الباحث القرآني

﴿واخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا﴾ (اخْتارَ) افْتَعَلَ مِنَ الخَيْرِ، وهو التَّخَيُّرُ والِانْتِقاءُ: واخْتارَ مِنَ الأفْعالِ الَّتِي تَعَدَّتْ إلى اثْنَيْنِ أحَدِهِما بِنَفْسِهِ والآخَرِ بِوَساطَةِ حَرْفِ الجَرِّ، وهي مَقْصُورَةٌ عَلى السَّماعِ، وهي: اخْتارَ واسْتَغْفَرَ وأمَرَ وكَنّى ودَعا وزَوَّجَ وصَدَقَ، ثُمَّ يُحْذَفُ حَرْفُ الجَرِّ ويَتَعَدّى إلَيْهِ الفِعْلُ فَيَقُولُ: اخْتَرْتُ زَيْدًا مِنَ الرِّجالِ، واخْتَرْتُ زَيْدًا الرِّجالَ. قالَ الشّاعِرُ: ؎اخْتَرْتُكَ النّاسَ إذْ رَثَّتْ خَلائِقُهم واعْتَلَّ مَن كانَ يُرْجى عِنْدَهُ السُّولُ (p-٣٩٩)أيِ اخْتَرْتُكَ مِنَ النّاسِ و: سَبْعِينَ هو المَفْعُولُ الأوَّلُ، و: قَوْمَهُ هو المَفْعُولُ الثّانِي، وتَقْدِيرُهُ: مِن قَوْمِهِ ومَن أعْرَبَ: قَوْمَهُ مَفْعُولًا أوَّلَ، وسَبْعِينَ بِدَلًا مِنهُ بَدَلَ بَعْضٍ مِن كُلٍّ وحَذَفَ الضَّمِيرَ، أيْ: سَبْعِينَ رَجُلًا مِنهُمُ احْتاجَ إلى تَقْدِيرِ مَفْعُولٍ ثانٍ، وهو المُخْتارُ مِنهُ، فَإعْرابُهُ فِيهِ بُعْدٌ وتَكَلُّفُ حَذْفٍ في رابِطِ البَدَلِ وفي المُخْتارِ مِنهُ، واخْتَلَفُوا في هَذا المِيقاتِ: أهُوَ مِيقاتُ المُناجاةِ ونُزُولِ التَّوْراةِ أوْ غَيْرُهُ ؟ فَقالَ نَوْفٌ الَبِكالِيُّ ورَواهُ أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وهو الأوَّلُ بَيَّنَ فِيهِ بَعْضَ ما جَرى مِن أحْوالِهِ وأنَّهُ اخْتارَ مِن كُلِّ سِبْطٍ سِتَّةَ رِجالٍ فَكانُوا اثْنَيْنِ وسَبْعِينَ، فَقالَ لِيَتَخَلَّفِ اثْنانِ: فَإنَّما أُمِرْتُ بِسَبْعِينَ فَتَشاحُّوا، فَقالَ: مَن قَعَدَ فَلَهُ أجْرُ مَن حَضَرَ، فَقَعَدَ كالِبُ بْنُ يُوقِنا، ويُوشَعُ بْنُ نُونٍ، واسْتَصْحَبَ السَبْعِينَ بَعْدَ أنْ أمَرَهم أنْ يَصُومُوا ويَتَطَهَّرُوا ويُطَهِّرُوا ثِيابَهم، ثُمَّ خَرَجَ بِهِمْ إلى طُورِ سَيْناءَ لِمِيقاتِ رَبِّهِ، وكانَ أمَرَهُ رَبُّهُ أنْ يَأْتِيَهُ في سَبْعِينَ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، فَلَمّا دَنا مُوسى مِنَ الجَبَلِ وقَعَ عَلَيْهِ عَمُودُ الغَمامِ حَتّى تَغَشّى الجَبَلَ كُلَّهُ ودَنا مُوسى ودَخَلَ فِيهِ، وقالَ لِلْقَوْمِ: ادْنُوا فَدَنَوْا، حَتّى إذا دَخَلُوا في الغَمامِ وقَعُوا سُجَّدًا، فَسَمِعُوهُ وهو يُكَلِّمُ مُوسى يَأْمُرُهُ ويَنْهاهُ افْعَلْ ولا تَفْعَلْ، ثُمَّ انْكَشَفَ الغَمامُ فَأقْبَلُوا إلَيْهِ فَطَلَبُوا الرُّؤْيَةَ فَوَعَظَهم وزَجَرَهم وأنْكَرَ عَلَيْهِمْ، فَقالُوا: ﴿يامُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [البقرة: ٥٥] . قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَقالَ: ﴿رَبِّ أرِنِي أنْظُرْ إلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١٤٣] يُرِيدُ أنْ يَسْمَعُوا الرَّدَّ والإنْكارَ مِن جِهَتِهِ، فَأُجِيبَ: بِلَنْ تَرانِي، ورَجَفَ الجَبَلُ بِهِمْ وصُعِقُوا، انْتَهى؛ وقِيلَ: هو مِيقاتٌ آخَرُ غَيْرُ مِيقاتِ المُناجاةِ ونُزُولِ التَّوْراةِ، فَقالَ وهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قالَ بَنُو إسْرائِيلَ لِمُوسى: إنَّ طائِفَةً تَزْعُمُ أنَّ اللَّهَ لا يُكَلِّمُكَ فَخُذْ مِنّا مَن يَذْهَبُ مَعَكَ لِيَسْمَعُوا كَلامَهُ فَيُؤْمِنُوا، فَأوْحى اللَّهُ تَعالى إلَيْهِ أنْ يَخْتارَ مِن قَوْمِهِ سَبْعِينَ مِن خِيارِهِمْ، ثُمَّ ارْتَقِ بِهِمُ الجَبَلَ أنْتَ وهارُونُ واسْتَخْلِفْ يُوشَعَ، فَفَعَلَ فَلَمّا سَمِعُوا كَلامَهُ سَألُوا مُوسى أنْ يُرِيَهُمُ اللَّهُ جَهْرَةً فَأخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، وقالَ السُّدِّيُّ: هو مِيقاتٌ وقَّتَهُ اللَّهُ تَعالى لِمُوسى يَلْقاهُ في ناسٍ مِن بَنِي إسْرائِيلَ لِيَعْتَذِرُوا إلَيْهِ مِن عِبادَةِ العِجْلِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ فِيما رَوى عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ طَلْحَةَ: هو مِيقاتٌ وقَّتَهُ اللَّهُ لِمُوسى وأمَرَهُ أنْ يَخْتارَ مِن قَوْمِهِ سَبْعِينَ رَجُلًا لِيَدْعُوا رَبَّهم فَدَعَوْا، فَقالُوا: يا اللَّهُ أعْطِنا ما لَمْ تُعْطِ أحَدًا قَبْلَنا ولا أحَدًا بَعْدَنا، فَكَرِهَ اللَّهُ ذَلِكَ فَأخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، وعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيما رَوى ابْنُ أبِي شَيْبَةَ أنَّ مُوسى وهارُونَ وابْناهُ شِبْرٌ وشُبَيْرٌ انْطَلَقُوا حَتّى انْتَهَوْا إلى جَبَلٍ فِيهِ سَرِيرٌ، فَقامَ عَلَيْهِ هارُونُ فَقُبِضَ رُوحُهُ، فَرَجَعَ مُوسى إلى قَوْمِهِ، فَقالُوا: أنْتَ قَتَلْتَهُ وحَسَدْتَنا عَلى خُلُقِهِ ولِينِهِ، فَقالَ: كَيْفَ أقْتُلُهُ ومَعِيَ ابْناهُ، قالَ: فاخْتارُوا مَن شِئْتُمْ، فاخْتِيرَ سَبْعُونَ فانْتَهَوْا إلَيْهِ فَقالُوا: مَن قَتَلَكَ يا هارُونُ ؟ قالَ: ما قَتَلَنِي أحَدٌ ولَكِنَّ اللَّهَ تَوَفّانِي، قالُوا: يا مُوسى ما نَعْصِي بَعْدُ، فَأخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَجَعَلُوا يَتَرَدَّوْنَ يَمِينًا وشِمالًا، انْتَهى، ولَفْظُ: لِمِيقاتِنا في هَذا القَوْلِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ؛ لِأنَّهُ يَقْتَضِي أنَّهُ كانَ عَنْ تَوْقِيتٍ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وقالَ ابْنُ السّائِبِ: كانَ مُوسى لا يَأْتِي رَبَّهُ إلّا بِإذْنٍ مِنهُ، والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ هَذا المِيقاتَ غَيْرُ مِيقاتِ مُوسى الَّذِي قِيلَ فِيهِ: ﴿ولَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾ [الأعراف: ١٤٣] لِظاهِرِ تَغايُرِ القِصَّتَيْنِ وما جَرى فِيهِما؛ إذْ في تِلْكَ أنَّ مُوسى كَلَّمَهُ اللَّهُ وسَألَهُ الرُّؤْيَةَ وأحالَهُ في الرُّؤْيَةِ عَلى تَجَلِّيهِ لِلْجَبَلِ وثُبُوتِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ وصارَ دَكًّا وصَعِقَ مُوسى، وفي هَذِهِ اخْتِيرَ السَبْعُونَ لِمِيقاتِ اللَّهِ وأخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ولَمْ تَأْخُذْ مُوسى، ولِلْفَصْلِ الكَثِيرِ الَّذِي بَيْنَ أجْزاءِ الكَلامِ لَوْ كانَتْ قِصَّةً واحِدَةً. * * * ﴿فَلَمّا أخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أهْلَكْتَهم مِن قَبْلُ وإيّايَ﴾ سَبَبُ الرَّجْفَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وهو مُرَتَّبٌ عَلى تَفْسِيرِ المِيقاتِ فَهَلِ الرَّجْفَةُ عُقُوبَةٌ عَلى سُكُوتِهِمْ وإغْضائِهِمْ عَلى عِبادَةِ العِجْلِ، أوْ عُقُوبَةٌ عَلى سُؤالِهِمُ الرُّؤْيَةَ، أوْ عُقُوبَةٌ لِتَشَطُّطِهِمْ في الدُّعاءِ المَذْكُورِ، أوْ سَبَبُهُ سَماعُ كَلامِ هارُونَ وهو مَيِّتٌ، أقْوالٌ. وقالَ السُّدِّيُّ: عُقُوبَةٌ عَلى عِبادَةٍ هَؤُلاءِ السَبْعِينَ (p-٤٠٠)بِاخْتِيارِهِمُ العِجْلَ، وخَفِيَ ذَلِكَ عَنْ مُوسى في وقْتِ الِاخْتِيارِ حَتّى أعْلَمَهُ اللَّهُ، وأخْذُ الرَّجْفَةِ يُحْتَمَلُ أنْ نَشَأ عَنْهُ المَوْتُ، ويُحْتَمَلُ أنْ نَشَأ عَنْهُ الغَشْيُ، وهُما قَوْلانِ، وقالَ السُّدِّيُّ: قالَ مُوسى: كَيْفَ أرْجِعُ إلى بَنِي إسْرائِيلَ وقَدْ أُهْلِكَتْ خِيارُهم ؟ فَماذا أقُولُ ؟ وكَيْفَ يَأْمَنُونَنِي عَلى أحَدٍ ؟ فَأحْياهُمُ اللَّهُ؛ وقِيلَ: أخَذَتْهُمُ الرِّعْدَةُ حَتّى كادَتْ تُبَيِّنُ مَفاصِلَهم وتَنْتَقِضُ ظُهُورَهم، وخافَ مُوسى المَوْتَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ بَكى ودَعا فَكُشِفَ عَنْهم، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهَذا تَمَنٍّ مِنهُ لِلْإهْلاكِ قَبْلَ أنْ يَرى ما رَأى مِن تَبِعَةِ طَلَبِ الرُّؤْيَةِ، كَما يَقُولُ النّادِمُ عَلى الأمْرِ إذا رَأى سُوءَ المَغَبَّةِ: لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأهْلَكَنِي قَبْلَ هَذا، انْتَهى. فَمَعْنى قَوْلِهِ: مِن قَبْلُ سُؤالِ الرُّؤْيَةِ، وهَذا بِناءٌ مِنَ الزَّمَخْشَرِيِّ عَلى أنَّ هَذا المِيقاتَ هو مِيقاتُ المُناجاةِ وطَلَبُ الرُّؤْيَةِ، وقَدْ ذَكَرْنا أنَّ الأظْهَرَ خِلافُهُ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمّا رَأى مُوسى ذَلِكَ أسِفَ عَلَيْهِمْ وعَلِمَ أنَّ أمْرَ بَنِي إسْرائِيلَ يَتَشَعَّبُ إنْ لَمْ يَأْتِ بِالقَوْمِ، فَجَعَلَ يَسْتَعْطِفُ رَبَّهُ أنْ يا رَبِّ لَوْ شِئْتَ أهْلَكْتَهم قَبْلَ هَذِهِ الحالِ وإيّايَ لَكانَ أخَفَّ عَلَيَّ، وهَذا وقْتُ هَلاكِهِمْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ عَلَيَّ مُؤْذٍ لِي، انْتَهى، ومَفْعُولُ: شِئْتَ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: لَوْ شِئْتَ إهْلاكَنا، وجَوابُ لَوْ أهْلَكْتَهم وأتى دُونَ لامٍ، وهو فَصِيحٌ لَكِنَّهُ بِاللّامِ أكْثَرُ، كَما قالَ: ﴿لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ﴾ [الكهف: ٧٧]، ﴿ولَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ﴾ [يونس: ٩٩]، ولا يُحْفَظُ جاءَ بِغَيْرِ لامٍ في القُرْآنِ إلّا هَذا، وقَوْلِهِ: ﴿أنْ لَوْ نَشاءُ أصَبْناهُمْ﴾ [الأعراف: ١٠٠] و﴿لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجًا﴾ [الواقعة: ٧٠] والمَحْذُوفُ في: مِن قَبْلُ، أيْ: مِن قَبْلِ الِاخْتِيارِ وأخْذِ الرَّجْفَةِ، وذَلِكَ زَمانَ إغْضائِهِمْ عَلى عِبادَةِ العِجْلِ، أوْ عِبادَتِهِمْ هم إيّاهُ، وقَوْلُهُ: (وإيّايَ)، أيْ: وقْتَ قَتْلِيَ القِبْطِيَّ: فَأنْتَ قَدْ سَتَرْتَ وغَفَرْتَ حِينَئِذٍ فَكَيْفَ الآنَ إذْ رُجُوعِي دُونَهم فَسادٌ لِبَنِي إسْرائِيلَ ؟ ! قالَ أكْثَرُهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وعَطَفَ (وإيّايَ) عَلى الضَّمِيرِ المَنصُوبِ في أهْلَكْتَهم وعَطْفُ الضَّمِيرَ مِمّا يُوجِبُ فَصْلَهُ، وبَدَأ بِضَمِيرِهِمْ لِأنَّهُمُ الَّذِينَ أخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَماتُوا أوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِمْ، ولَمْ يَمُتْ هو ولا أُغْمِيَ عَلَيْهِ ولَمْ يَكْتَفِ بِقَوْلِهِ: ﴿أهْلَكْتَهم مِن قَبْلُ﴾ حَتّى أشْرَكَ نَفْسَهُ فِيهِمْ، وإنْ كانَ لَمْ يُشْرِكْهم في مُقْتَضى الإهْلاكِ تَسْلِيمًا مِنهُ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى وقُدْرَتِهِ، وأنَّهُ لَوْ شاءَ إهْلاكَ العاصِي والطّائِعِ لَمْ يَمْنَعْهُ مِن ذَلِكَ مانِعٌ. ﴿أتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا﴾ قِيلَ: هَذا اسْتِفْهامٌ عَلى سَبِيلِ الإدْلاءِ بِالحُجَّةِ في صِيغَةِ اسْتِعْطافٍ وتَذَلُّلٍ، والضَّمِيرُ المَنصُوبُ في أتُهْلِكُنا لَهُ ولِلسَبْعِينَ، وبِما فَعَلَ السُّفَهاءُ فِيهِ الخِلافُ مُرَتَّبًا عَلى سَبَبِ أخْذِ الرَّجْفَةِ مِن طَلَبِ الرُّؤْيَةِ، أوْ عِبادَةِ العِجْلِ، أوْ قَوْلِهِمْ قَتَلْتَ هارُونَ، أوْ تَشَطُّطِهِمْ في الدُّعاءِ، أوْ عِبادَتِهِمْ بِأنْفُسِهِمُ العِجْلَ، وقِيلَ: الضَّمِيرُ في أتُهْلِكُنا لَهُ ولِبَنِي إسْرائِيلَ، وبِما فَعَلَ السُّفَهاءُ، أيْ بِالتَّفَرُّقِ والكُفْرِ والعِصْيانِ يَكُونُ هَلاكُهم، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي نَفْسَهُ وإيّاهم؛ لِأنَّهُ إنَّما طَلَبَ الرُّؤْيَةَ زَجْرًا لِلسُّفَهاءِ وهم طَلَبُوها سَفَهًا وجَهْلًا، والَّذِي يَظْهَرُ لِي أنَّهُ اسْتِفْهامُ اسْتِعْلامٍ أتْبَعَ إهْلاكَ المُخْتارِينَ وهم خَيْرُ بَنِي إسْرائِيلَ بِما فَعَلَ غَيْرُهم؛ إذْ مِنَ الجائِزِ في العَقْلِ ذَلِكَ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكم خاصَّةً﴾ [الأنفال: ٢٥] وقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، وقَدْ قِيلَ لَهُ: «أنَهْلِكُ وفِينا الصّالِحُونَ ؟ ! قالَ: نَعَمْ إذا كَثُرَ الخَبَثُ» . وكَما ورَدَ «أنَّ قَوْمًا يُخْسَفُ بِهِمْ، قِيلَ: وفِيهِمُ الصّالِحُونَ ؟ ! فَقِيلَ: يُبْعَثُونَ عَلى نِيّاتِهِمْ»، أوْ كَلامًا هَذا مَعْناهُ، ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أنَّهم أُحْيُوا وجُعِلُوا أنْبِياءَ كُلُّهم. ﴿إنْ هي إلّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَن تَشاءُ وتَهْدِي مَن تَشاءُ﴾ أيْ إنْ فِتْنَتُهم إلّا فِتْنَتُكَ، والضَّمِيرُ في هي يُفَسِّرُهُ سِياقُ الكَلامِ، أيْ أنْتَ هو الَّذِي فَتَنْتَهم، قالَتْ فِرْقَةٌ: لَمّا أعْلَمَهُ اللَّهُ أنَّ السَبْعِينَ عَبَدُوا العِجْلَ تَعَجَّبَ، وقالَ: إنْ هي إلّا فِتْنَتُكَ، وقِيلَ: لَمّا أُعْلِمَ مُوسى بِعِبادَةِ بَنِي إسْرائِيلَ العِجْلَ (p-٤٠١)وبِصِفَتِهِ، قالَ: يا رَبِّ ومَن أخارَهُ، قالَ: أنا، قالَ مُوسى: فَأنْتَ أضْلَلْتَهم إنْ هي إلّا فِتْنَتُكَ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يُشِيرَ بِهِ إلى قَوْلِهِمْ: ﴿أرِنا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [النساء: ١٥٣] إذْ كانَتْ فِتْنَةً مِنَ اللَّهِ أوْجَبَتِ الرَّجْفَةَ، وفي هَذِهِ الآيَةِ رَدٌّ عَلى المُعْتَزِلَةِ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أيْ مِحْنَتُكَ وبَلاؤُكَ حِينَ كَلَّمَتْنِي وسَمَّعْتَ كَلامَكَ، فاسْتَدَلُّوا بِالكَلامِ عَلى الرُّؤْيَةِ اسْتِدْلالًا فاسِدًا حَتّى افْتُتِنُوا وضَلُّوا، تُضِلُّ بِها الجاهِلِينَ غَيْرَ الثّابِتِينَ في مَعْرِفَتِكَ، وتَهْدِي العالِمِينَ الثّابِتِينَ بِالقَوْلِ الثّابِتِ، وجَعَلَ ذَلِكَ إضْلالًا مِنَ اللَّهِ تَعالى وهُدًى مِنهُ، لِأنَّ مِحْنَتَهُ إنَّما كانَتْ سَبَبًا لِأنْ ضَلُّوا واهْتَدَوْا، فَكَأنَّهُ أضَلَّهم بِها وهُداهم عَلى الِاتِّساعِ في الكَلامِ، انْتَهى، وهو عَلى طَرِيقَةِ المُعْتَزِلَةِ في نَفْيِهِمُ الإضْلالَ عَنِ اللَّهِ تَعالى. أنْتَ ولِيُّنا القائِمُ بِأمْرِنا: ﴿فاغْفِرْ لَنا وارْحَمْنا وأنْتَ خَيْرُ الغافِرِينَ﴾ . سَألَ الغُفْرانَ لَهُ ولَهم والرَّحْمَةَ، لَمّا كانَ قَدِ انْدَرَجَ قَوْمُهُ في قَوْلِهِ: أنْتَ ولِيُّنا وفي سُؤالِ المَغْفِرَةِ والرَّحْمَةِ لَهُ ولَهم - وكانَ قَوْمُهُ أصْحابَ ذُنُوبٍ - أكَّدَ اسْتِعْطافَ رَبِّهِ تَعالى في غُفْرانِ تِلْكَ الذُّنُوبِ، فَأكَّدَ ذَلِكَ ونَبَّهَ بِقَوْلِهِ: وأنْتَ خَيْرُ الغافِرِينَ، ولَمّا كانَ هو وأخُوهُ هارُونُ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ المَعْصُومِينَ مِنَ الذُّنُوبِ، فَحِينَ سَألَ المَغْفِرَةَ لَهُ ولِأخِيهِ وسَألَ الرَّحْمَةَ لَمْ يُؤَكِّدِ الرَّحْمَةَ بَلْ قالَ: وأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ، فَنَبَّهَ عَلى أنَّهُ تَعالى أرْحَمُ الرّاحِمِينَ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: ﴿ورَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: ١٥٦] وكانَ تَعالى خَيْرَ الغافِرِينَ لِأنَّ غَيْرَهُ يَتَجاوَزُ عَنِ الذَّنْبِ طَلَبًا لِلثَّناءِ أوِ الثَّوابِ، أوْ دَفْعًا لِلصِّفَةِ الخَسِيسَةِ عَنِ القَلْبِ، وهي صِفَةُ الحِقْدِ، والبارِي سُبْحانَهُ وتَعالى مُنَزَّهٌ عَنْ أنْ يَكُونَ غُفْرانُهُ لِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب