرُ بِما هو قابِضٌ عَلَيْهِ، وقالَ الآخَرُ: ؎لَعَلَّ الَّذِي أصْعَدْتَنِي أنْ يَرُدَّنِي ∗∗∗ إلى الأرْضِ إنْ لَمْ يَقْدِرِ الخَيْرَ قادِرُهْ يُرِيدُ أصْعَدْتَنِي بِهِ. وقالَ الآخَرُ: ؎فَأبْلِغَنَّ خالِدَ بْنَ نَضْلَةَ ∗∗∗ والمَرْءُ مَعْنِيٌّ بِلَوْمِ مَن يَثِقُ (p-٤٤٧)يُرِيدُ يَثِقُ بِهِ. وقالَ الآخَرُ: ؎ومِن حَسَدٍ يَجُورُ عَلَيَّ قَوْمِي ∗∗∗ وأيُّ الدَّهْرِ ذَرْ لَمْ يَحْسُدُونِي يُرِيدُ لَمْ يَحْسُدُونِي فِيهِ. وقالَ الآخَرُ: ؎فَقُلْتُ لَها لا والَّذِي حَجَّ حاتِمٌ ∗∗∗ أخُونُكِ عَهْدًا إنَّنِي غَيْرُ خَوّانِ قالُوا: يُرِيدُ حَجَّ حاتِمٌ إلَيْهِ، فَهَذِهِ نَظائِرُ مِن كَلامِ العَرَبِ يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ القِراءَةِ الشّاذَّةِ عَلَيْها، والوَجْهُ الثّانِي: أنْ يَكُونَ خَبَرُ إنَّ مَحْذُوفًا لِدَلالَةِ ما بَعْدَهُ عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: إنَّ ولِيَّ اللَّهِ الَّذِي نَزَّلَ الكِتابَ مَن هو صالِحٌ أوِ الصّالِحُ، وحُذِفَ لِدَلالَةِ وهو يَتَوَلّى الصّالِحِينَ عَلَيْهِ، وحَذْفُ خَبَرِ إنَّ وأخَواتِها لِفَهْمِ المَعْنى جائِزٌ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمّا جاءَهم وإنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ﴾ [فصلت: ٤١] الآيَةَ، وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ويَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ والمَسْجِدِ الحَرامِ﴾ [الحج: ٢٥] الآيَةَ، وسَيَأْتِي تَقْدِيرُ حَذْفِ الخَبَرِ فِيهِما إنْ شاءَ اللَّهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب