الباحث القرآني

﴿فَلَمّا عَتَوْا عَمّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهم كُونُوا قِرَدَةً خَـاسِئِينَ﴾ . أيِ اسْتَعْصَوْا والعُتُوُّ الِاسْتِعْصاءُ والتَّأبِّي في الشَّيْءِ، وباقِي الآيَةِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ في البَقَرَةِ، والظّاهِرُ أنَّ العَذابَ والمَسْخَ والهَلاكَ إنَّما وقَعَ بِالمُعْتَدِينَ في السَّبْتِ، والأُمَّةُ القائِلَةُ: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا﴾ [الأعراف: ١٦٤] هم مِن فَرِيقِ النّاهِينَ النّاجِينَ، وإنَّما سَألُوا إخْوانَهم عَنْ عِلَّةِ وعْظِهِمْ وهو لا يُجْدِي فِيهِمْ شَيْئًا البَتَّةَ إذِ اللَّهُ مُهْلِكُهم أوْ مُعَذِّبُهم، فَيَصِيرُ الوَعْظُ إذْ ذاكَ كالبَعْثِ كَوَعْظِ المِكاسَيْنِ فَإنَّهم يَسْخَرُونَ بِمَن يَعِظُهم، وكَثِيرٌ ما يُؤَدِّي إلى تَنْكِيلِ الواعِظِ، وعَلى قَوْلِ مَن زَعَمَ أنَّ الأُمَّةَ القائِلَةَ: لِمَ تَعِظُونَ هُمُ العُصاةُ، قالُوا ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِهْزاءِ أيْ تَزْعُمُونَ أنَّ اللَّهَ مُهْلِكُهم أوْ مُعَذِّبُهم، تَكُونُ هَذِهِ الأُمَّةُ مِنَ الهالِكِينَ المَمْسُوخِينَ، والظّاهِرُ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا عَتَوْا﴾ أنَّهم أوَّلًا أُخِذُوا بِالعَذابِ حِينَ نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ، ثُمَّ لَمّا عَتَوْا مُسِخُوا، وقِيلَ: فَلَمّا عَتَوْا تَكْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: فَلَمّا نَسُوا، والعَذابُ البَئِيسُ هو المَسْخُ. وإذْ تَأذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمٍ القِيَـامَةِ مَن يَسُومُهم سُوءَ العَذابِ. لَمّا ذَكَرَ تَعالى قُبْحَ فِعالِهِمْ واسْتِعْصاءَهم أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالذُّلِّ والصَّغارِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ: تَأذَّنَ أعْلَمَ مِنَ الأذانِ، وهو الإعْلامُ، قالَهُ الحَسَنُ وابْنُ قُتَيْبَةَ واخْتارَهُ الزَّجّاجُ وأبُو عَلِيٍّ، وقالَ عَطاءٌ: تَأذَّنَ حَتَمَ، (p-٤١٤)وقالَ قُطْرُبٌ: وعَدَ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: أخْبَرَ، وهو راجِعٌ لِمَعْنى أعْلَمَ، وقالَ مُجاهِدٌ: أمَرَ، وعَنْهُ قالَ: وقِيلَ: أقْسَمَ، ورُوِيَ عَنِ الزَّجّاجِ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَأذَّنَ عَزَمَ، رَبُّكَ وهو تَفَعَّلَ مِنَ الإيذانِ، وهو الإعْلامُ؛ لِأنَّ العازِمَ عَلى الأمْرِ يُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَهُ ويُؤْذِنُها بِفِعْلِهِ، وأُجْرِيَ مَجْرى فِعْلِ القَسَمِ كَعَلِمَ اللَّهُ وشَهِدَ اللَّهُ، ولِذَلِكَ أُجِيبَ بِما يُجابُ بِهِ القَسَمُ، وهو قَوْلُهُ: لَيَبْعَثَنَّ، والمَعْنى: وإذْ حَتَّمَ رَبُّكَ وكَتَبَ عَلى نَفْسِهِ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِنْيَةُ: تَأذَّنَ هي الَّتِي تَقْتَضِي التَّكَسُّبَ، مِن أذِنَ أيْ عَلِمَ ومَكَنَ، فَإذا كانَ مُسْنَدًا إلى غَيْرِ اللَّهِ لَحِقَهُ مَعْنى التَّكَسُّبِ الَّذِي يَلْحَقُ المُحْدَثِينَ، وإلى اللَّهِ كانَ بِمَعْنى عَلِمِ صِفَةً لا مُكْتَسَبَةً بَلْ قائِمَةً بِالذّاتِ، فالمَعْنى: وإذْ عَلِمَ اللَّهُ، لَيَبْعَثَنَّ ويَقْتَضِي قُوَّةَ الكَلامِ أنَّ ذَلِكَ العِلْمَ مِنهُ مُقْتَرِنٌ بِإنْفاذٍ وإمْضاءٍ، كَما تَقُولُ في أمْرٍ قَدْ عَزَمْتَ عَلَيْهِ غايَةَ العَزْمِ: عَلِمَ اللَّهُ لَأبْعَثَنَّ كَذا، نَحا إلَيْهِ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ، وقالَ الطَّبَرِيُّ وغَيْرُهُ: تَأذَّنَ، مَعْناهُ أعْلَمَ، وهو قَلَقٌ مِن جِهَةِ التَّصْرِيفِ، إذْ نِسْبَةُ: تَأذَّنَ إلى الفاعِلِ غَيْرُ نِسْبَةِ أعْلَمَ، وبَيْنَ ذَلِكَ فَرْقٌ مِنَ التَّعَدِّي وغَيْرِهِ، انْتَهى، وفِيهِ بَعْضُ اخْتِصارٍ. وقالَ أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ: أعْلَمَ أنْبِياءَ بَنِي إسْرائِيلَ، لَيَبْعَثَنَّ لَيُرْسِلَنَّ ولَيُسَلِّطَنَّ؛ لِقَوْلِهِ: بَعَثْنا عَلَيْكم عِبادًا لَنا والضَّمِيرُ في: (عَلَيْهِمْ) عائِدٌ عَلى اليَهُودِ، قالَهُ الجُمْهُورُ أوْ: (عَلَيْهِمْ) وعَلى النَّصارى قالَهُ مُجاهِدٌ، وقِيلَ: نَسْلُ المَمْسُوخِينَ والَّذِينَ بَقُوا مِنهم، وقِيلَ: يَهُودُ خَيْبَرَ وقُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ، وعَلى هَذا تَرَتَّبَ الخِلافُ في مَن: يَسُومُهم، فَقِيلَ: بُخْتُنَصَّرَ ومَن أذَلَّهم بَعْدَهُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وقِيلَ: المَجُوسُ، كانَتِ اليَهُودُ تُؤَدِّي الجِزْيَةَ إلَيْهِمْ إلى أنْ بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ فَضَرَبَها عَلَيْهِمْ، فَلا تَزالُ مَضْرُوبَةً عَلَيْهِمْ إلى آخِرِ الدَّهْرِ، وقِيلَ: العَرَبُ، كانُوا يَجْبُونَ الخَراجَ مِنَ اليَهُودِ، قالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ، وقالَ السُّدِّيُّ: بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ العَرَبَ يَأْخُذُونَ مِنهُمُ الجِزْيَةَ ويَقْتُلُونَهم، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: المَبْعُوثُ عَلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ ﷺ وأُمَّتُهُ، ولَمْ يَجْبِ الخَراجَ نَبِيٌّ قَطُّ إلّا مُوسى، جَباهُ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً ثُمَّ أمْسَكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، وسُوءَ العَذابِ الجِزْيَةُ، أوِ الجِزْيَةُ والمَسْكَنَةُ، وكِلاهُما عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، أوِ القِتالُ حَتّى يُسْلِمُوا أوْ يُؤَدُّوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهم صاغِرُونَ، وقِيلَ: الإخْراجُ والإبْعادُ عَنِ الوَطَنِ، وذَلِكَ عَلى قَوْلِ مَن قالَ إنَّ الضَّمِيرَ في: (عَلَيْهِمْ) عائِدٌ عَلى أهْلِ خَيْبَرَ وقُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ، وهَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنْ لا دَوْلَةَ لِلْيَهُودِ ولا عِزَّ، وأنَّ الذُّلَّ والصَّغارَ فِيهِمْ لا يُفارِقُهم، ولَمّا كانَ خَبَرًا في زَمانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ وشاهَدْنا الأمْرَ كَذَلِكَ كانَ خَبَرًا عَنْ مَغِيبٍ صِدْقًا، فَكانَ مُعْجِزًا، وأمّا ما جاءَ في أتْباعِ الدَّجّالِ أنَّهم هُمُ اليَهُودُ، فَتَسْمِيَةً بِما كانُوا عَلَيْهِ إذْ هم في ذَلِكَ الوَقْتِ دانُوا بِإلَهِيَّةِ الدَّجّالِ فَلا تَعارُضَ بَيْنَ هَذا الخَبَرِ إنْ صَحَّ والآيَةِ، وفي كِتابِ ابْنِ عَطِيَّةَ: ولَقَدْ حُدِّثْتُ أنَّ طائِفَةً مِنَ الرُّومِ أمْلَقَتْ في صُقْعِها فَباعَتِ اليَهُودَ المُجاوِرَةَ لَهم وتَمَلَّكُوهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب