الباحث القرآني

﴿وأوْرَثْنا القَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الأرْضِ ومَغارِبَها الَّتِي بارَكْنا فِيها﴾ لَمّا قالَ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - ﴿عَسى رَبُّكم أنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكم ويَسْتَخْلِفَكم في الأرْضِ﴾ [الأعراف: ١٢٩] كانَ كَما تَرَجّى مُوسى فَأغْرَقَ أعْداءَهم في اليَمِّ، واسْتَخْلَفَ بَنِي إسْرائِيلَ في الأرْضِ ﴿الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ﴾ هم بَنُو إسْرائِيلَ كانَ فِرْعَوْنُ يَسْتَعْبِدُهم ويَسْتَخْدِمُهم، والِاسْتِضْعافُ طَلَبُ الضَّعِيفِ بِالقَهْرِ كَثُرَ اسْتِعْمالُهُ حَتّى قِيلَ اسْتَضْعَفَهُ، أيْ: وجَدَهُ ضَعِيفًا ﴿مَشارِقَ الأرْضِ ومَغارِبَها﴾ قالَتْ فِرْقَةٌ: هي الأرْضُ كُلُّها، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ المَجازِ؛ لِأنَّهُ تَعالى مَلَّكَهم بِلادًا كَثِيرَةً، وأمّا عَلى الحَقِيقَةِ فَإنَّهُ مَلَّكَ ذَرِّيَّتَهم وهو سُلَيْمانُ بْنُ داوُدَ، وقالَ الحَسَنُ أيْضًا: ﴿مَشارِقَ الأرْضِ﴾ الشّامُ ﴿ومَغارِبَها﴾ دِيارُ مِصْرَ، مَلَّكَهُمُ اللَّهُ إيّاها بِإهْلاكِ الفَراعِنَةِ والعَمالِقَةِ، وقالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قالَ: وتَصَرَّفُوا فِيها كَيْفَ شاءُوا في أطْرافِها ونَواحِيها الشَّرْقِيَّةِ والغَرْبِيَّةِ، وقالَ الحَسَنُ أيْضًا، وقَتادَةُ، وغَيْرُهُما: هي أرْضُ الشّامِ، وفي كِتابِ النَّقّاشِ عَنِ الحَسَنِ: أرْضُ مِصْرَ والبَرَكَةُ فِيها بِالماءِ والشَّجَرِ. قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وذَيَّلَهُ غَيْرُهُ فَقالَ: بِالخِصْبِ والأنْهارِ وكَثْرَةِ الأشْجارِ وطَيِّبِ الثِّمارِ، وقِيلَ: البَرَكَةُ بِإقْدامِ الأنْبِياءِ وكَثْرَةِ مَقامِهِمْ بِها ودَفْنِهِمْ فِيها، وهَذا يَتَخَرَّجُ عَلى مَن قالَ أرْضُ الشّامِ، وقِيلَ: (بارَكْنا) جَعَلْنا الخَيْرَ فِيها دائِمًا ثابِتًا، وهَذا يُشِيرُ إلى أنَّها مِصْرُ. وقالَ اللَّيْثُ هي مِصْرُ بارَكَ اللَّهُ فِيها بِما يَحْدُثُ عَنْ نِيلِها مِنَ الخَيْراتِ وكَثْرَةِ الحُبُوبِ والثَّمَراتِ، وعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ نِيلَ مِصْرَ سَيِّدُ الأنْهارِ في حَدِيثٍ طَوِيلٍ، ورُوِيَ أنَّهُ كانَتِ الجَنّاتُ بِحافَّتَيْ هَذا النِّيلِ مِن أوَّلِهِ إلى آخِرِهِ في البَرَّيْنِ جَمِيعًا ما بَيْنَ أسْوانَ إلى رَشِيدٍ وكانَتِ الأشْجارُ مُتَّصِلَةً لا يَنْقَطِعُ مِنها شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ. وقالَ أبُو بَصْرَةَ الغِفارِيُّ: مِصْرُ خَزائِنُ الأرْضِ كُلِّها، ألا تَرى إلى قَوْلِ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ﴿اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الأرْضِ﴾ [يوسف: ٥٥] ويُرْوى أنَّ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - أقامَ بِها اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وذَلِكَ أنَّ اللَّهَ أوْحى إلى مَرْيَمَ أنِ الحَقِي بِمِصْرَ وأرْضِها، وذَكَرَ أنَّها الرَّبْوَةُ الَّتِي قالَ تَعالى: ﴿وآوَيْناهُما إلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ ومَعِينٍ﴾ [المؤمنون: ٥٠] . وقالَ ابْنُ عُمَرَ: البَرَكاتُ عَشْرٌ فَفي مِصْرَ تِسْعٌ، وفي الأرْضِ كُلِّها واحِدَةٌ، وانْتِصابُ مَشارِقَ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ ثانٍ لِأوْرَثْنا و﴿الَّتِي بارَكْنا﴾ نَعْتٌ لِمَشارِقِ الأرْضِ ومَغارِبِها، وقَوْلُ الفَرّاءِ: إنَّ انْتِصابَ (مَشارِقَ) والمَعْطُوفَ عَلَيْها عَلى الظَّرْفِيَّةِ والعامِلَ فِيهِما هو (يُسْتَضْعَفُونَ) و(الَّتِي بارَكْنا) هو المَفْعُولُ الثّانِي، أيِ: الأرْضُ الَّتِي بارَكْنا فِيها تَكَلُّفٌ وخُرُوجٌ عَنِ الظّاهِرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، ومَن أجازَ أنْ تَكُونَ (الَّتِي) نَعْتًا لِلْأرْضِ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ لِلْفَصْلِ بِالعَطْفِ بَيْنَ المَنعُوتِ ونَعْتِهِ. * * * ﴿وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسْنى عَلى بَنِي إسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا﴾ . أيْ: مَضَتْ واسْتَمَرَّتْ مِن قَوْلِهِمْ تَمَّ عَلى الأمْرِ إذا مَضى عَلَيْهِ، قالَ مُجاهِدٌ: المَعْنى ما سَبَقَ لَهم في عِلْمِهِ وكَلامِهِ في الأزَلِ مِنَ النَّجاةِ مِن عَدُوِّهِمْ والظُّهُورِ عَلَيْهِ، وقالَ المَهْدَوِيُّ وتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: الكَلِمَةُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ونُرِيدُ أنْ نَمُنَّ عَلى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الأرْضِ﴾ [القصص: ٥] إلى قَوْلِهِ: ﴿ما كانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [القصص: ٦] . وقِيلَ: هي قَوْلُهُ: ﴿عَسى رَبُّكم أنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ﴾ [الأعراف: ١٢٩] الآيَةَ، وقِيلَ: الكَلِمَةُ النِّعْمَةُ، والحُسْنى تَأْنِيثُ الأحْسَنِ وهي صِفَةٌ لِلْكَلِمَةِ وكانَتِ الحُسْنى؛ لِأنَّها وعْدٌ بِمَحْبُوبٍ. قالَهُ الكِرْمانِيُّ، والمَعْنى: عَلى مَن بَقِيَ مِن مُؤْمِنِي بَنِي إسْرائِيلَ ﴿بِما صَبَرُوا﴾، أيْ: بِصَبْرِهِمْ، وقَرَأ الحَسَنُ كَلِماتٍ عَلى الجَمْعِ ورُوِيَتْ عَنْ عاصِمٍ، وأبِي عَمْرٍو، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ونَظِيرُهُ ﴿لَقَدْ رَأى مِن آياتِ رَبِّهِ الكُبْرى﴾ [النجم: ١٨] . انْتَهى. يَعْنِي (p-٣٧٧)نَظِيرَ وصْفِ الجَمْعِ بِالمُفْرَدِ المُؤَنَّثِ ولا يَتَعَيَّنُ ما قالَهُ مِن أنَّ الكُبْرى نَعْتٌ لِآياتِ رَبِّهِ إذْ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لِقَوْلِهِ رَأى، أيِ الآيَةَ الكُبْرى، فَيَكُونُ في الأصْلِ نَعْتًا لِمُفْرَدٍ مُؤَنَّثٍ لا يُجْمَعُ، وهو أبْلَغُ في الوَصْفِ. ﴿ودَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وقَوْمُهُ وما كانُوا يَعْرِشُونَ﴾، أيْ: خَرَّبْنا قُصُورَهم وأبْنِيَتَهم بِالهَلاكِ، والتَّدْمِيرُ: الإهْلاكُ وإخْرابُ الأبْنِيَةِ، وقِيلَ: ما كانَ يَصْنَعُ مِنَ التَّدْبِيرِ في أمْرِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - وإخْمادِ كَلِمَتِهِ. وقِيلَ: المُرادُ إهْلاكُ أهْلِ القُصُورِ والمَواضِعِ المَنِيعَةِ، وإذا هَلَكَ السّاكِنُ هَلَكَ المَسْكُونُ ﴿وما كانُوا يَعْرِشُونَ﴾، أيْ: يَرْفَعُونَ مِنَ الأبْنِيَةِ المُشَيَّدَةِ كَصَرْحِ هامانَ وغَيْرِهِ، وقالَ الحَسَنُ: المُرادُ عُرُشُ الكُرُومِ، ومِنهُ ﴿جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ﴾ [الأنعام: ١٤١]، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وأبُو بَكْرٍ بِضَمِّ الرّاءِ وباقِي السَّبْعَةِ، والحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، وأبُو رَجاءٍ بِكَسْرِ الرّاءِ هُنا، وفي النَّحْلِ، وهي لُغَةُ الحِجازِ، وقالَ اليَزِيدِيُّ: هي أفْصَحُ، وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ (يُعَرِّشُونَ) بِضَمِّ الياءِ وفَتَحَ العَيْنَ وتَشْدِيدِ الرّاءِ وانْتَزَعَ الحَسَنُ مِن هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ يَنْبَغِي أنْ لا يُخْرَجَ عَلى مُلُوكِ السَّماءِ وإنَّما يَنْبَغِي أنْ نَصْبِرَ لَهم، وعَلَيْهِمْ فَإنَّ اللَّهَ يُدَمِّرُهم، ورُوِيَ عَنْهُ وعَنْ غَيْرِهِ: إذا قابَلَ النّاسُ البَلاءَ بِمِثْلِهِ، وكَلَهُمُ اللَّهُ إلَيْهِ، وإذا قابَلُوهُ بِالصَّبْرِ وانْتِظارِ الفَرَجِ أتى الفَرَجُ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وبَلَغَنِي أنَّهُ قَرَأ بَعْضُ النّاسِ (يَغْرِسُونَ) مِن غَرَسَ الأشْجارَ وما أحْسَبُهُ إلّا تَصْحِيفًا، وهَذا آخِرُ ما اقْتَصَّ اللَّهُ تَعالى مِن نَبَأِ فِرْعَوْنَ والقِبْطِ وتَكْذِيبِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وظُلْمِهِمْ ومُعارَضَتِهِ، ثُمَّ أتْبَعَهُ اقْتِصاصَ نَبَأِ بَنِي إسْرائِيلَ وما أحْدَثُوهُ بَعْدَ إنْقاذِهِمْ مِن مَمْلَكَةِ فِرْعَوْنَ، واسْتِعْبادِهِ، ومُعايَنَتِهِمُ الآياتِ العِظامَ ومُجاوَزَتِهِمُ البَحْرَ مِن عِبادَةِ البَقَرِ، وطَلَبِ رُؤْيَةِ اللَّهِ جَهْرَةً، وغَيْرِ ذَلِكَ مِن أنْواعِ الكُفْرِ والمَعاصِي لِيُعْلَمَ حالُ الإنْسانِ، وأنَّهُ كَما وصَفَ ظَلُومٌ كَفّارٌ جَهُولٌ كَفُورٌ إلّا مَن عَصَمَهُ اللَّهُ تَعالى و﴿وقَلِيلٌ مِن عِبادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبإ: ١٣] ولِيُسَلِّيَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مِمّا رَأى مِن بَنِي إسْرائِيلَ بِالمَدِينَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب