الباحث القرآني

﴿ولَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ والإنْسِ﴾ هَذا إخْبارٌ مِنهُ تَعالى بِأنَّهُ خَلَقَ لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الصِّنْفَيْنِ، ومُناسَبَةُ هَذا لِما قَبْلَهُ أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ أنَّهُ هو الهادِي وهو المُضِلُّ أعْقَبَهُ بِذِكْرِ مَن خُلِقَ لِلْخُسْرانِ والنّارِ، وذَكَرَ أوْصافَهَمْ فِيما ذَكَرَ، وفي ضِمْنِهِ وعِيدُ الكُفّارِ، والمَعْنى: لِعَذابِ جَهَنَّمَ، واللّامُ لِلصَّيْرُورَةِ عَلى قَوْلِ مَن أثْبَتَ لَها هَذا المَعْنى، أوْ لَمّا كانَ مَآلُهم إلَيْها جَعَلَ ذَلِكَ سَبَبًا عَلى جِهَةِ المَجازِ، فَقَدْ رَدَّ ابْنُ عَطِيَّةَ قَوْلَ مَن زَعَمَ أنَّها لِلصَّيْرُورَةِ، فَقالَ: ولَيْسَ هَذا بِصَحِيحٍ ولامُ العاقِبَةِ إنَّما يُتَصَوَّرُ إذا كانَ فِعْلُ الفاعِلِ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ ما يَصِيرُ الأمْرُ إلَيْهِ، وأمّا هُنا فالفِعْلُ قُصِدَ بِهِ ما يَصِيرُ الأمْرُ إلَيْهِ مِن سُكْناهم لِجَهَنَّمَ، انْتَهى، وإنَّما ذُهِبَ إلى أنَّها لامُ العاقِبَةِ والصَّيْرُورَةِ؛ لِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] فَإثْباتُ كَوْنِها لِلْعِلَّةِ يُنافِي قَوْلَهُ: ﴿إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] وأنْشَدُوا دَلِيلًا عَلى إثْباتِ مَعْنى (p-٤٢٧)الصَّيْرُورَةِ لِلّامِ قَوْلَ الشّاعِرِ: ؎ألا كُلُّ مَوْلُودٍ فَلِلْمَوْتِ يُولَدُ ولَسْتُ أرى حَيًّا لِحَيٍّ يُخَلَّدُ وقَوْلَ الآخَرِ: ؎فَلِلْمَوْتِ تَغْدُو الوالِداتُ سِخالُها ∗∗∗ كَما لِخَرابِ الدَّهْرِ تُبْنى المَساكِنُ ودَعْوى القَلْبِ فِيهِ، وإنَّ تَقْدِيرَهُ - ولَقَدْ ذَرَأْنا جَهَنَّمَ لِكَثِيرٍ - غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأنَّ القَلْبَ لا يَكُونُ إلّا في الشِّعْرِ عَلى الصَّحِيحِ، ولَفْظَةُ كَثِيرٍ لا تُشْعِرُ بِالأكْثَرِ ولَكِنْ ثَبَتَ في الحَدِيثِ أنَّ بَعْثَ النّارِ أكْثَرُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ لِآدَمَ: أخْرِجْ بَعْثَ النّارِ مِن ذُرِّيَّتِكَ، فَأخْرَجَ مِن كُلِّ ألْفٍ تِسْعَةً وتِسْعِينَ وتِسْعَمِائَةٍ، وهَؤُلاءِ المَخْلُوقُونَ لِجَهَنَّمَ هُمُ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يَتَأتّى مِنهم إيمانٌ البَتَّةَ، وتَفْسِيرُ ابْنِ جُبَيْرٍ أنَّهم أوْلادُ الزِّنا لَيْسَ بِجَيِّدٍ. ﴿لَهم قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ولَهم أعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ولَهم آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها﴾ لَمّا كانُوا لا يَتَدَبَّرُونَ شَيْئًا مِنَ الآياتِ، ولا يَنْظُرُونَ إلَيْها نَظَرَ اعْتِبارٍ، ولا يَسْمَعُونَها سَماعَ تَفَكُّرٍ، جُعِلُوا كَأنَّهم فَقَدُوا الفِقْهَ بِالقُلُوبِ، والإبْصارَ بِالعُيُونِ، والسَّماعَ بِالآذانِ، ولَيْسَ المُرادُ نَفْيَ هَذِهِ الإدْراكاتِ عَنْ هَذِهِ الحَواسِّ، وإنَّما المُرادُ نَفْيُ الِانْتِفاعِ بِها فِيما طُلِبَ مِنهم مِنَ الإيمانِ. وقالَ مِسْكِينٌ الدّارِمِيُّ: ؎أعْمى إذا ما جارَتِي خَرَجَتْ ∗∗∗ حَتّى يُوارِيَ جارَتِي السِّتْرُ ؎وأصَمُّ عَنْ ما كانَ بَيْنَهُما ∗∗∗ عَمْدًا وما بِالسَّمْعِ لِي وقْرُ وفَسَّرَ مُجاهِدٌ هَذا فَقالَ: ﴿لا يَفْقَهُونَ بِها﴾ شَيْئًا مِن أُمُورِ الآخِرَةِ ﴿لا يُبْصِرُونَ بِها﴾ الهُدى ﴿لا يَسْمَعُونَ بِها﴾ الحَقَّ، انْتَهى، وفي قَوْلِهِ: ﴿لَهم قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها﴾ دَلِيلٌ عَلى أنَّ القَلْبَ آلَةٌ لِلْفِقْهِ والعِلْمِ، كَما أنَّ العَيْنَ آلَةٌ لِلْإبْصارِ، والأُذُنَ آلَةٌ لِلسَّماعِ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وجَعَلَهم لِإغْراقِهِمْ في الكُفْرِ وشِدَّةِ شَكائِمِهِمْ فِيهِ وأنَّهُ لا يَتَأتّى مِنهم إلّا أفْعالُ أهْلِ النّارِ مَخْلُوقِينَ لِلنّارِ دَلالَةً عَلى تَوَغُّلِهِمْ في المُوجِباتِ وتَمَكُّنِهِمْ فِيما يُؤَهِّلُهم لِدُخُولِ النّارِ، ومِنهُ كِتابُ عُمَرَ إلى خالِدِ بْنِ الوَلِيدِ: بَلَغَنِي أنَّ أهْلَ الشّامِ اتَّخَذُوا لَكَ دَلُوكًا عُجِنَ بِخَمْرٍ، وإنِّي لَأظُنُّكم يا آلَ المُغِيرَةِ ذَرْءَ النّارِ. ويُقالُ لِمَن كانَ غَرِيقًا في بَعْضِ الأُمُورِ: ما خُلِقَ فُلانٌ إلّا لِلنّارِ، والمُرادُ وصْفُ أحْوالِهِمْ في عِظَمِ ما أقْدَمُوا عَلَيْهِ في تَكْذِيبِ رَسُولِ اللَّهِ مَعَ عِلْمِهِمْ أنَّهُ النَّبِيُّ المَوْعُودُ، وأنَّهم مِن جُمْلَةِ الكَثِيرِ الَّذِينَ لا يَكادُ الإيمانُ يَتَأتّى مِنهم، كَأنَّهم خُلِقُوا لِلنّارِ، انْتَهى، وهو تَكْثِيرٌ في الشَّرْحِ. ﴿أُولَئِكَ كالأنْعامِ﴾، أيْ: في عَدَمِ الفِقْهِ في العَواقِبِ والنَّظَرِ لِلِاعْتِبارِ والسَّماعِ لِلتَّفَكُّرِ، ولا يَهْتَمُّونَ بِغَيْرِ الأكْلِ والشُّرْبِ. ﴿بَلْ هم أضَلُّ﴾ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿بَلْ هم أضَلُّ﴾ سَبِيلًا مِنَ الأنْعامِ عَنِ الفِقْهِ والِاعْتِبارِ والتَّدَبُّرِ؛ وقِيلَ: الأنْعامُ تُبْصِرُ مَنافِعَها مِن مَضارِّها، فَتَلْزَمُ بَعْضَ ما تُبْصِرُهُ، وهَؤُلاءِ أكْثَرُهم يَعْلَمُ أنَّهُ مُعانِدٌ فَيُقْدِمُ عَلى النّارِ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: حُكِمَ عَلَيْهِمْ بِأنَّهم أضَلُّ؛ لِأنَّ الأنْعامَ رُكِّبَ في بِنْيَتِها وخِلْقَتِها أنْ لا تُفَكِّرَ في شَيْءٍ، وهَؤُلاءِ هم مُعَدُّونَ لِلْفَهْمِ، وقَدْ خُلِقَتْ لَهم قُوًى يَصْرِفُونَها، وأُعْطُوا طَرَفًا مِنَ النَّظَرِ، فَهم بِغَفْلَتِهِمْ وإعْراضِهِمْ يُلْحِقُونَ أنْفُسَهم بِالأنْعامِ فَهم أضَلُّ عَلى هَذا، انْتَهى؛ وقِيلَ: ﴿هم أضَلُّ﴾؛ لِأنَّهم يَعْصُونَ، والأنْعامُ لا تَعْصِي؛ وقِيلَ: الأنْعامُ تَعْرِفُ رَبَّها وتُسَبِّحُ لَهُ، والكُفّارُ لا يَعْرِفُونَهُ ولا يَدْعُونَهُ، ورُوِيَ: كُلُّ شَيْءٍ أطْوَعُ لِلَّهِ مِنِ ابْنِ آدَمَ، وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: الإنْسانُ وسائِرُ الحَيَوانِ يُشارِكُهُ في قُوى الطَّبِيعَةِ الغادِيَةِ والنّامِيَةِ والمُوَلَّدَةِ، وفي مَنافِعِ الحَواسِّ الخَمْسِ الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ، وفي أحْوالِ التَّخَيُّلِ والتَّفَكُّرِ والتَّذَكُّرِ، وإنَّما يَحْصُلُ الِامْتِيازُ بَيْنَ الإنْسانِ وغَيْرِهِ بِالقُوَّةِ العَقْلِيَّةِ والفِكْرِيَّةِ الَّتِي تَهْدِيهِ إلى مَعْرِفَةِ الحَقِّ لِذاتِهِ، والخَيْرِ لِأجْلِ العَمَلِ بِهِ، فَلَمّا أعْرَضَ الكُفّارُ مِن أغْراضِ أحْوالِ العَقْلِ والفِكْرِ ومَعْرِفَةِ الحَقِّ والعَمَلِ بِالخَيْرِ كانُوا كالأنْعامِ، ثُمَّ قالَ: ﴿بَلْ هم أضَلُّ﴾؛ (p-٤٢٨)لِأنَّ الحَيَواناتِ لا قُدْرَةَ لَها عَلى تَحْصِيلِ الفَضائِلِ، والإنْسانُ أُعْطِيَ القُدْرَةَ عَلى تَحْصِيلِها، ومَن أعْرَضَ عَنِ اكْتِسابِ الفَضائِلِ العَظِيمَةِ مَعَ القُدْرَةِ عَلى تَحْصِيلِها كانَ أحْسَنَ حالًا مِمَّنْ لَمْ يَكْتَسِبْها مَعَ العَجْزِ، فَلِهَذا قالَ: ﴿بَلْ هم أضَلُّ﴾ )، انْتَهى. وقِيلَ: الأنْعامُ تَفِرُّ إلى أرْبابِها، ومَن يَقُومُ بِمَصالِحِها والكافِرُ يَهْرُبُ عَنْ رَبِّهِ الَّذِي أنْعُمُهُ عَلَيْهِ لا تُحْصى؛ وقِيلَ: الأنْعامُ تَضِلُّ إذا لَمْ يَكُنْ مَعَها مُرْشِدٌ، وقَلَّما تَضِلُّ إذا كانَ مَعَها، وهَؤُلاءِ قَدْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ وأُنْزِلَتْ عَلَيْهِمُ الكُتُبُ وهم يَزْدادُونَ في الضَّلالِ، انْتَهى. وأقُولُ هَذا الإضْرابُ لَيْسَ عَلى جِهَةِ الإبْطالِ لِلْخَبَرِ السّابِقِ مِن تَشْبِيهِهِمْ بِالأنْعامِ، ولا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ جِهَةُ المُبالَغَةِ في الضَّلالِ هي جِهَةُ التَّشْبِيهِ؛ لِأنَّهُ يُؤَدِّي إلى كَذِبِ أحَدِ الخَبَرَيْنِ وذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى، وكَلامُ مَن تَقَدَّمَ مِنَ المُفَسِّرِينَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى شَبَّهَهم بِالأنْعامِ فِيما ذَكَرَ، وأنَّهم أضَلُّ مِنَ الأنْعامِ فِيما وقَعَ التَّشْبِيهُ فِيهِ، وهو لا يَجُوزُ لِما ذَكَرْناهُ، فالمُعَوَّلُ عَلَيْهِ أنَّ جِهَةَ التَّشْبِيهِ مُخالِفَةٌ لِجِهَةِ المُبالَغَةِ في الضَّلالِ وأنَّ هَذا الإضْرابَ لَيْسَ عَلى سَبِيلِ الإبْطالِ بِمَدْلُولِ الجُمْلَةِ السّابِقَةِ: ﴿بَلْ هم أضَلُّ﴾ إضْرابٌ دالٌّ عَلى الِانْتِقالِ مِن إخْبارٍ إلى إخْبارٍ، فالجُمْلَةُ الأوْلى شَبَّهَهم بِالأنْعامِ في انْتِفاءِ مَنافِعِ الإدْراكاتِ المُؤَدِّيَةِ إلى امْتِثالِ ما جاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، والجُمْلَةُ الثّانِيَةُ أثْبَتَتْ لَهُمُ المُبالَغَةَ في ضَلالِ طَرِيقِهِمُ الَّتِي يَسْلُكُونَها، فالمَوْصُوفُ بِالمُبالَغَةِ في الضَّلالِ طَرِيقُهم، وحُذِفَ التَّمْيِيزُ، وتَقْدِيرُهُ: ﴿بَلْ هم أضَلُّ﴾ طَرِيقًا مِنهم، ويُبَيِّنُ هَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أمْ تَحْسَبُ أنَّ أكْثَرَهم يَسْمَعُونَ أوْ يَعْقِلُونَ إنْ هم إلّا كالأنْعامِ﴾ [الفرقان: ٤٤]، أيْ: في انْتِفاءِ السَّمْعِ لِلتَّدَبُّرِ والعَقْلِ: ﴿بَلْ هم أضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: ٤٤]، أيْ: بَلْ سَبِيلُهم أضَلُّ فالمَحْكُومُ عَلَيْهِ أوَّلًا غَيْرُ المَحْكُومِ عَلَيْهِ آخِرًا، والمَحْكُومُ بِهِ أيْضًا مُخْتَلِفٌ. ﴿أُولَئِكَ هُمُ الغافِلُونَ﴾ هَذِهِ الجُمْلَةُ بَيَّنَ تَعالى بِها سَبَبَ كَوْنِهِمْ أضَلَّ مِنَ الأنْعامِ، وهو الغَفْلَةُ. وقالَ عَطاءٌ: عَنْ ما أعَدَّ اللَّهُ لِأوْلِيائِهِ مِنَ الثَّوابِ ولِأعْدائِهِ مِنَ العِقابِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب