الباحث القرآني

﴿وإذْ نَتَقْنا الجَبَلَ فَوْقَهم كَأنَّهُ ظُلَّةٌ وظَنُّوا أنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكم بِقُوَّةٍ واذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكم تَتَّقُونَ﴾ ﴿وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهم وأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكم قالُوا بَلى شَهِدْنا أنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيامَةِ إنّا كُنّا عَنْ هَذا غافِلِينَ﴾ ﴿أوْ تَقُولُوا إنَّما أشْرَكَ آباؤُنا مِن قَبْلُ وكُنّا ذُرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ أفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ المُبْطِلُونَ﴾ ﴿وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ ولَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ ﴿واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنها فَأتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الغاوِينَ﴾ [الأعراف: ١٧٥] ﴿ولَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها ولَكِنَّهُ أخْلَدَ إلى الأرْضِ واتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهم يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: ١٧٦] ﴿ساءَ مَثَلًا القَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وأنْفُسَهم كانُوا يَظْلِمُونَ﴾ [الأعراف: ١٧٧] ﴿مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهو المُهْتَدِي ومَن يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ﴾ [الأعراف: ١٧٨] ﴿ولَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ والإنْسِ لَهم قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ولَهم أعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ولَهم آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولَئِكَ كالأنْعامِ بَلْ هم أضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغافِلُونَ﴾ [الأعراف: ١٧٩] ﴿ولِلَّهِ الأسْماءُ الحُسْنى فادْعُوهُ بِها وذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ في أسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: ١٨٠] ﴿ومِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ [الأعراف: ١٨١] ﴿والَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهم مِن حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ١٨٢] ﴿وأُمْلِي لَهم إنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [الأعراف: ١٨٣] ﴿أوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِن جِنَّةٍ إنْ هو إلّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الأعراف: ١٨٤] ﴿أوَلَمْ يَنْظُرُوا في مَلَكُوتِ السَّماواتِ والأرْضِ وما خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وأنْ عَسى أنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أجَلُهم فَبِأيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: ١٨٥] ﴿مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ ويَذَرُهم في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الأعراف: ١٨٦] ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أيّانَ مُرْساها قُلْ إنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إلّا هو ثَقُلَتْ في السَّماواتِ والأرْضِ لا تَأْتِيكم إلّا بَغْتَةً يَسْألُونَكَ كَأنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ١٨٧] . النَّتْقُ الجَذْبُ بِشِدَّةٍ، وفَسَّرَهُ بَعْضُهم بِغايَتِهِ، وهو القَلْعُ، وتَقُولُ العَرَبُ: نَتَقْتُ الزُّبْدَةَ مِن فَمِ القِرْبَةِ، والنّاتِقُ الرَّحِمُ الَّتِي تُقْلِعُ الوَلَدَ مِنَ الرَّجُلِ. وقالَ النّابِغَةُ: ؎لَمْ يُحْرَمُوا حُسْنَ الفِداءِ وأُمُّهم طَفَحَتْ عَلَيْكَ بِناتِقٍ مِذْكارِ وفِي الحَدِيثِ ”«عَلَيْكم بِزَواجِ الأبْكارِ فَإنَّهُنَّ أنْتَقُ أرْحامًا وأطْيَبُ أفْواهًا وأرْضى بِاليَسِيرِ» . الِانْسِلاخُ (p-٤١٩)التَّعَرِّي مِنَ الشَّيْءِ حَتّى لا يَعْلَقَ بِهِ مِنهُ شَيْءٌ، ومِنهُ انْسَلَخَتِ الحَيَّةُ مِن جِلْدِها. الكَلْبُ حَيَوانٌ مَعْرُوفٌ ويُجْمَعُ في القِلَّةِ عَلى أكْلُبٍ، وفي الكَثْرَةِ عَلى كِلابٍ، وشَذُّوا في هَذا الجَمْعِ فَجَمَعُوهُ بِالألِفِ والتّاءِ، فَقالُوا: كِلاباتٌ، وتَقَدَّمَتْ هَذِهِ المادَّةُ في: مُكَلِّبِينَ وكَرَّرْناها لِزِيادَةِ فائِدَةٍ، لَهَثَ الكَلْبُ يَلْهَثُ بِفَتْحِ الهاءَيْنِ ماضِيًا ومُضارِعًا، والمَصْدَرُ لَهْثًا ولُهْثًا بِالضَّمِّ: أخْرَجَ لِسانَهُ وهي حالَةٌ لَهُ في التَّعَبِ والرّاحَةِ والعَطَشِ والرِّيِّ بِخِلافِ غَيْرِهِ مِنَ الحَيَوانِ فَإنَّهُ لا يَلْهَثُ إلّا مِن إعْياءٍ وعَطَشٍ، لَحَدَ وألْحَدَ لُغَتانِ، قِيلَ: بِمَعْنًى واحِدٍ هو العُدُولُ عَنِ الحَقِّ والإدْخالُ فِيهِ ما لَيْسَ مِنهُ، قالَهُ ابْنُ السِّكِّيتِ، وقالَ غَيْرُهُ: العُدُولُ عَنِ الِاسْتِقامَةِ، والرُّباعِيُّ أشْهَرُ في الِاسْتِعْمالِ مِنَ الثُّلاثِيِّ، وقالَ الشّاعِرُ: ؎لَيْسَ الأمِيرُ بِالشَّحِيحِ المُلْحِدِ ومِنهُ لَحَدَ القَبْرَ، وهو المَيْلُ إلى أحَدِ شِقَّيْهِ، ومِن كَلامِهِمْ ما فَعَلَ الواحِدُ قالُوا: لَحَدَهُ اللّاحِدُ؛ وقِيلَ: ألْحَدَ بِمَعْنى مالَ وانْحَرَفَ، ولَحَدَ بِمَعْنى رَكَنَ وانْضَوى، قالَهُ الكِسائِيُّ، مَتُنَ مَتانَةً: اشْتَدَّ وقَوِيَ، أيّانَ: ظَرْفُ زَمانٍ مَبْنِيٌّ لا يَتَصَرَّفُ، وأكْثَرُ اسْتِعْمالِهِ في الِاسْتِفْهامِ، ويَلِيهِ الِاسْمُ مَرْفُوعًا بِالِابْتِداءِ، والفِعْلُ المُضارِعُ لا الماضِي بِخِلافِ مَتى فَإنَّهُما يَلِيانِهِ، قالَ تَعالى: أيّانَ يُبْعَثُونَ و: أيّانَ مُرْساها قالَ الشّاعِرُ: ؎أيّانَ تَقْضِي حاجَتِي أيّانا ∗∗∗ أما تَرى لِفِعْلِها إبّانا وتُسْتَعْمَلُ في الجَزاءِ فَتَجْزِمُ المُضارِعَيْنِ، وذَلِكَ قَلِيلٌ فِيها، ولَمْ يَحْفَظْ سِيبَوَيْهِ لَكِنْ حَفِظَهُ غَيْرُهُ، وأنْشَدُوا قَوْلَ الشّاعِرِ: ؎إذا النَّعْجَةُ العَجْفاءُ باتَتْ بِقَفْرَةٍ ∗∗∗ فَأيّانَ ما تَعْدِلْ بِها الرِّيحُ تَنْزِلِ وقالَ غَيْرُهُ: ؎أيّانَ نُؤْمِنكَ تَأْمَن غَيْرَنا وإذا ∗∗∗ لَمْ تُدْرِكِ الأمْنَ مِنّا لَمْ تَزَلْ حَذِرا وكَسْرُ فَتْحَةِ هَمْزَتِها لُغَةُ سُلَيْمٍ، وهي عِنْدِي حَرْفٌ بَسِيطٌ لا مُرَكَّبٌ، وجامِدٌ لا مُشْتَقٌّ، وذَكَرَ صاحِبُ كِتابِ اللَّوامِحِ أنَّ أيّانَ في الأصْلِ كانَ: أيَّ أوانٍ، فَلَمّا كَثُرَ دَوْرُهُ حُذِفَتِ الهَمْزَةُ عَلى غَيْرِ قِياسٍ ولا عِوَضٍ وقُلِبَتِ الواوُ ياءً، فاجْتَمَعَتْ ثَلاثُ ياءاتٍ فَحُذِفَتْ إحْداها، فَصارَتْ عَلى ما رَأيْتَ، انْتَهى، وزَعَمَ أبُو الفَتْحِ أنَّهُ فَعْلانٌ وفَعْلالٌ مُشْتَقٌّ مِن أيٍّ: ومَعْناهُ: أيُّ وقْتٍ، وأيُّ فِعْلٍ، مِن أوَيْتُ إلَيْهِ؛ لِأنَّ البَعْضَ آوٍ إلى الكُلِّ مُتَسانِدٌ إلَيْهِ، وامْتَنَعَ أنْ يَكُونَ فَعالًا وفَعّالًا مِن أيْنَ؛ لِأنَّ أيّانَ ظَرْفُ زَمانٍ، وأيْنَ ظَرْفُ مَكانٍ، فَأوْجَبَ ذَلِكَ أنْ يَكُونَ مِن لَفْظِ أيٍّ لِزِيادَةِ النُّونِ؛ ولِأنَّ أيّانَ اسْتِفْهامٌ، كَما أنَّ أيًّا كَذَلِكَ، والأصْلُ عَدَمُ التَّرْكِيبِ، وفي أسْماءِ الِاسْتِفْهامِ والشَّرْطِ الجُمُودُ كَمَتى وحَيْثُما وأنّى وإذا، رَسا يَرْسُو ثَبَتَ. الحَفِيُّ المُسْتَقْصِي لِلشَّيْءِ المُحْتَفِلُ بِهِ المُعْتَنِي، وفُلانٌ حَفِيٌّ بِي بارٌّ مُعْتَنٍ. وقالَ الشّاعِرُ: ؎فَلَمّا التَقَيْنا بَيَّنَ السَّيْفُ بَيْنَنا ∗∗∗ لِسائِلَةٍ عَنّا حَفِيٌّ سُؤالُها وقالَ آخَرُ: ؎سُؤالُ حَفِيٍّ عَنْ أخِيهِ كَأنَّهُ ∗∗∗ بِذِكْرَتِهِ وسْنانُ أوْ مُتَواسِنُ والإحْفاءُ الِاسْتِقْصاءُ، ومِنهُ إحْفاءُ الشّارِبِ، والحافِي، أيْ: حَفِيَتْ قَدَمَيْهِ لِلِاسْتِقْصاءِ في السَّيْرِ، والحَفاوَةُ: البِرُّ واللُّطْفُ. ﴿وإذْ نَتَقْنا الجَبَلَ فَوْقَهم كَأنَّهُ ظُلَّةٌ وظَنُّوا أنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ﴾، أيْ: جَذَبْنا الجَبَلَ بِشِدَّةٍ، وفَوْقَهم حالٌ مُقَدَّرَةٌ والعامِلُ فِيها مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: كائِنًا فَوْقَهم؛ إذْ كانَتْ حالَةُ النَّتْقِ لَمْ تُقارِنِ الفَوْقِيَّةَ، لَكِنَّهُ صارَ فَوْقَهم، وقالَ الحَوْفِيُّ وأبُو البَقاءِ: فَوْقَهم ظَرْفٌ لِنَتَقْنا، ولا يُمْكِنُ ذَلِكَ إلّا إنْ ضُمِّنَ نَتَقْنا مَعْنى فِعْلٍ يُمْكِنُ أنْ يَعْمَلَ في فَوْقَهم، أيْ: رَفَعْنا بِالنَّتْقِ الجَبَلَ فَوْقَهم فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: ﴿ورَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ﴾ [النساء: ١٥٤] والجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: كَأنَّهُ ظُلَّةٌ في مَوْضِعِ الحالِ، والمَعْنى: كَأنَّهُ عَلَيْهِمْ ظُلَّةٌ، والظُّلَّةُ ما أظَلَّ مِن (p-٤٢٠)سَقِيفَةٍ أوْ سَحابٍ، ويَنْبَغِي أنْ يُحْمَلَ التَّشْبِيهُ عَلى أنَّهُ بِظُلَّةٍ مَخْصُوصَةٍ؛ لِأنَّهُ إذا كانَ كُلُّ ما أظَلُّ يُسَمّى ظُلَّةً فالجَبَلُ فَوْقَهم صارَ ظُلَّةً، وإذا صارَ ظُلَّةً فَكَيْفَ يُشَبَّهُ بِظُلَّةٍ ؟ فالمَعْنى - واللَّهُ أعْلَمُ -، كَأنَّهُ حالَةَ ارْتِفاعِهِ عَلَيْهِمْ ظُلَّةٌ مِنَ الغَمامِ، وهي الظُّلَّةُ الَّتِي لَيْسَتْ تَحْتَها عَمَدٌ، بَلْ إمْساكُها بِالقُدْرَةِ الإلَهِيَّةِ، وإنْ كانَتْ أجْرامًا بِخِلافِ الظُّلَّةِ الأرْضِيَّةِ، فَإنَّها لا تَكُونُ إلّا عَلى عَمَدٍ، فَلَمّا دانَتْ هَذِهِ الظُّلْمَةُ الأرْضِيَّةُ فَوْقَهم بِلا عَمَدٍ شُبِّهَتْ بِظُلَّةِ الغَمامِ الَّتِي لَيْسَتْ بِلا عَمَدٍ؛ وقِيلَ: اعْتادَ البَشَرُ هَذِهِ الأجْرامَ الأرْضِيَّةَ ظُلَلًا؛ إذْ كانَتْ عَلى عَمَدٍ، فَلَمّا كانَ الجَبَلُ مُرْتَفِعًا عَلى غَيْرِ عَمَدٍ قِيلَ: كَأنَّهُ ظُلَّةٌ، أيْ: كَأنَّهُ عَلى عَمَدٍ، وقُرِئَ طُلَّةٌ بِالطّاءِ مِن أطَلَّ عَلَيْهِ؛ إذا أشْرَفَ وظَنُّوا هُنا باقِيَةٌ عَلى بابِها مِن تَرْجِيحِ أحَدِ الجائِزَيْنِ، وقالَ المُفَسِّرُونَ: مَعْناهُ أيْقَنُوا، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلِمُوا، ولَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هو غَلَبَةُ ظَنٍّ مَعَ بَقاءِ الرَّجاءِ، إلّا إنْ قَيَّدَ ذَلِكَ بِقَيْدِ أنْ لا يَعْقِلُوا التَّوْراةَ، فَإنَّهُ يَكُونُ بِمَعْنى الإتْقانِ، وتَقَدَّمَ ذِكْرُ سَبَبِ رَفْعِ الجَبَلِ فَوْقَهم في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ورَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ في البَقَرَةِ فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ، وقَدْ كَرَّرَهُ المُفَسِّرُونَ هَنا الزَّمَخْشَرِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ وغَيْرُهُما، وذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنا عِنْدَ ذِكْرِ السَّبَبِ أنَّهُ لَمّا نَشَرَ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - الألْواحَ وفِيها كِتابُ اللَّهِ تَعالى لَمْ يَبْقَ شَجَرٌ، ولا جَبَلٌ ولا حَجَرٌ إلّا اهْتَزَّ، فَلِذَلِكَ لا تَرى يَهُودِيًّا يَقْرَأُ التَّوْراةَ إلّا اهْتَزَّ وأنْغَضَ لَها رَأْسَهُ، انْتَهى، وقَدْ سَرَتْ هَذِهِ النَّزْعَةُ إلى أوْلادِ المُسْلِمِينَ فِيما رَأيْتُ بِدِيارِ مِصْرَ تَراهم في المَكْتَبِ إذا قَرَأُوا القُرْآنَ يَهْتَزُّونَ ويُحَرِّكُونَ رُءُوسَهم، وأمّا في بِلادِنا بِالأنْدَلُسِ والغَرْبِ فَلَوْ تَحَرَّكَ صَغِيرٌ عِنْدَ قِراءَةِ القُرْآنِ أدَّبَهُ مُؤَدِّبُ المَكْتَبِ، وقالَ لَهُ: لا تَتَحَرَّكْ فَتُشْبِهِ اليَهُودَ في الدِّراسَةِ. * * * ﴿خُذُوا ما آتَيْناكم بِقُوَّةٍ واذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكم تَتَّقُونَ﴾ قَرَأ الأعْمَشُ: واذَّكَّرُوا، بِالتَّشْدِيدِ مِنَ الِاذِّكارِ، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: وتَذْكُرُوا، وقُرِئَ: وتَذَكَّرُوا، بِالتَّشْدِيدِ، بِمَعْنى: وتَذَّكَّرُوا، وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الجُمَلِ في البَقَرَةِ. ﴿وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهم وأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكم قالُوا بَلى﴾ رُوِيَ في الحَدِيثِ مِن طُرُقٍ: «أخَذَ مِن ظَهْرِ آدَمَ ذَرِّيَّتَهُ، وأخَذَ عَلَيْهِمُ العَهْدَ بِأنَّهُ رَبُّهم وأنْ لا إلَهَ غَيْرُهُ، فَأقَرُّوا بِذَلِكَ والتَزَمُوهُ»، واخْتَلَفُوا في كَيْفِيَّةِ الإخْراجِ وهَيْئَةِ المَخْرَجِ والمَكانِ والزَّمانِ، وتَقْرِيرُ هَذِهِ الأشْياءِ مَحَلُّها ذَلِكَ الحَدِيثُ والكَلامُ عَلَيْهِ، وظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ يُنافِي ظاهِرَ ذَلِكَ الحَدِيثِ، ولا تَلْتَئِمُ ألْفاظُهُ مَعَ لَفْظِ الآيَةِ، وقَدْ رامَ الجَمْعَ بَيْنَ الآيَةِ والحَدِيثِ جَماعَةٌ بِما هو مُتَكَلَّفٌ في التَّأْوِيلِ، وأحْسَنُ ما تُكُلِّمَ بِهِ عَلى هَذِهِ الآيَةِ ما فَسَّرَهُ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، قالَ: مِن بابِ التَّمْثِيلِ والتَّخْيِيلِ، ومَعْنى ذَلِكَ أنَّهُ تَعالى نَصَبَ لَهُمُ الأدِلَّةَ عَلى رُبُوبِيَّتِهِ ووَحْدانِيَّتِهِ، وشَهِدَتْ بِها عُقُولُهم وبَصائِرُهُمُ الَّتِي رَكَّبَها فِيهِمْ وجَعَلَها مُمَيِّزَةً بَيْنَ الضَّلالَةِ والهُدى، فَكَأنَّهُ سُبْحانَهُ أشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ وقَرَّرَهم، وقالَ: ﴿ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾، وكَأنَّهم قالُوا: بَلى أنْتَ رَبُّنا شَهِدْنا عَلى أنْفُسِنا وأقْرَرْنا لِوَحْدانِيَّتِكَ، وبابُ التَّمْثِيلِ واسِعٌ في كَلامِ اللَّهِ تَعالى ورَسُولِهِ وفي كَلامِ العَرَبِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ: إنَّما ﴿قَوْلُنا لِشَيْءٍ إذا أرَدْناهُ أنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النحل: ٤٠]، ﴿فَقالَ لَها ولِلْأرْضِ اِئْتِيا طَوْعًا أوْ كَرْهًا قالَتا أتَيْنا طائِعِينَ﴾ [فصلت: ١١]، وقَوْلُ الشّاعِرِ:(p-٤٢١) ؎إذا قالَتِ الأنْساعُ لِلْبَطْنِ الحَقِي تَقُولُ لَهُ رِيحُ الصِّبا قِرْقارُ ومَعْلُومٌ أنَّهُ لا قَوْلَ ثَمَّ، وإنَّما هو تَمْثِيلٌ وتَصْوِيرٌ لِلْمَعْنى، وأنْ تَقُولُوا مَفْعُولٌ لَهُ، أيْ: فَعَلْنا ذَلِكَ مِن نَصْبِ الأدِلَّةِ الشّاهِدَةِ عَلى صِحَّتِها العُقُولُ كَراهَةَ أنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيامَةِ، وتَقْدِيرُهُ: إنّا كُنّا عَنْ هَذا غافِلِينَ لَمْ نُنَبَّهْ عَلَيْهِ، أوْ كَراهَةَ أنْ تَقُولُوا إنَّما أشْرَكَ آباؤُنا مِن قَبْلُ وكُنّا ذُرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ فاقْتَدَيْنا بِهِمْ؛ لِأنَّ نَصْبَ الأدِلَّةِ عَلى التَّوْحِيدِ وما نُبِّهُوا عَلَيْهِ قائِمٌ مَعَهم، فَلا عُذْرَ لَهم في الإعْراضِ عَنْهُ والإقْبالِ عَلى التَّقْلِيدِ والِاقْتِداءِ بِالآباءِ، كَما لا عُذْرَ لِآبائِهِمْ في الشِّرْكِ وأدِلَّةُ التَّوْحِيدِ مَنصُوبَةٌ لَهم، (فَإنْ قُلْتَ): بَنُو آدَمَ وذُرِّيّاتُهم مَن هم، قُلْتُ: عَنِيَ بِبَنِي آدَمَ أسْلافَ اليَهُودِ الَّذِينَ أشْرَكُوا بِاللَّهِ تَعالى حَيْثُ قالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وبِذُرِّيّاتِهِمُ الَّذِينَ كانُوا في عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ مِن أخْلافِهِمُ المُقْتَدِينَ بِآبائِهِمْ، والدَّلِيلُ عَلى أنَّها في المُشْرِكِينَ وأوْلادِهِمْ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوْ تَقُولُوا إنَّما أشْرَكَ آباؤُنا مِن قَبْلُ﴾ والدَّلِيلُ عَلى أنَّها في اليَهُودِ الآياتُ الَّتِي عُطِفَتْ عَلَيْها هي، والَّتِي عُطِفَتْ عَلَيْها وهي عَلى نَمَطِها وأُسْلُوبِها، وذَلِكَ عَلى قَوْلِهِ: ﴿واسْألْهم عَنِ القَرْيَةِ﴾ [الأعراف: ١٦٣] ﴿وإذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنهُمْ﴾ [الأعراف: ١٦٤] ﴿وإذْ تَأذَّنَ رَبُّكَ﴾ [الأعراف: ١٦٧] ﴿وإذْ نَتَقْنا الجَبَلَ فَوْقَهُمْ﴾ ﴿واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا﴾ [الأعراف: ١٧٥]، انْتَهى كَلامُ الزَّمَخْشَرِيِّ، وهو بَسْطُ كَلامِ مَن تَقَدَّمَهُ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قالَ قَوْمٌ: الآيَةُ مُشِيرَةٌ إلى هَذا التَّأْوِيلِ الَّذِي في الدُّنْيا، وأخَذَ بِمَعْنى أوْجَدَ وأنَّ الإشْهادَيْنِ عِنْدَ بُلُوغِ المُكَلَّفِ، وهو قَدْ أُعْطِيَ الفَهْمَ ونُصِبَتْ لَهُ الصِّفَةُ الدّالَّةُ عَلى الصّانِعِ، ونَحا لَها الزَّجّاجُ، وهو مَعْنًى تَحْتَمِلُهُ الألْفاظُ، انْتَهى، والقَوْلُ بِظاهِرِ الحَدِيثِ يُطْرِقُ إلى القَوْلِ بِالتَّناسُخِ فَيَجِبُ تَأْوِيلُهُ، ومَفْعُولُ أخَذَ ذُرِّيّاتِهِمْ، قالَهُ الحَوْفِيُّ: ويُحْتَمَلُ في قِراءَةِ الجَمِيعِ أنْ يَكُونَ مَفْعُولُ أخَذَ مَحْذُوفًا لِفَهْمِ المَعْنى، وذُرِّيّاتِهِمْ بَدَلٌ مِن ضَمِيرِ ظُهُورِهِمْ، كَما أنَّ مِن ظُهُورِهِمْ بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ: بَنِي آدَمَ، والمَفْعُولُ المَحْذُوفُ هو المِيثاقُ، كَما قالَ: ﴿وأخَذْنا مِنهم مِيثاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: ١٥٤]، ﴿وإذْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إلّا اللَّهَ﴾ [البقرة: ٨٣] وتَقْدِيرُ الكَلامِ: وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن ظُهُورِ ذُرِّيّاتِ بَنِي آدَمَ مِيثاقَ التَّوْحِيدِ لِلَّهِ وإفْرادِهِ بِالعِبادَةِ، واسْتَعارَ أنْ يَكُونَ أُخِذَ المِيثاقُ مِنَ الظَّهْرِ، كَأنَّ المِيثاقَ لِصُعُوبَتِهِ ولِلِارْتِباطِ بِهِ والوُقُوفِ عِنْدَهُ شَيْءٌ ثَقِيلٌ يُحْمَلُ عَلى الظَّهْرِ، وهَذا مِن تَمْثِيلِ المَعْنى بِالجَزْمِ، وأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ بِما نَصَبَ لَهم مِنَ الأدِلَّةِ قائِلًا: ألَسْتُ بِرَبِّكم، قالُوا: بَلى، وقَرَأ العَرَبِيّانِ ونافِعٌ: ذُرِّيّاتِهِمْ، بِالجَمْعِ، وتَقَدَّمَ إعْرابُهُ، وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ: ذَرِّيَّتَهم، مُفْرَدًا بِفَتْحِ التّاءِ، ويَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِأخَذَ، وهو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: مِيثاقَ ذُرِّيّاتِهِمْ، وإنَّما كانَ أخَذَ المِيثاقَ مِن ذُرِّيَّةِ بَنِي آدَمَ؛ لِأنَّ بَنِي آدَمَ لِصُلْبِهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُشْرِكٌ، وإنَّما حَدَثَ الإشْراكُ في ذُرِّيَّتِهِمْ. شَهِدْنا أنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيامَةِ إنّا كُنّا عَنْ هَذا غافِلِينَ، أيْ: قالَ اللَّهُ: شَهِدْنا عَلَيْكم، أوْ قالَ اللَّهُ والمَلائِكَةُ، قالَهُ السُّدِّيُّ، أوْ قالَتِ المَلائِكَةُ، أوْ شَهِدَ بَعْضُهم عَلى بَعْضِ أقْوالٍ، ومَعْنى“ عَنْ هَذا " عَنْ هَذا المِيثاقِ والإقْرارِ بِالرُّبُوبِيَّةِ. ﴿أوْ تَقُولُوا إنَّما أشْرَكَ آباؤُنا مِن قَبْلُ وكُنّا ذُرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ﴾ المَعْنى أنَّ الكَفَرَةَ لَوْ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ عَهْدٌ، ولا جاءَهم رَسُولٌ مُذَكِّرٌ بِما تَضَمَّنَهُ العَهْدُ مِن تَوْحِيدِ اللَّهِ وعِبادَتِهِ لَكانَتْ لَهم حُجَّتانِ، إحْداهُما: كُنّا غافِلِينَ، والأُخْرى: كُنّا أتْباعًا لِأسْلافِنا، فَكَيْفَ نَهْلِكُ والذَّنْبُ إنَّما هو لِمَن طَرَقَ لَنا وأضَلَّنا ؟ فَوَقَعَتِ الشَّهادَةُ لِتَنْقَطِعَ عَنْهُمُ الحُجَجُ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو: أنْ يَقُولُوا، بِالياءِ عَلى الغَيْبَةِ، وباقِي السَّبْعَةِ بِالتّاءِ عَلى الخِطابِ. ﴿أفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ المُبْطِلُونَ﴾ هَذا مِن تَمامِ القَوْلِ الثّانِي، أيْ: كانُوا السَّبَبَ في شِرْكِنا لِتَأْسِيسِهِمُ الشِّرْكَ وتَقَدُّمِهِمْ فِيهِ وتَرْكِهِ سُنَّةً لَنا، والمَعْنى أنَّهُ تَعالى أزالَ عَنْهُمُ الِاحْتِجاجَ بِتَرْكِيبِ العُقُولِ فِيهِمْ وتَذْكِيرِهِمْ بِبَعْثَةِ الرُّسُلِ إلَيْهِمْ، فَقَطَعَ بِذَلِكَ أعْذارَهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب