الباحث القرآني

﴿واكْتُبْ لَنا في هَذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ إنّا هُدْنا إلَيْكَ﴾ . أيْ: وأثْبِتْ لَنا عاقِبَةً وحَياةً طَيِّبَةً أوْ عَمَلًا صالِحًا يَسْتَعْقِبُ ثَناءً حَسَنًا في الدُّنْيا، وفي الآخِرَةِ الجَنَّةَ والرُّؤْيَةَ والثَّوابَ عَلى حَسَنَةِ الدُّنْيا، والأجْوَدُ حَمْلُ الحَسَنَةِ عَلى ما يَحْسُنُ مِن نِعْمَةٍ وطاعَةٍ وغَيْرِ ذَلِكَ، وحَسَنَةُ الآخِرَةِ الجَنَّةُ لا حَسَنَةَ دُونَها، وإنّا هَدْنا تَعْلِيلٌ لِطَلَبِ الغُفْرانِ والحَسَنَةِ وكَتْبُ الحَسَنَةِ أيْ: تُبْنا إلَيْكَ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وابْنُ جُبَيْرٍ وأبُو العالِيَةِ وقَتادَةُ والضَّحّاكُ والسُّدِّيُّ: مِن هادَ يَهُودُ، وقالَ ابْنُ بَحْرٍ: تَقَرَّبْنا بِالتَّوْبَةِ، وقِيلَ: مِلْنا. ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎قَدْ عَلِمَتْ سَلْمى وجاراتُها أنِّي مِنَ اللَّهِ لَها هائِدُ أيْ: مائِلٌ، وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وأبُو وجْزَةَ: هِدْنا بِكَسْرِ الهاءِ مِن هادَ يَهِيدُ إذا حَرَّكَ، أيْ حَرَّكْنا أنْفُسَنا وجَذَبْناها لِطاعَتِكَ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ فاعِلًا، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَفُعُولًا لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، أيْ حَرَّكْنا إلَيْكَ وأمَلْنا، والضَّمُّ في هُدْنا يَحْتَمِلُهُما، وتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الجُمَلُ كَوْنَهُ تَعالى هو رَبَّهم ووَلِيَّهم، وأنَّهم تائِبُونَ عَبِيدٌ لَهُ خاضِعُونَ فَناسَبَ عِزَّ الرُّبُوبِيَّةِ أنْ يَسْتَعْطِفَ لِلْعَبِيدِ التّائِبِينَ الخاضِعِينَ بِسُؤالِ المَغْفِرَةِ والرَّحْمَةِ والكَتْبِ. ﴿قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَن أشاءُ ورَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ . الظّاهِرُ أنَّهُ اسْتِئْنافُ إخْبارٍ عَنْ عَذابِهِ ورَحْمَتِهِ، ويَنْدَرِجُ في قَوْلِهِ: ﴿أُصِيبُ بِهِ مَن أشاءُ﴾ أصْحابُ الرَّجْفَةِ، وقِيلَ: العَذابُ هُنا هو الرَّجْفَةُ، ومَن أشاءُ: أصْحابُها، والمَعْنى أنَّهُ لا اعْتِراضَ عَلَيْهِ، أيْ مَن أشاءُ عَذابَهُ، وقِيلَ: مَن أشاءُ أنْ لا أعْفُوَ عَنْهُ، وقِيلَ: مَن أشاءُ مِن خَلْقِي كَما أصَبْتُ بِهِ قَوْمَكَ، وقِيلَ: مَن أشاءُ مِنَ الكُفّارِ، وقِيلَ: المَشِيئَةُ راجِعَةٌ إلى التَّعْجِيلِ والإمْهالِ لا إلى التَّرْكِ والإهْمالِ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِمَّنْ أشاءُ مَن وجَبَ عَلَيَّ في الحِكْمَةِ تَعْذِيبُهُ ولَمْ يَكُنْ في العَفْوِ عَنْهُ مَساغٌ لِكَوْنِهِ مَفْسَدَةً، انْتَهى، وهو عَلى طَرِيقَةِ المُعْتَزِلَةِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أُصِيبُ مَن أشاءُ عَلى الذَّنْبِ اليَسِيرِ، وقالَ أيْضًا: ﴿وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ مِن ذُنُوبِ المُؤْمِنِينَ، وقالَ أبُو رَوْقٍ هي التَّعاطُفُ بَيْنَ الخَلائِقِ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: هي التَّوْبَةُ عَلى العُمُومِ، وقالَ الحَسَنُ: هي في الدُّنْيا بِالرِّزْقِ عامَّةً وفي الآخِرَةِ بِالمُؤْمِنِينَ خاصَّةً، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وأمّا رَحْمَتِي فَمِن حالِها وصِفَتِها أنَّها واسِعَةٌ كُلَّ شَيْءٍ، ما مِن مُسْلِمٍ ولا كافِرٍ ولا مُطِيعٍ ولا عاصٍ، إلّا وهو مُتَقَلِّبٌ في نِعْمَتِي، انْتَهى، وهو (p-٤٠٢)بَسْطُ قَوْلِ الحَسَنِ: هي في الدُّنْيا بِالرِّزْقِ عامَّةً، وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ والحَسَنُ وطاوُسٌ وعَمْرُو بْنُ فائِدٍ: (مَن أساءَ) مِنَ الإساءَةِ، وقالَ أبُو عَمْرٍو الدّانِيُّ: لا تَصِحُّ هَذِهِ القِراءَةُ عَنِ الحَسَنِ وطاوُسٍ، وعَمْرُو بْنُ فائِدٍ رَجُلُ سُوءٍ، وقَرَأ بِها سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ مَرَّةً واسْتَحْسَنَها، فَقامَ إلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ المُقْرِي وصاحَ بِهِ وأسْمَعَهُ فَقالَ سُفْيانُ: لَمْ أدْرِ ولَمْ أفْطِنْ لِما يَقُولُ أهْلُ البِدَعِ، ولِلْمُعْتَزِلَةِ تَعَلُّقٌ بِهَذِهِ القِراءَةِ مِن جِهَةِ إنْفاذِ الوَعِيدِ، ومِن جِهَةِ خَلْقِ المَرْءِ أفْعالَهُ، وإنْ أساءَ لا فِعْلَ فِيهِ لِلَّهِ تَعالى، والِانْفِصالُ عَنْ هَذا كالِانْفِصالِ عَنْ سائِرِ الظَّواهِرِ. * * * ﴿فَسَأكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾ . أيْ أقْضِيها وأُقَدِّرُها، والضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى الرَّحْمَةِ لِأنَّها أقْرَبُ مَذْكُورٍ، ويُحْتَمَلُ عِنْدِي أنْ يَعُودَ عَلى حَسَنَةٍ في قَوْلِهِ: ﴿واكْتُبْ لَنا في هَذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ﴾ أيْ فَسَأكْتُبُ الحَسَنَةَ، وقالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ ونَوْفٌ الَبِكالِيُّ وقَتادَةُ وابْنُ جُرَيْجٍ، والمَعْنى مُتَقارِبٌ، لَمّا سَمِعَ إبْلِيسُ: ﴿ورَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ تَطاوَلَ لَها إبْلِيسُ، فَلَمّا سَمِعَ: ﴿فَسَأكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾ يَئِسَ، وبَقِيَتِ اليَهُودُ والنَّصارى، فَلَمّا تَمادَّتِ الصِّفَةُ تَبَيَّنَ أنَّ المُرادَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ، ويَئِسَ النَّصارى واليَهُودُ مِنَ الآيَةِ، وقالَ أهْلُ التَّفْسِيرِ: عَرَضَ اللَّهُ هَذِهِ الخِلالَ عَلى قَوْمِ مُوسى، فَلَمْ يَتَحَمَّلُوها ولَمّا انْطَلَقَ وفْدُ بَنِي إسْرائِيلَ إلى المِيقاتِ، قِيلَ لَهم: خُطَّتْ لَكُمُ الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا إلّا عِنْدَ مِرْحاضٍ أوْ قَبْرٍ أوْ حَمّامٍ، وجَعَلْتُ السَّكِينَةَ في قُلُوبِهِمْ، فَقالُوا: لا نَسْتَطِيعُ فاجْعَلِ السَّكِينَةَ في التّابُوتِ، والصَّلاةَ في الكَنِيسَةِ، ولا نَقْرَأُ التَّوْراةَ إلّا عَنْ نَظَرٍ، ولا نُصَلِّي إلّا في الكَنِيسَةِ، فَقالَ اللَّهُ تَعالى: فَسَأكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ مِن أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وقالَ نَوْفٌ الَبِكالِيُّ: إنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: يا رَبِّ جَعَلْتَ وِفادَتِي لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ، قالَ نَوْفٌ: فاحْمَدُوا اللَّهَ الَّذِي جَعَلَ وِفادَةَ بَنِي إسْرائِيلَ لَكم، ومَعْنى يَتَّقُونَ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وفِرْقَةٌ: الشِّرْكَ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: المَعاصِيَ، فَمَن قالَ الشِّرْكَ لا غَيْرُ، خَرَجَ إلى قَوْلِ المُرْجِئَةِ، ويَرُدُّ عَلَيْهِ مِنَ الآيَةِ شَرْطُ الأعْمالِ بِقَوْلِهِ: ﴿ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾، ومَن قالَ: المَعاصِيَ ولا بُدَّ خَرَجَ إلى قَوْلِ المُعْتَزِلَةِ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والصَّوابُ أنْ تَكُونَ اللَّفْظَةُ عامَّةً، ولَكِنْ لا نَقُولُ: لا بُدَّ مِنِ اتِّقاءِ المَعاصِي، بَلْ نَقُولُ: مَواقِعُ المَعاصِي في المَشِيئَةِ، ومَعْنى يَتَّقُونَ يَجْعَلُونَ بَيْنَهم وبَيْنَ المُتَّقى حِجابًا ووِقايَةً، فَذَكَرَ تَعالى الرُّتْبَةَ العالِيَةَ لِيَتَسابَقَ السّامِعُونَ إلَيْها، انْتَهى، ﴿ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾: الظّاهِرُ أنَّها زَكاةُ المالِ وبِهِ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ورُوِيَ عَنْهُ: ويُؤْتُونَ الأعْمالَ الَّتِي يُزَكُّونَ بِها أنْفُسَهم، وقالَ الحَسَنُ: تَزْكِيَةُ الأعْمالِ بِالإخْلاصِ، انْتَهى، ولَمّا كانَتِ التَّكالِيفُ تَرْجِعُ إلى قِسْمَيْنِ: تُرُوكٌ وأفْعالٌ، والأفْعالُ قِسْمانِ: راجِعَةٌ إلى المالِ وراجِعَةٌ إلى نَفْسِ الإنْسانِ، وهَذانِ قِسْمانِ: عِلْمٌ وعَمَلٌ، فالعِلْمُ المَعْرِفَةُ، والعَمَلُ إقْرارٌ بِاللِّسانِ، وعَمَلٌ بِالأرْكانِ، فَأشارَ بِالِاتِّقاءِ إلى التُّرُوكِ، وبِالفِعْلِ الرّاجِحِ إلى المالِ بِالزَّكاةِ، وأشارَ إلى ما بَقِيَ بِقَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ هم بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ﴾ وهَذِهِ شَبِيهَةٌ بِقَوْلِهِ ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ [البقرة: ٢] الآيَةَ، وفَهِمَ المُفَسِّرُونَ مِن قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: ٦٩] إلى آخِرِ الأوْصافِ إنَّ المُتَّصِفِينَ بِذَلِكَ هم أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن بابِ التَّغايُرِ بَيْنَ المَعْطُوفِ والمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَيَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾ لِمَن فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ الرَّسُولِ، ويَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ هم بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ﴾ مَن فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ البَعْثَةِ، وفَسَّرَ الآياتِ هُنا بِأنَّها القُرْآنُ، وهو الكِتابُ المُعْجِزُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب