الباحث القرآني

﴿ولَمّا سُقِطَ في أيْدِيهِمْ ورَأوْا أنَّهم قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا ويَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ ذَكَرَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أنَّ قَوْلَ العَرَبِ: سُقِطَ في يَدِهِ، فِعْلٌ لا يَتَصَرَّفُ، فَلا يُسْتَعْمَلُ مِنهُ مُضارِعٌ، ولا اسْمُ فاعِلٍ، ولا مَفْعُولٌ، وكانَ أصْلُهُ مُتَصَرِّفًا، تَقُولُ: سَقَطَ الشَّيْءُ، إذا وقَعَ مِن عُلْوٍ، فَهو في الأصْلِ مُتَصَرِّفٌ لازِمٌ، وقالَ الجُرْجانِيُّ: سُقِطَ في يَدِهِ مِمّا دُثِرَ اسْتِعْمالُهُ، مِثْلَما دُثِرَ اسْتِعْمالُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَضَرَبْنا عَلى آذانِهِمْ﴾ [الكهف: ١١] قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وفي هَذا الكَلامِ ضَعْفٌ، والسِّقاطُ في كَلامِ العَرَبِ: كَثْرَةُ الخَطَأِ والنَّدَمِ عَلَيْهِ، ومِنهُ قَوْلُ ابْنِ أبِي كاهِلٍ: ؎كَيْفَ يَرْجُونَ سِقاطِي بَعْدَما بَقَّعَ الرَّأْسَ مَشِيبٌ وصَلَعْ وحُكِيَ عَنْ أبِي مَرْوانَ بْنِ سِراجٍ أحَدِ أئِمَّةِ اللُّغَةِ بِالأنْدَلُسِ أنَّهُ كانَ يَقُولُ: قَوْلُ العَرَبِ: سُقِطَ في يَدِهِ، مِمّا أعْيانِي مَعْناهُ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: يُقالُ لِمَن نَدِمَ عَلى أمْرٍ وعَجَزَ عَنْهُ: سُقِطَ في يَدِهِ، وقالَ الزَّجّاجُ: مَعْناهُ سُقِطَ النَّدَمُ في أيْدِيهِمْ، أيْ: في قُلُوبِهِمْ وأنْفُسِهِمْ، كَما يُقالُ: حَصَلَ في أيْدِيهِمْ مَكْرُوهٌ، وإنْ كانَ مُحالًا أنْ يَكُونَ في اليَدِ، تَشْبِيهًا لِما يَحْصُلُ في القَلْبِ والنَّفْسِ بِما يَحْصُلُ في اليَدِ ويُرى بِالعَيْنِ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: العَرَبُ تَقُولُ لِمَن كانَ ساعِيًا لِوَجْهٍ أوْ طالِبًا غايَةً، فَعَرَضَ لَهُ ما صَدَّهُ عَنْ وجْهِهِ ووَقَفَهُ مَوْقِفَ العَجْزِ وتَيَقَّنَ أنَّهُ عاجِزٌ: سُقِطَ في يَدِ فُلانٍ، وقَدْ يَعْرِضُ لَهُ النَّدَمُ، وقَدْ لا يَعْرِضُ، قالَ: والوَجْهُ الَّذِي يَصِلُ بَيْنَ هَذِهِ الألْفاظِ وبَيْنَ المَعْنى الَّذِي ذَكَرْناهُ هو أنَّ السَّعْيَ أوِ الصَّرْفَ أوِ الدِّفاعَ سُقِطَ في يَدِ المُشارِ إلَيْهِ فَصارَ في يَدِهِ لا يُجاوِزُها، ولا يَكُونُ لَهُ في الخارِجِ أثَرٌ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمّا اشْتَدَّ نَدَمُهم وحَسْرَتُهم عَلى عِبادَةِ العِجْلِ؛ لِأنَّ مِن شَأْنِ مَنِ اشْتَدَّ نَدَمُهُ وحَسْرَتُهُ أنْ يَعَضَّ يَدَهُ غَمًّا، فَتَصِيرَ يَدُهُ مَسْقُوطًا فِيها؛ لِأنَّ فاهُ قَدْ وقَعَ فِيها، وسُقِطَ مُسْنَدٌ إلى: ﴿فِي أيْدِيهِمْ﴾، وهو مِن بابِ الكِنايَةِ، انْتَهى، والصَّوابُ: وسُقِطَ مُسْنَدٌ إلى ما: في أيْدِيهِمْ، وحَكى الواحِدِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّقِيطِ، وهو ما يَغْشى الأرْضَ بِالغُذَواتِ شِبْهُ الثَّلْجِ، يُقالُ مِنهُ: سُقِطَتِ الأرْضُ، كَما يُقالُ: مِنَ الثَّلْجِ ثُلِّجَتِ الأرْضُ وثُلِّجْنا، أيْ: أصابَنا الثَّلْجُ، ومَعْنى سُقِطَ في يَدِهِ والسَّقِيطِ والسُّقْطِ يَذُوبُ بِأدْنى حَرارَةٍ ولا يَبْقى، ومَن وقَعَ في يَدِهِ السَّقِيطُ لَمْ يَحْصُلْ مِنهُ عَلى شَيْءٍ، فَصارَ مَثَلًا لِكُلِّ مَن خَسِرَ في عاقِبَتِهِ ولَمْ يَحْصُلْ مِن بُغْيَتِهِ عَلى طائِلٍ وكانَتِ النَّدامَةُ آخِرَ أمْرِهِ؛ وقِيلَ: مِن عادَةِ النّادِمِ أنْ يُطَأْطِئَ رَأْسَهُ ويَضَعَ ذَقْنَهُ عَلى يَدِهِ مُعْتَمِدًا عَلَيْها، ويَصِيرَ عَلى هَيْئَةٍ لَوْ نُزِعَتْ يَدُهُ لَسُقِطَ عَلى وجْهِهِ، كانَ اليَدُ مَسْقُوطًا فِيها، ومَعْنى: (في) عَلى، أيْ: سُقِطَ عَلى يَدِهِ، ومَعْنى: في أيْدِيهِمْ، أيْ: عَلى أيْدِيهِمْ، كَقَوْلِهِ: ﴿ولَأُصَلِّبَنَّكم في جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ [طه: ٧١]، انْتَهى. وكانَ مُتَعَلِّقُ سُقِطَ قَوْلَهُ: ﴿فِي أيْدِيهِمْ﴾؛ لِأنَّ اليَدَ هي الآلَةُ الَّتِي يُؤْخَذُ بِها ويُضْبَطُ: وسُقِطَ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، والَّذِي أُوقِعَ مَوْضِعَ الفاعِلِ هو الجارُّ والمَجْرُورُ، كَما تَقُولُ: جُلِسَ (p-٣٩٤)فِي الدّارِ وضُحِكَ مِن زَيْدٍ؛ وقِيلَ: سُقِطَ تَتَضَمَّنُ مَفْعُولًا، وهو هاهُنا المَصْدَرُ الَّذِي هو الإسْقاطُ، كَما يُقالُ: ذُهِبَ بِزَيْدٍ، انْتَهى، وصَوابُهُ، وهو هُنا ضَمِيرُ المَصْدَرِ الَّذِي هو السُّقُوطُ؛ لِأنَّ سُقِطَ لَيْسَ مَصْدَرُهُ الإسْقاطَ، ولَيْسَ نَفْسُ المَصْدَرِ هو المَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، بَلْ هو ضَمِيرُهُ، وقَرَأتْ فَرِقَةٌ مِنهُمُ ابْنُ السَّمَيْقَعِ: (سَقَطَ في أيْدِيهِمْ) مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أيْ: وقَعَ الغَضُّ فِيها، وقالَ الزَّجّاجُ: سُقِطَ النَّدَمُ في أيْدِيهِمْ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنَّ الخُسْرانَ والخَيْبَةَ سَقَطَ في أيْدِيهِمْ، وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: أُسْقِطُ في أيْدِيهِمْ - رُباعِيًّا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، ورَأوْا أيْ: عَلِمُوا: ﴿أنَّهم قَدْ ضَلُّوا﴾، قالَ القاضِي: يَجِبُ أنْ يَكُونَ المُؤَخَّرُ مُقَدَّمًا؛ لِأنَّ النَّدَمَ والتَّحَسُّرَ إنَّما يَقَعانِ بَعْدَ المَعْرِفَةِ، فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: ولَمّا رَأوْا أنَّهم قَدْ ضَلُّوا وسُقِطَ في أيْدِيهِمْ لِما نالَهم مِن عَظِيمِ الحَسْرَةِ، انْتَهى، ولا يُحْتاجُ إلى هَذا التَّقْدِيرِ، بَلْ يُمْكِنُ تَقَدُّمُ النَّدَمِ عَلى تَبَيُّنِ الضَّلالِ؛ لِأنَّ الإنْسانَ إذا شَكَّ في العَمَلِ الَّذِي أقْدَمَ عَلَيْهِ أهْوَ صَوابٌ أوْ خَطَأٌ حَصَلَ لَهُ النَّدَمُ، ثُمَّ بَعْدُ يَتَكامَلُ النَّظَرُ والفِكْرُ فَيَعْلَمُ أنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ، ﴿قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا﴾ انْقِطاعٌ إلى اللَّهِ تَعالى واعْتِرافٌ بِعَظِيمِ ما أقْدَمُوا عَلَيْهِ وهَذا، كَما قالَ: آدَمُ وحَوّاءُ: ﴿وإنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وتَرْحَمْنا﴾ [الأعراف: ٢٣] ولَمّا كانَ هَذا الذَّنْبُ - وهو اتِّخاذُ غَيْرِ اللَّهِ إلَهًا - أعْظَمَ الذُّنُوبِ بَدَأُوا بِالرَّحْمَةِ الَّتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، ومِن نِتاجِها غُفْرانُ الذَّنْبِ، وأمّا في قِصَّةِ آدَمَ فَإنَّهُ جَرَتْ مُحاوَرَةٌ بَيْنَهُ تَعالى وبَيْنَهُما، وعِتابٌ عَلى ما صَدَرَ مِنهُما مِن أكْلِ ثَمَرِ الشَّجَرَةِ بَعْدَ نَهْيِهِ إيّاهُما عَنْ قُرْبانِها - فَضْلًا عَنْ أكْلِ ثَمَرِها - فَبادَرا إلى الغُفْرانِ وأتْبَعاهُ بِالرَّحْمَةِ؛ إذْ غُفْرانُ ما وقَعَ العِتابُ عَلَيْهِ أكَّدَ ما يُطْلَبُ أوَّلًا، وقَرَأ الأخَوانِ والشَّعْبِيُّ وابْنُ وثّابٍ والجَحْدَرِيُّ وابْنُ مُصَرِّفٍ والأعْمَشُ وأيُّوبُ بِالخِطابِ في (تَرْحَمْنا وتَغْفِرْ) ونِداءِ (رَبَّنا)، وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ ومُجاهِدٌ والحَسَنُ والأعْرَجُ وأبُو جَعْفَرٍ وشَيْبَةُ بْنُ نَصّاحٍ وغَيْرُهم: ﴿يَرْحَمْنا رَبُّنا ويَغْفِرْ لَنا﴾ بِالياءِ فِيهِما ورَفْعِ رَبُّنا، وفي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: قالُوا رَبَّنا لَئِنْ تَرْحَمْنا وتَغْفِرْ لَنا، بِتَقْدِيمِ المُنادى وهو رَبُّنا، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ القَوْلانِ صَدَرا مِنهم جَمِيعِهِمْ عَلى التَّعاقُبِ، أوْ هَذا مِن طائِفَةٍ وهَذا مِن طائِفَةٍ، فَمَن غَلَبَ عَلَيْهِ الخَوْفُ وقَوِيَ عَلى المُواجَهَةِ خاطَبَ مُسْتَقِيلًا مِن ذَنْبِهِ العَظِيمِ، ومَن غَلَبَ عَلَيْهِ الحَياءُ أخْرَجَ كَلامَهُ مَخْرَجَ المُسْتَحْيِي مِنَ الخِطابِ فَأسْنَدَ الفِعْلَ إلى الغائِبِ، وفي قَوْلِهِمْ: رَبُّنا اسْتِعْطافٌ حَسَنٌ؛ إذِ الرَّبُّ هو المالِكُ النّاظِرُ في أمْرِ عَبِيدِهِ والمُصْلِحُ مِنهم ما فَسَدَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب