الباحث القرآني

﴿قالَ أنْظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ ﴿قالَ إنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ﴾ هَذا يَدُلُّ عَلى إقْرارِهِ بِالبَعْثِ وعِلْمِهِ بِأنَّ آدَمَ سَيَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ونَسْلٌ يُعَمِّرُونَ الأرْضَ، ثُمَّ يَمُوتُونَ وإنَّ مِنهم مَن يُنْظَرُ فَيَكُونُ طَلَبُهُ الإنْظارَ بِأنْ يُغْوِيَهم ويُوَسْوِسَ إلَيْهِمْ، فالضَّمِيرُ في يُبْعَثُونَ عائِدٌ عَلى ما دَلَّ عَلَيْهِ المَعْنى إذْ لَيْسَ في اللَّفْظِ ما يَعُودُ عَلَيْهِ، وحِكْمَةُ اسْتِنْظارِهِ وإنْ كانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْغَوايَةِ والفِتْنَةِ، إنَّ في ذَلِكَ ابْتِلاءَ العِبادِ بِمُخالَفَتِهِ وطَواعِيَتِهِ وما يَتَرَتَّبُ عَلى ذَلِكَ مِن إعْظامِ الثَّوابِ بِالمُخالَفَةِ وإدامَةِ العِقابِ بِالطَّواعِيَةِ وأجابَهُ تَعالى بِأنَّهُ مِنَ المُنْظَرِينَ، أيْ: مِنَ المُؤَخَّرِينَ ولَمْ يَأْتِ هُنا بِغايَةٍ لِلِانْتِظارِ وجاءَ مُغَيَّبًا في الحِجْرِ وفي ص بِقَوْلِهِ: ﴿إلى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ﴾ [ص: ٨١] ويَأْتِي تَفْسِيرُهُ في الحِجْرِ إنْ شاءَ اللَّهُ، ومَعْنى مِنَ المُنْظَرِينَ مِنَ الطّائِفَةِ الَّتِي تَأخَّرَتْ أعْمارُها كَثِيرًا حَتّى جاءَتْ آجالُها عَلى اخْتِلافِ أوْقاتِها فَقَدْ شَمِلَ تِلْكَ الطّائِفَةَ إنْظارٌ وإنْ لَمْ يَكُونُوا أحْياءً مُدَّةَ الدَّهْرِ، وقِيلَ مِنَ المُنْظَرِينَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِثْلُ قَوْمِ يُونُسَ. ﴿قالَ فَبِما أغْوَيْتَنِي لَأقْعُدَنَّ لَهم صِراطَكَ المُسْتَقِيمَ﴾ الظّاهِرُ أنَّ الباءَ لِلْقَسَمِ وما مَصْدَرِيَّةٌ ولِذَلِكَ تُلُقِّيَتِ الآيَةُ بِقَوْلِهِ: لَأقْعُدَنَّ، قالَ (p-٢٧٥)الزَّمَخْشَرِيُّ وإنَّما أقْسَمَ بِالإغْواءِ؛ لِأنَّهُ كانَ تَكْلِيفًا مِن أحْسَنِ أفْعالِ اللَّهِ لِكَوْنِهِ تَعْرِيضًا لِسَعادَةِ الأبَدِ، فَكانَ جَدِيرًا أنْ يُقْسِمَ بِهِ. انْتَهى. وقِيلَ: الباءُ لِلسَّبَبِ، أيْ: بِسَبَبِ إغْوائِكَ إيّايَ وعَبَّرَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْها بِأنْ يُرادَ بِها مَعْنى المُجازاةِ قالَ: كَما تَقُولُ فَبِإكْرامِكَ لِي يا زَيْدُ لَأُكْرِمَّنَكَ قالَ، وهَذا ألْيَقٌ بِالقِصَّةِ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، فَإنْ قُلْتَ: بِمَ تَعَلَّقَتِ الباءُ فَإنَّ تَعْلِيقَها بِلَأقْعُدَنَّ تَصُدُّ عَنْهُ لامُ القَسَمِ لا تَقُولُ واللَّهِ بِزَيْدٍ لَأمُرَنَّ قُلْتُ تَعَلَّقَتْ بِفِعْلِ القَسَمِ المَحْذُوفِ، تَقْدِيرُهُ: ﴿فَبِما أغْوَيْتَنِي﴾ أقْسَمَ بِاللَّهِ ﴿لَأقْعُدَنَّ﴾، أيْ: بِسَبَبِ إغْوائِكَ أُقْسِمُ. انْتَهى. وما ذَكَرَهُ مِن أنَّ اللّامَ تَصُدُّ عَنْ تَعَلُّقِ الباءِ بِلَأقْعُدَنَّ لَيْسَ حُكْمًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ، بَلْ في ذَلِكَ خِلافٌ، وقِيلَ: ما اسْتِفْهامِيَّةٌ كَأنَّهُ اسْتَفْهَمَ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي أغْواهُ وقالَ بِأيِّ شَيْءٍ أغْوَيْتَنِي، ثُمَّ ابْتَدَأهُ مُقْسِمًا فَقالَ: لَأقْعُدُنَّ لَهم، وضَعُفَ بِإثْباتِ الألِفِ في ما الِاسْتِفْهامِيَّةِ، وذَلِكَ شاذٌّ، أوْ ضَرُورَةٌ نَحْوُ قَوْلِهِمْ عَمّا تَسْألُ، فَهَذا شاذٌّ، والضَّرُورَةُ كَقَوْلِهِ: ؎عَلى ما قامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمُ ومَعْنى (أغْوَيْتَنِي) أضْلَلْتَنِي. قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ والأكْثَرُونَ، أوْ لَعَنْتَنِي. قالَهُ الحَسَنُ، أوْ أهْلَكْتَنِي. قالَهُ ابْنُ الأنْبارِيِّ، أوْ خَيَّبْتَنِي. قالَهُ بَعْضُهم، وقِيلَ: ألْقَيْتَنِي غاوِيًا، وقِيلَ: سَمَّيْتَنِي غاوِيًا لِتَكَبُّرِي عَنِ السُّجُودِ لِمَن أنا خَيْرٌ مِنهُ، وقِيلَ: جَعَلْتَنِي في الغَيِّ وهو العَذابُ، وقِيلَ: قَضَيْتَ عَلَيَّ مِنَ الأفْعالِ الذَّمِيمَةِ، وقِيلَ: أدْخَلْتَ عَلَيَّ داءَ الكِبْرِ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَبِسَبَبِ إغْوائِكَ إيّايَ لَأقْعُدَنَّ لَهم، وهو تَكْلِيفُهُ إيّاهُ ما وقَعَ بِهِ في الغَيِّ كَما ثَبَتَتِ المَلائِكَةُ مَعَ كَوْنِهِمْ أفْضَلَ مِنهُ ومِن آدَمَ نَفْسًا ومَناصِبَ. وعَنِ الأصَمِّ أمَرْتَنِي بِالسُّجُودِ فَحَمَلَنِي الأنَفُ عَلى مَعْصِيَتِكَ، والمَعْنى: فَبِسَبَبِ وُقُوعِي في الغَيِّ لِأجْتَهِدَنَّ في إغْوائِهِمْ حَتّى يَفْسَدُوا بِسَبَبِي كَما فَسَدْتُ بِسَبَبِهِمْ. انْتَهى. وهو والأصَمُّ فَسَّرا عَلى مَذْهَبِ الِاعْتِزالِ في نَفْيِ نِسْبَةِ الإغْواءِ حَقِيقَةً، وهو الإضْلالُ إلى اللَّهِ وكَذَلِكَ مَن فَسَّرَ ﴿أغْوَيْتَنِي﴾ مَعْنى ألْفَيْتَنِي غاوِيًا وهو فِرارٌ مِن ذَلِكَ، وقَوْلُهُ في المَلائِكَةِ إنَّهم أفْضَلُ مِن آدَمَ نَفْسًا ومَناصِبَ هو مَذْهَبُ المُعْتَزِلَةِ، وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ: قاتَلَ اللَّهُ القَدَرِيَّةَ، لَإبْلِيسُ أعْلَمُ بِاللَّهِ مِنهم، يُرِيدُ في أنَّهُ عَلِمَ أنَّ اللَّهَ يَهْدِي ويُضِلُّ، وجاءَ رَجُلٌ مِن كِبارِ الفُقَهاءِ يُرْمى بِالقَدَرِ فَجَلَسَ إلى طاوُسٍ في المَسْجِدِ الحَرامِ فَقالَ لَهُ طاوُسٌ: تَقُومُ، أوْ تُقامُ فَقامَ الرَّجُلُ فَقِيلَ لَهُ: أتَقُولُ: هَذا الرَّجُلُ فَقِيهٌ، فَقالَ: إبْلِيسُ أفْقَهُ مِنهُ قالَ: رَبِّ بِما أغْوَيْتَنِي، وهَذا يَقُولُ أنا أُغْوِي نَفْسِي، وجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذِهِ الحِكايَةَ مِن تَكاذِيبِ المُجْبِرَةِ وذَكَرَها، ثُمَّ قالَ كَلامًا قَبِيحًا يُوقَفُ عَلَيْهِ في كِتابِهِ وعَبَّرَ بِالقُعُودِ عَنِ الثُّبُوتِ في المَكانِ، والثّابِتُ فِيهِ قالُوا: وانْتَصَبَ ”صِراطَكَ“ عَلى إسْقاطِ عَلى. قالَهُ الزَّجّاجُ، وشَبَّهَهُ بِقَوْلِ العَرَبِ ضَرَبَ زَيْدٌ الظَّهْرَ والبَطْنَ، أيْ: عَلى الظَّهْرِ والبَطْنِ وإسْقاطُ حَرْفِ الجَرِّ لا يَنْقاسُ في مِثْلِ هَذا. لا يُقالُ قَعَدْتُ الخَشَبَةَ تُرِيدُ قَعَدْتُ عَلى الخَشَبَةِ قالُوا: أيْ: عَلى الظَّرْفِ كَما قالَ الشّاعِرُ فِيهِ: ؎كَما عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ وهَذا أيْضًا تَخْرِيجٌ فِيهِ ضَعْفٌ؛ لِأنَّ صِراطَكَ ظَرْفُ مَكانٍ مُخْتَصٌّ، وكَذَلِكَ الطَّرِيقُ فَلا يَتَعَدّى إلَيْهِ الفِعْلُ إلّا بِواسِطَةِ في، وما جاءَ خِلافَ ذَلِكَ شاذٌّ، أوْ ضَرُورَةٌ وعَلى الضَّرُورَةِ أنْشَدُوا: ؎كَما عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ وما ذَهَبَ إلَيْهِ أبُو الحُسَيْنِ بْنُ الطَّراوَةِ مِن أنَّ الصِّراطَ والطَّرِيقَ ظَرْفٌ مُبْهَمٌ لا مُخْتَصٌّ، رَدَّهُ عَلَيْهِ أهْلُ العَرَبِيَّةِ، والأوْلى أنْ يُضَمَّنَ لَأقْعُدَنَّ مَعْنى ما يَتَعَدّى بِنَفْسِهِ فَيَنْتَصِبُ الصِّراطُ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، والتَّقْدِيرُ: لَألْزَمَنَّ بِقُعُودِي صِراطَكَ المُسْتَقِيمَ، وهَذا الصِّراطُ هو دِينُ الإسْلامِ وهو المُوصِلُ إلى الجَنَّةِ، ويَضْعُفُ ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وعَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أنَّهُ طَرِيقُ مَكَّةَ خُصُوصًا عَلى العَقَبَةِ المَعْرُوفَةِ بِعَقَبَةِ الشَّيْطانِ يُضِلُّ النّاسَ عَنِ الحَجِّ، ومَعْنى قُعُودِهِ أنَّهُ يَعْتَرِضُ لَهم عَلى طَرِيقِ الإسْلامِ كَما يَعْتَرِضُ العَدُوُّ عَلى الطَّرِيقِ لِيَقْطَعَهُ عَلى السّابِلَةِ وفي الحَدِيثِ: «إنَّ الشَّيْطانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأطْرُقِهِ نَهاهُ (p-٢٧٦)عَنِ الإسْلامِ، وقالَ: أتَتْرُكُ دِينَ آبائِكَ، فَعَصاهُ وأسْلَمَ فَنَهاهُ عَنِ الهِجْرَةِ، وقالَ: تَدَعُ أهْلَكَ وبَلَدَكَ فَعَصاهُ فَهاجَرَ فَنَهاهُ عَنِ الجِهادِ، وقالَ: تُقْتَلُ وتَتْرُكُ ولَدَكَ، فَعَصاهُ فَجاهَدَ، فَلَهُ الجَنَّةُ» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب