الباحث القرآني

﴿قالُوا إنّا إلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ﴾ هَذا تَسْلِيمٌ واتِّكالٌ عَلى اللَّهِ تَعالى وثِقَةٌ بِما عِنْدَهُ، والمَعْنى: إنّا نَرْجِعُ إلى ثَوابِ رَبِّنا يَوْمَ الجَزاءِ عَلى ما نَلْقاهُ مِنَ الشَّدائِدِ، أوْ إنّا نَنْقَلِبُ إلى لِقاءِ رَبِّنا ورَحْمَتِهِ، وخَلاصِنا مِنكَ ومِن لِقائِكَ، أوْ إنّا مَيِّتُونَ مُنْقَلِبُونَ إلى اللَّهِ فَلا نُبالِي بِالمَوْتِ إذْ لا تَقْدِرُ أنْ تَفْعَلَ بِنا إلّا ما لا بُدَّ لَنا مِنهُ، فالِانْقِلابُ الأوَّلُ يَكُونُ المُرادُ بِهِ يَوْمَ الجَزاءِ، وهَذانِ الِانْقِلابانِ المُرادُ بِهِما في الدُّنْيا، ويَبْعُدُ أنْ يُرادَ بِقَوْلِهِ: (وإنّا) ضَمِيرُ أنْفُسِهِمْ وفِرْعَوْنَ، أيْ: نَنْقَلِبُ إلى اللَّهِ جَمِيعًا فَيَحْكُمَ بَيْنَنا لِقَوْلِهِ: ﴿وما تَنْقِمُ مِنّا﴾ [الأعراف: ١٢٦] فَإنَّ هَذا الضَّمِيرَ يَخُصُّ مُؤْمِنِي السَّحَرَةِ، والأوْلى اتِّحادُ الضَّمائِرِ، والَّذِي أجازَ هَذا الوَجْهَ هو الزَّمَخْشَرِيُّ، وفي قَوْلِهِمْ ﴿إلى رَبِّنا﴾ تَبَرُّؤٌ مِن فِرْعَوْنَ ومِن رُبُوبِيَّتِهِ، وفي الشُّعَراءِ: لا ضَيْرَ؛ لِأنَّ هَذِهِ السُّورَةَ اخْتُصِرَتْ فِيها القِصَّةُ واتَّسَعَتْ في الشُّعَراءِ، ذُكِرَ فِيها أحْوالُ فِرْعَوْنَ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها فَبَدَأ بِقَوْلِهِ: ﴿ألَمْ نُرَبِّكَ فِينا ولِيدًا﴾ [الشعراء: ١٨] وخَتَمَ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أغْرَقْنا الآخَرِينَ﴾ [الشعراء: ٦٦] فَوَقَعَ فِيها زَوائِدُ لَمْ تَقَعْ في هَذِهِ السُّورَةِ، ولا في طه. قالَهُ الكِرْمانِيُّ. ﴿وما تَنْقِمُ مِنّا إلّا أنْ آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا لَمّا جاءَتْنا﴾ [الأعراف: ١٢٦] قالَ الضَّحّاكُ: وما تَطْعَنُ عَلَيْنا، وقالَ غَيْرُهُ: وما تَكْرَهُ مِنّا، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وما تَعِيبُ مِنّا، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وما تَعُدُّ عَلَيْنا ذَنْبًا وتُؤاخِذُنا بِهِ وعَلى هَذِهِ التَّأْوِيلاتِ يَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿إلّا أنْ آمَنّا﴾ [الأعراف: ١٢٦] في مَوْضِعِ المَفْعُولِ ويَكُونُ مِنَ الِاسْتِثْناءِ المُفَرَّغِ مِنَ المَفْعُولِ، وجاءَ هَذا التَّرْكِيبُ في القُرْآنِ كَقَوْلِهِ: ﴿قُلْ ياأهْلَ الكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنّا﴾ [المائدة: ٥٩] ﴿وما نَقَمُوا مِنهم إلّا أنْ يُؤْمِنُوا﴾ [البروج: ٨]، وهَذا الفِعْلُ في لِسانِ العَرَبِ يَتَعَدّى بِعَلى تَقُولُ نَقَمْتُ عَلى الرَّجُلِ أنْقِمُ إذا غَلَبَ عَلَيْهِ، والَّذِي يَظْهَرُ مِن تَعْدِيَتِهِ بِمِن أنَّ المَعْنى وما تَنْقِمُ مِنّا، أيْ: ما تَنالُ مِنّا كَقَوْلِهِ: فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنهُ، أيْ: يَنالُهُ بِمَكْرُوهٍ، ويَكُونُ فَعَلَ وافْتَعَلَ فِيهِ بِمَعْنًى واحِدٍ، كَقَدَرَ واقْتَدَرَ، وعَلى هَذا يَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿إلّا أنْ آمَنّا﴾ [الأعراف: ١٢٦] مُفْعُولًا مِن أجْلِهِ، واسْتِثْناءً مُفَرَّغًا، أيْ: ما تَنالُ مِنّا وتُعَذِّبُنا لِشَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ إلّا لِأنْ آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا وعَلى هَذا المَعْنى يَدُلُّ تَفْسِيرُ عَطاءٍ، قالَ عَطاءٌ: أيْ: ما لَنا عِنْدَكَ ذَنْبٌ تُعَذِّبُنا عَلَيْهِ إلّا أنّا آمَنّا، والآياتُ المُعْجِزاتُ الَّتِي أتى بِها مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - ومَن جَعَلَ لَمّا ظَرْفًا جَعَلَ العامِلَ فِيها ﴿أنْ آمَنّا﴾ [الأعراف: ١٢٦] ومَن جَعَلَها حَرْفًا جَعَلَ جَوابَها مَحْذُوفًا لِدَلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ، أيْ: لَمّا جاءَتْنا آمَنّا، وفي كَلامِهِمْ هَذا تَكْذِيبٌ لِفِرْعَوْنَ في ادِّعائِهِ الرُّبُوبِيَّةَ، وانْسِلاخٌ مِنهم عَنِ اعْتِقادِهِمْ ذَلِكَ فِيهِ والإيمانُ بِاللَّهِ هو أصْلُ المَفاخِرِ والمَناقِبِ، وهَذا الِاسْتِثْناءُ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ: ؎ولا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهم بِهِنَّ فُلُولٌ مِن قِراعِ الكَتائِبِ وقَرَأ الحَسَنُ، وأبُو حَيْوَةَ، وأبُو اليُسْرِ هاشِمٌ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ (وما تَنْقَمُ) بِفَتْحِ القافِ مُضارِعُ نَقِمَ بِكَسْرِها، وهُما لُغَتانِ والأفْصَحُ قِراءَةُ الجُمْهُورِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب