الباحث القرآني

﴿ومِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ لَمّا ذَكَرَ مَن ذَرَأ لِلنّارِ ذَكَرَ مُقابِلَهم، وفي لَفْظَةِ: (ومِمَّنْ) دَلالَةٌ عَلى التَّبْعِيضِ، وأنَّ المُعْظَمَ مِنَ المَخْلُوقِينَ لَيْسُوا هُداةً إلى الحَقِّ، ولا عادِلِينَ بِهِ، قِيلَ: هُمُ العُلَماءُ والدُّعاةُ إلى الدِّينِ؛ وقِيلَ: هم مُؤْمِنُو أهْلِ الكِتابِ، قالَهُ ابْنُ الكَلْبِيِّ، ورُوِيَ عَنْ قَتادَةَ وابْنِ جُرَيْجٍ؛ وقِيلَ: هُمُ المُهاجِرُونَ والأنْصارُ والتّابِعُونَ لَهم بِإحْسانٍ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هم أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وعَلَيْهِ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ، ورُوِيَ في ذَلِكَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كانَ إذا قَرَأها قالَ: هَذِهِ لَكم وقَدْ أُعْطِيَ القَوْمُ بَيْنَ أيْدِيكم مِثْلَها: ﴿ومِن قَوْمِ مُوسى﴾ [الأعراف: ١٥٩] الآيَةَ، وعَنْهُ: إنَّ مِن أُمَّتِي قَوْمًا عَلى الحَقِّ حَتّى يَنْزِلَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ، والظّاهِرُ أنَّ هَذِهِ الجُمْلَةَ أخْبَرَ فِيها أنَّ مِمَّنْ خَلَقَ أُمَّةً مَوْصُوفُونَ بِكَذا، فَلا يَدُلُّ عَلى تَعْيِينٍ لا في أشْخاصٍ، ولا في أزْمانٍ، وصَلَحَتْ لِكُلِّ هادٍ بِالحَقِّ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ وغَيْرِهِمْ، وفي زَمانِ الرَّسُولِ وغَيْرِهِ، كَما أنَّ مُقابِلَها في قَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ﴾ [الأعراف: ١٧٩] لا يَدُلُّ عَلى تَعْيِينِ أشْخاصٍ ولا زَمانٍ، وإنَّما هَذا تَقْسِيمٌ لِلْمَخْلُوقِ لِلنّارِ والمَخْلُوقِ لِلْجَنَّةِ، ولِذَلِكَ قِيلَ: إنَّ في الكَلامِ مَحْذُوفًا، تَقْدِيرُهُ: (ومِمَّنْ خَلَقْنا) يَدُلُّ عَلَيْهِ إثْباتُ مُقابِلِهِ، في قَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ﴾ [الأعراف: ١٧٩] . وقالَ الجُبّائِيُّ: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنْ لا يَخْلُوَ زَمانٌ ألْبَتَّةَ مِمَّنْ يَقُومُ بِالحَقِّ ويَعْمَلُ بِهِ ويَهْدِي إلَيْهِ، وأنَّهم لا يَجْتَمِعُونَ في شَيْءٍ مِنَ الأزْمِنَةِ عَلى الباطِلِ، انْتَهى، والآيَةُ لا تَدُلُّ عَلى ما زَعَمَ الجُبّائِيُّ، وما قالَهُ مُخالِفٌ لِما رُوِيَ مِن أنَّهُ «لا تَقُومُ السّاعَةُ إلّا عَلى شِرارِ الخَلْقِ»، «ولا تَقُومُ السّاعَةُ حَتّى لا يُقالَ في الأرْضِ: اللَّهُ اللَّهُ»، «ولا تَقُومُ السّاعَةُ حَتّى يُسَرّى عَلى كِتابِ اللَّهِ فَلا يُبْقى مِنهُ حَرْفٌ»، أوْ كَما قالَ: ﴿والَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهم مِن حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ﴾ قالَ الخَلِيلُ بْنُ أحْمَدَ: سَنَطْوِي أعْمارَهم في اغْتِرارٍ مِنهم، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: الِاسْتِدْراجُ أنْ تَدْرُجَ إلى الشَّيْءِ في خُفْيَةٍ قَلِيلًا قَلِيلًا، ولا تَهْجُمَ عَلَيْهِ، وأصْلُهُ مِنَ الدَّرَجَةِ، وذَلِكَ أنَّ الرّاقِيَ والنّازِلَ يَرْقى ويَنْزِلُ مِرْقاةً مِرْقاةً، ومِنهُ دَرَجَ الكِتابَ طَواهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، ودَرَجَ القَوْمُ ماتُوا بَعْضُهم في إثْرِ بَعْضٍ، وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هو أنْ يُذِيقَهم مِن بَأْسِهِ قَلِيلًا قَلِيلًا مِن حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، ولا يُتابِعُهم بِهِ ولا (p-٤٣١)يُجاهِرُهم، وقالَ الأزْهَرِيُّ: سَنَأْخُذُهم قَلِيلًا قَلِيلًا مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُونَ، وذَلِكَ أنَّ اللَّهَ تَعالى يَفْتَحُ بابًا مِنَ النِّعْمَةِ يَغْتَبِطُونَ بِهِ ويَرْكَنُونَ إلَيْهِ، ثُمَّ يَأْخُذُهم عَلى غِرَّتِهِمْ أغْفَلَ ما يَكُونُ، انْتَهى، ومِنهُ دَرَجَ الصَّبِيُّ إذا قارَبَ بَيْنَ خُطاهُ، والمَعْنى: سَنَسْتَرِقُهم شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ ودَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ بِالنِّعَمِ عَلَيْهِمْ والإمْهالِ لَهم حَتّى يَغْتَرُّوا ويَظُنُّوا أنَّهم لا يَنالُهم عِقابٌ، وقالَ الجُبّائِيُّ سَنَسْتَدْرِجُهم إلى العُقُوباتِ حَتّى يَقَعُوا فِيها مِن حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ اسْتِدْراجًا لَهم إلى ذَلِكَ فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ هَذا العَذابُ في الدُّنْيا كالقَتْلِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَذابَ الآخِرَةِ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ومَعْنى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ﴾ سَنَسْتَدِينُهم قَلِيلًا قَلِيلًا إلى ما يُهْلِكُهم ويُضاعِفُ عِقابَهم مِن حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ما يُرادُ بِهِمْ، وذَلِكَ أنْ يُواتِرَ اللَّهُ نِعْمَةً عَلَيْهِمْ مَعَ انْهِماكِهِمْ في الغَيِّ، فَكُلَّما جَدَّدَ عَلَيْهِمْ نِعْمَةً ازْدادُوا بَطَرًا وجَدَّدُوا مَعْصِيَةً فَيَتَدَرَّجُونَ في المَعاصِي بِسَبَبِ تَرادُفِ النِّعَمِ ظانِّينَ أنَّ مُواتَرَةَ النِّعَمِ أثَرَةٌ مِنَ اللَّهِ وتَقْرِيبٌ، وإنَّما هي خِذْلانٌ مِنهُ وتَبْعِيدٌ، فَهَذا اسْتِدْراجُ اللَّهِ - نَعُوذُ بِاللَّهِ تَعالى مِنهُ - مِن حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، قِيلَ: بِالِاسْتِدْراجِ؛ وقِيلَ: بِالهَلاكِ، وقَرَأ النَّخَعِيُّ وابْنُ وثّابٍ: سَيَسْتَدْرِجُهم، بِالياءِ فاحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ مِن بابِ الِالتِفاتِ، واحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ الفاعِلُ ضَمِيرَ التَّكْذِيبِ المَفْهُومِ مِن كَذَّبُوا، أيْ: سَيَسْتَدْرِجُهم هو، أيِ: التَّكْذِيبُ، قالَ الأعْشى: في الِاسْتِدْراجِ: ؎فَلَوْ كُنْتَ في جُبٍّ ثَمانِينَ قامَةً ورُقِّيتَ أسْبابَ السَّماءِ بِسُلَّمِ ؎لَيَسْتَدْرِجَنْكَ القَوْلُ حَتّى تَهُزَّهُ ∗∗∗ وتَعْلَمَ أنِّي عَنْكُمُ غَيْرُ مُفْحِمِ ﴿وأُمْلِي لَهم إنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى سَنَسْتَدْرِجُهم، فَهو داخِلٌ في الِاسْتِقْبالِ، وهو خُرُوجٌ مِن ضَمِيرِ التَّكَلُّمِ بِنُونِ العَظَمَةِ إلى ضَمِيرِ تَكَلُّمِ المُفْرَدِ، والمَعْنى: أُؤَخِّرُهم مِلاوَةً مِنَ الدَّهْرِ، أيْ: مُدَّةً فِيها طُولٌ، والمُلاوَةُ بِفَتْحِ المِيمِ وضَمِّها وكَسْرِها، ومِنهُ: ﴿واهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾ [مريم: ٤٦]، أيْ: طَوِيلًا، وسَمّى فِعْلَهُ ذَلِكَ بِهِمْ كَيْدًا؛ لِأنَّهُ شَبِيهٌ بِالكَيْدِ مِن حَيْثُ أنَّهُ في الظّاهِرِ إحْسانٌ، وفي الحَقِيقَةِ خِذْلانٌ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ إنَّ مَكْرِي شَدِيدٌ؛ وقِيلَ: إنَّ عَذابِي وسَمّاهُ كَيْدًا لِنُزُولِهِ بِالعِبادِ مِن حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ والمَتِينُ مِن كُلِّ شَيْءٍ القَوِيُّ يُقالُ: مَتُنَ مَتانَةً، وهَذا إخْبارٌ عَنِ المُكَذِّبِينَ عُمُومًا؛ وقِيلَ: نَزَلَتْ في المُسْتَهْزِئِينَ مِن قُرَيْشٍ؛ قَتَلَهُمُ اللَّهُ في لَيْلَةٍ واحِدَةٍ بَعْدَ أنْ أمْهَلَهم مُدَّةً، وقَرَأ عَبْدُ الحَمِيدِ عَنِ ابْنِ عامِرٍ أنَّ كَيَدِي بِفَتْحِ الهَمْزَةِ عَلى مَعْنى لِأجْلِ أنَّ كَيْدِي، وقَرَأ الجُمْهُورُ بِكَسْرِها عَلى الِاسْتِئْنافِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب