الباحث القرآني

﴿سَأصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ لَمّا ذَكَرَ ﴿سَأُرِيكم دارَ الفاسِقِينَ﴾ [الأعراف: ١٤٥] ذَكَرَ ما يَفْعَلُ بِهِمْ تَعالى مِن صَرْفِهِ إيّاهم عَنْ آياتِهِ لِفِسْقِهِمْ وخُرُوجِهِمْ عَنْ طَوْرِهِمْ إلى وصْفٍ لَيْسَ لَهم، ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى مِن أحْوالِهِمْ ما اسْتَحَقُّوا بِهِ اسْمَ الفِسْقِ، قالَ ابْنُ جُبَيْرٍ سَأصْرِفُهم عَنِ الِاعْتِبارِ والِاسْتِدْلالِ بِالدَّلائِلِ والآياتِ عَلى هَذِهِ المُعْجِزاتِ وبَدائِعِ المَخْلُوقاتِ، وقالَ قَتادَةُ: سَأصُدُّهم عَنِ الإعْراضِ والطَّعْنِ والتَّحْرِيفِ والتَّبْدِيلِ والتَّغْيِيرِ، فالآياتُ: القُرْآنُ فَإنَّهُ مُخْتَصٌّ بِصَوْنِهِ عَنْ ذَلِكَ، وقالَ سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ سَأمْنَعُهم مِن تَدَبُّرِها ونَظَرِها النَّظَرَ الصَّحِيحَ المُؤَدِّي إلى الحَقِّ، وقالَ الزَّجّاجَ: أجْعَلُ جَزاءَهم سَأصْرِفُهم عَنْ دَفْعِ الِانْتِقامِ، أيْ: إذا أصابَتْهم عُقُوبَةٌ لَمْ يَدْفَعْها عَنْهم، فالآياتُ عَلى هَذا ما حَلَّ بِهِمْ مِنَ المَثُلاتِ الَّتِي (p-٣٩٠)صارُوا بِها مُثْلَةً وعِبْرَةً، وعَلى هَذِهِ الأقْوالِ يَكُونُ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ عامٌّ، أيْ: كُلُّ مَن قامَ بِهِ هَذا الوَصْفُ، وقِيلَ: هَذا مِن تَمامِ خِطابِ مُوسى، والآياتُ هي التِّسْعُ الَّتِي أُعْطِيها، والمُتَكَبِّرُونَ هم فِرْعَوْنُ وقَوْمُهُ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهم عَنِ الِاعْتِبارِ بِها بِما انْهَمَكُوا فِيهِ مِن لَذّاتِ الدُّنْيا، وأخَذَ الزَّمَخْشَرِيُّ بَعْضَ أقْوالِ المُفَسِّرِينَ فَقالَ سَأصْرِفُ عَنْ آياتِي بِالطَّبْعِ عَلى قُلُوبِ المُتَكَبِّرِينَ وخِذْلانِهِمْ فَلا يُفَكِّرُونَ فِيها ولا يَعْتَبِرُونَ بِها غَفْلَةً وانْهِماكًا فِيما يَشْغَلُهم عَنْها مِن شَهَواتِهِمْ وفِيهِ إنْذارُ المُخاطَبِينَ مِن عاقِبَةِ والَّذِينَ يُصْرَفُونَ عَنِ الآياتِ لِتَكَبُّرِهِمْ وكُفْرِهِمْ بِها لِئَلّا يَكُونُوا مِثْلَهم فَيَسْلُكُ بِهِمْ سَبِيلَهم. انْتَهى. والَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ عَنِ الإيمانِ قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُمُ الكَفَرَةُ، والمَعْنى في هَذِهِ الآيَةِ: سَأجْعَلُ الصَّرْفَ عَنِ الآياتِ عُقُوبَةَ المُتَكَبِّرِينَ عَلى تَكَبُّرِهِمْ. انْتَهى. وقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ يَحْتَقِرُونَ النّاسَ ويَرَوْنَ لَهُمُ الفَضْلَ عَلَيْهِمْ، وفي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إنَّما الكِبْرُ أنْ تُسَفِّهَ الحَقَّ وتَغْمِصَ النّاسَ» . ويَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ الحَقِّ بـِ ”يَتَكَبَّرُونَ“، أيْ: بِما لَيْسَ بِحَقٍّ وما هم عَلَيْهِ مِن دِينِهِمْ، وقَدْ يَكُونُ التَّكَبُّرُ بِالحَقِّ كَتَكَبُّرِ المُحِقِّ عَلى المُبْطِلِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أعِزَّةٍ عَلى الكافِرِينَ﴾ [المائدة: ٥٤] ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ الحالِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، أيْ: مُلْتَبِسِينَ بِغَيْرِ الحَقِّ، والمَعْنى: غَيْرُ مُسْتَحِقِّينَ؛ لِأنَّ التَّكَبُّرَ بِالحَقِّ لِلَّهِ وحْدَهُ؛ لِأنَّهُ هو الَّذِي لَهُ القُدْرَةُ والفَضْلُ الَّذِي لَيْسَ لِأحَدٍ. ﴿وإنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها﴾ وصَفَهم هَذا الوَصْفَ الذَّمِيمَ، وهو التَّكَبُّرُ عَنِ الإيمانِ حَتّى لَوْ عُرِضَتْ عَلَيْهِمْ كُلُّ آيَةٍ لَمْ يَرَوْها آيَةً فَيُؤْمِنُوا بِها، وهَذا خَتْمٌ مِنهُ تَعالى عَلى الطّائِفَةِ الَّتِي قَدَّرَ أنْ لا يُؤْمِنُوا. وقَرَأ مالِكُ بْنُ دِينارٍ: وإنْ (يُرَوْا) بِضَمِّ الياءِ. * * * ﴿وإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا﴾ . أراهُمُ اللَّهُ السَّبِيلَيْنِ فَرَأوْهُما فَآثَرُوا الغَيَّ عَلى الرُّشْدِ كَقَوْلِهِ: ﴿فاسْتَحَبُّوا العَمى عَلى الهُدى﴾ [فصلت: ١٧] . وقَرَأ الأخَوانِ (الرَّشَدِ) وباقِي السَّبْعَةِ (الرُّشْدِ)، وعَنِ ابْنِ عامِرٍ في رِوايَةٍ إتْباعُ الشِّينِ ضَمَّةَ الرّاءِ، وأبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: الرَّشادِ وهي مَصادِرُ كالسَّقَمِ والسُّقْمِ والسَّقامِ، وقالَ أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ: الرُّشْدُ: الصَّلاحُ في النَّظَرِ وبِفَتْحِهِما الدِّينُ، وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: لا يَتَّخِذُوها ويَتَّخِذُوها عَلى تَأْنِيثِ السَّبِيلِ، والسَّبِيلُ تُذَكَّرُ وتُؤَنَّثُ، قالَ تَعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي﴾ [يوسف: ١٠٨] ولَمّا نَفى عَنْهُمُ الإيمانَ وهو مِن أفْعالِ القَلْبِ اسْتَعارَ لِلرُّشْدِ والغَيِّ سَبِيلَيْنِ فَذَكَرَ أنَّهم تارِكُو سَبِيلَ الرُّشْدِ سالِكُو سَبِيلَ الغَيِّ، وناسَبَ تَقْدِيمُ جُمْلَةِ الشَّرْطِ المُتَضَمِّنَةِ سَبِيلَ الرُّشْدِ عَلى مُقابَلَتِها؛ لِأنَّها قَبْلَها. ﴿وإنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها﴾ فَذَكَرَ مُوجِبَ الإيمانِ وهو الآياتُ وتَرَتَّبَ نَقِيضُهُ عَلَيْهِ وأتْبَعَ ذَلِكَ بِمُوجِبِ الرُّشْدِ وتَرَتَّبَ نَقِيضُهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ جاءَتِ الجُمْلَةُ بَعْدَها مُصَرِّحَةً بِسُلُوكِهِمْ سَبِيلَ الغَيِّ ومُؤَكَّدَةً لِمَفْهُومِ الجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ قَبْلَها؛ لِأنَّهُ يَلْزَمُ مِن تَرْكِ سَبِيلِ الرُّشْدِ سُلُوكُ سَبِيلِ الغَيِّ؛ لِأنَّهُما إمّا هُدًى أوْ ضَلالٌ، فَهُما نَقِيضانِ إذا انْتَفى أحَدُهُما ثَبَتَ الآخَرُ. * * * ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم كَذَّبُوا بِآياتِنا وكانُوا عَنْها غافِلِينَ﴾ . أيْ: ذَلِكَ الصَّرْفُ عَنِ الآياتِ هو سَبَبُ تَكْذِيبِهِمْ بِها وغَفْلَتِهِمْ عَنِ النَّظَرِ فِيها والتَّفَكُّرِ في دَلالَتِها، والمَعْنى: أنَّهُمُ اسْتَمَرَّ كَذِبُهم وصارَ لَهم ذَلِكَ دَيْدَنًا حَتّى صارَتْ تِلْكَ الآياتُ لا تَخْطُرُ لَهم بِبالٍ فَحَصَلَتِ الغَفْلَةُ عَنْها والنِّسْيانُ لَها حَتّى كانُوا لا يَذْكُرُونَها ولا شَيْئًا مِنها، والظّاهِرُ أنَّ الصَّرْفَ سَبَبُهُ التَّكْذِيبُ والغَفْلَةُ مِن جَمِيعِهِمْ، ويُحْتَمَلُ أنَّ الصَّرْفَ سَبَبُهُ التَّكْذِيبُ، ويَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿وكانُوا عَنْها غافِلِينَ﴾ اسْتِئْنافَ إخْبارٍ مِنهُ تَعالى عَنْهم، أيْ: مِن شَأْنِهِمْ أنَّهم كانُوا غافِلِينَ عَنِ الآياتِ وتَدَبُّرِها فَأوْرَثَتْهُمُ الغَفْلَةُ التَّكْذِيبَ بِها، والظّاهِرُ أنَّ ذَلِكَ مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ بِأنَّهم، أيْ: ذَلِكَ الصَّرْفُ كائِنٌ بِأنَّهم كَذَّبُوا، وجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا فَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ فَعَلْنا ذَلِكَ، وقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ صَرَفَهُمُ اللَّهُ ذَلِكَ الصَّرْفَ بِعَيْنِهِ، وفي قَوْلِهِ تَعالى: ( ﴿سَأصْرِفُ عَنْ آياتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ (p-٣٩١)إشْعارٌ بِأنَّ الصَّرْفَ سَبَبُهُ هَذا التَّكَبُّرُ، وفي قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم كَذَّبُوا﴾ إعْلامٌ بِأنَّ ذَلِكَ الصَّرْفَ سَبَبُهُ التَّكْذِيبُ، والجَمْعُ بَيْنَهُما أنَّ التَّكَبُّرَ سَبَبٌ أوَّلُ نَشَأ عَنْهُ التَّكْذِيبُ، فَنِسْبَةُ الصَّرْفِ إلى السَّبَبِ الأوَّلِ وإلى ما تَسَبَّبَ عَنْهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب