الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿فَأمّا مَن أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَءُوا كِتابِيَهْ﴾ ﴿إنِّي ظَنَنْتُ أنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ﴾ ﴿فَهُوَ في عِيشَةٍ راضِيَةٍ﴾ ﴿فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ﴾ ﴿قُطُوفُها دانِيَةٌ﴾ ﴿كُلُوا واشْرَبُوا هَنِيئًا بِما أسْلَفْتُمْ في الأيّامِ الخالِيَةِ﴾ ﴿وأمّا مَن أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ﴾ ﴿ولَمْ أدْرِ ما حِسابِيَهْ﴾ ﴿يا لَيْتَها كانَتِ القاضِيَةَ﴾ ﴿ما أغْنى عَنِّي مالِيَهْ﴾ ﴿هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ﴾ ﴿ثُمَّ الجَحِيمَ صَلُّوهُ﴾ ﴿ثُمَّ في سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعًا فاسْلُكُوهُ﴾ ﴿إنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ العَظِيمِ روَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ المِسْكِينِ﴾ ﴿فَلَيْسَ لَهُ اليَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ﴾ ﴿ولا طَعامٌ إلّا مِن غِسْلِينٍ﴾ ﴿لا يَأْكُلُهُ إلّا الخاطِئُونَ﴾ . ”أمّا“ حَرْفُ تَفْصِيلٍ فَصَّلَ بِها ما وقَعَ في يَوْمِ العَرْضِ. ويَظْهَرُ أنَّ مَن قُضِيَ عَلَيْهِ دُخُولُ النّارِ مِنَ المُوَحِّدِينَ، أنَّهُ في يَوْمِ العَرْضِ يَأْخُذُ (p-٣٢٥)كِتابَهُ بِيَمِينِهِ مَعَ النّاجِينَ مِنَ النّارِ، ويَكُونُ ذَلِكَ يَأْنَسُ بِهِ مُدَّةَ العَذابِ. وقِيلَ: لا يَأْخُذُهُ حَتّى يَخْرُجَ مِنَ النّارِ، وإيمانُهُ أنِيسُهُ مُدَّةَ العَذابِ. قِيلَ: وهَذا يَظْهَرُ؛ لِأنَّ مَن يُسارُ بِهِ إلى النّارِ كَيْفَ يَقُولُ: ﴿هاؤُمُ اقْرَءُوا كِتابِيَهْ﴾ ؟ وهَلْ هَذا إلّا اسْتِبْشارٌ وسُرُورٌ ؟ فَلا يُناسِبُ دُخُولَ النّارِ. وهاؤُمُ إنْ كانَ مَدْلُولَها خُذْ، فَهي مُتَسَلِّطَةٌ عَلى ”كِتابِيَهْ“ بِغَيْرِ واسِطَةٍ، وإنْ كانَ مَدْلُولُها تَعالَوْا، فَهي مُتَعَدِّيَةٌ إلَيْهِ بِواسِطَةِ إلى، و”كِتابِيَهْ“ يَطْلُبُهُ هاؤُمُ واقْرَءُوا. فالبَصْرِيُّونَ يُعْمِلُونَ ”اقْرَءُوا“، والكُوفِيُّونَ يُعْمِلُونَ ”هاؤُمُ“، وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى جَوازِ التَّنازُعِ بَيْنَ اسْمِ الفِعْلِ والقَسَمِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (كِتابِيَهْ) و(حِسابِيَهْ) في مَوْضِعَيْهِما، و﴿مالِيَهْ﴾ و﴿سُلْطانِيَهْ﴾ وفي القارِعَةِ: (ماهِيَهْ) بِإثْباتِ هاءِ السَّكْتِ وقْفًا ووَصْلًا لِمُراعاةِ خَطِّ المُصْحَفِ. وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِحَذْفِها وصْلًا ووَقْفًا وإسْكانِ الياءِ، وذَلِكَ كِتابِي وحِسابِي ومالِي وسُلْطانِي، ولَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ فِيما وقَفْتُ عَلَيْهِ في (ماهِيَهْ) في القارِعَةِ. وابْنُ أبِي إسْحاقَ والأعْمَشُ: بِطَرْحِ الهاءِ فِيهِما في الوَصْلِ لا في الوَقْفِ، وطَرَحَهُما حَمْزَةُ في مالِي وسُلْطانِي، وما هي في الوَصْلِ لا في الوَقْفِ، وفَتَحَ الياءَ فِيهِنَّ. وما قالَهُ الزَّهْراوِيُّ مِن أنَّ إثْباتَ الهاءِ في الوَصْلِ لَحْنٌ لا يَجُوزُ عِنْدَ أحَدٍ عَلِمْتُهُ لَيْسَ كَما قالَ، بَلْ ذَلِكَ مَنقُولٌ نَقْلَ التَّواتُرِ فَوَجَبَ قَبُولُهُ. ﴿إنِّي ظَنَنْتُ﴾ أيْ: أيْقَنْتُ، ولَوْ كانَ ظَنًّا فِيهِ تَجْوِيزٌ لَكانَ كُفْرًا. ﴿فَهُوَ في عِيشَةٍ راضِيَةٍ﴾: ذاتِ رِضًا. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ والفَرّاءُ: راضِيَةٍ مَرْضِيَّةٍ، كَقَوْلِهِ: ﴿مِن ماءٍ دافِقٍ﴾ [الطارق: ٦] أيْ: مَدْفُوقٍ. ﴿فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ﴾ أيْ: مَكانًا وقَدْرًا. ﴿قُطُوفُها﴾ أيْ: ما يَجْنِي مِنها ﴿دانِيَةٌ﴾ أيْ: قَرِيبَةُ التَّناوُلِ يُدْرِكُها القائِمُ والقاعِدُ والمُضْطَجِعُ بِفِيهِ مِن شَجَرَتِها. كُلُوا واشْرَبُوا أيْ: يُقالُ، و﴿هَنِيئًا﴾ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْهِ في أوَّلِ النِّساءِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَنِيئًا أكْلًا وشُرْبًا هَنَيِئًا، أوْ هَنِيتُمُ هَنِيئًا عَلى المَصْدَرِ. انْتَهى. فَقَوْلُهُ: أكْلًا وشُرْبًا هَنِيئًا يَظْهَرُ مِنهُ جَعْلُ هَنِيئًا صِفَةً لِمَصْدَرَيْنِ، ولا يَجُوزُ ذَلِكَ إلّا عَلى تَقْدِيرِ الإضْمارِ عِنْدَ مَن يُجِيزُ ذَلِكَ، أيْ: أكْلًا هَنِيئًا وشُرْبًا هَنِيئًا. ﴿بِما أسْلَفْتُمْ﴾ أيْ: قَدَّمْتُمْ مِنَ العَمَلِ الصّالِحِ ﴿فِي الأيّامِ الخالِيَةِ﴾: يَعْنِي أيّامَ الدُّنْيا. وقالَ مُجاهِدٌ وابْنُ جُبَيْرٍ ووَكِيعٌ وعَبْدُ العَزِيزِ بْنُ رَفِيعٍ: أيّامُ الصَّوْمِ، أيْ: بَدَلُ ما أمْسَكْتُمْ عَنِ الأكْلِ والشُّرْبِ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعالى. والظّاهِرُ العُمُومُ في قَوْلِهِ: ﴿بِما أسْلَفْتُمْ﴾ أيْ: مِنَ الأعْمالِ الصّالِحَةِ. ﴿يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ﴾: لَمّا رَأى فِيهِ قَبائِحَ أفْعالِهِ، وما يَصِيرُ أمْرُهُ إلَيْهِ، تَمَنّى أنَّهُ لَمْ يُعْطَهُ، وتَمَنّى أنَّهُ لَمْ يَدْرِ حِسابَهُ، فَإنَّهُ انْجَلى عَنْهُ حِسابُهُ عَنْ ما يَسُوءُهُ فِيهِ، إذْ كانَ عَلَيْهِ لا لَهُ. يا لَيْتَها أيِ: المَوْتَةُ الَّتِي مِتُّها في الدُّنْيا ﴿كانَتِ القاضِيَةَ﴾ أيِ: القاطِعَةَ لِأمْرِي، فَلَمْ أُبْعَثْ ولَمْ أُعَذَّبْ، أوْ يا لَيْتَ الحالَةَ الَّتِي انْتَهَيْتُ إلَيْها الآنَ كانَتِ المَوْتَةَ الَّتِي مِنها في الدُّنْيا؛ حَيْثُ رَأى أنَّ حالَتَهُ الَّتِي هو فِيها أمَرُّ مِمّا ذاقَهُ مِنَ المَوْتَةِ، وكَيْفَ لا وأمْرُهُ آلَ إلى عَذابٍ لا يَنْقَطِعُ ؟ ﴿ما أغْنى عَنِّي مالِيَهْ﴾: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ نَفْيًا مَحْضًا، أخْبَرَ بِذَلِكَ مِتَأسِّفًا عَلى مالِهِ حَيْثُ لَمْ يَنْفَعُهُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ اسْتِفْهامًا وبَّخَ بِهِ نَفْسَهُ وقَرَّرَها عَلَيْهِ. ﴿هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ﴾ أيْ: حُجَّتِي، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ والضَّحّاكُ وعِكْرِمَةُ والسُّدِّيُّ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَقُولُ ذَلِكَ مُلُوكُ الدُّنْيا. وكانَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ ابْنُ بُوَيْهٍ لَمّا تَسَمّى بِمَلِكِ الأمْلاكِ غَلّابِ القَدَرِ لَمْ يُفْلِحْ وجُنَّ، فَكانَ لا يَنْطَلِقُ لِسانُهُ إلّا بِقَوْلِهِ: ﴿هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ﴾ . ﴿خُذُوهُ﴾ أيْ: يُقالُ لِلزَّبانِيَةِ ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ﴾ أيِ: اجْعَلُوا في عُنُقِهِ غُلًّا ﴿ثُمَّ الجَحِيمَ صَلُّوهُ﴾ . قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ثُمَّ لا تُصَلُّوهُ إلّا الجَحِيمَ، وهي النّارُ العُظْمى؛ لِأنَّهُ كانَ سُلْطانًا يَتَعَظَّمُ عَلى النّاسِ. يُقالُ: صَلِيَ النّارَ وصَلّاهُ النّارَ. انْتَهى، وإنَّما قَدَرُهُ لا تُصَلُّوهُ إلّا الجَحِيمَ؛ لِأنَّهُ يَزْعُمُ أنَّ تَقْدِيمَ المَفْعُولِ يَدُلُّ عَلى الحَصْرِ. وقَدْ تَكَلَّمْنا مَعَهُ في ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] ولَيْسَ ما قالَهُ مَذْهَبًا لِـ سِيبَوَيْهِ ولا لِحُذّاقِ النُّحاةِ. وأمّا قَوْلُهُ: لِأنَّهُ كانَ سُلْطانًا يَتَعَظَّمُ عَلى النّاسِ، فَهَذا قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ، وهو مَرْجُوحٌ، والرّاجِحُ قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ ومَن ذُكِرَ مَعَهُ: أنَّ السُّلْطانَ هُنا هو الحُجَّةُ الَّتِي كانَ يَحْتَجُّ بِها في الدُّنْيا؛ لِأنَّ مَن أُوتِيَ كِتابُهُ بِشَمالِهِ (p-٣٢٦)لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالمُلُوكِ، بَلْ هو عامٌّ في جَمِيعِ أهْلِ الشَّقاوَةِ. ﴿ثُمَّ في سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها﴾ أيْ: قِياسُها ومِقْدارُ طُولِها ﴿سَبْعُونَ ذِراعًا﴾ يَجُوزُ أنْ يُرادَ ظاهِرُهُ مِنَ العَدَدِ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ المُبالَغَةُ في طُولِها وإنْ لَمْ يَبْلُغْ هَذا العَدَدَ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ جُرَيْجٍ ومُحَمَّدُ بْنُ المُنْكَدِرِ: بِذِراعِ المَلَكِ. وقالَ نَوْفٌ الَبِكالِيُّ وغَيْرُهُ: الذِّراعُ سَبْعُونَ باعًا، في كُلِّ باعٍ كَما بَيْنَ مَكَّةَ والكُوفَةِ، وهَذا يَحْتاجُ إلى نَقْلٍ صَحِيحٍ. وقالَ الحَسَنُ: اللَّهُ أعْلَمُ بِأيِّ ذِراعٍ هي. وقِيلَ: بِالذِّراعِ المَعْرُوفِ، وإنَّما خاطَبَنا تَعالى بِما نَعْرِفُهُ ونُحَصِّلُهُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَوْ وُضِعَ مِنها حَلْقَةٌ عَلى جَبَلٍ لَذابَ كالرَّصاصِ. ﴿فاسْلُكُوهُ﴾ أيْ: أدْخِلُوهُ، كَقَوْلِهِ: ﴿فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ﴾ [الزمر: ٢١] والظّاهِرُ أنَّهُ يُدْخِلُهُ في السِّلْسِلَةِ، ولِطُولِها تَلْتَوِي عَلَيْهِ مِن جَمِيعِ جِهاتِهِ، فَيَبْقى داخِلًا فِيها مَضْغُوطًا حَتّى تَعُمَّهُ. وقِيلَ: في الكَلامِ قَلْبٌ، والسِّلْسِلَةُ تَدْخُلُ في فَمِهِ وتَخْرُجُ مِن دُبُرِهِ، فَهي في الحَقِيقَةِ الَّتِي تُسْلَكُ فِيهِ، ولا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلى إخْراجِ الكَلامِ عَنْ ظاهِرِهِ، إلّا إنْ دَلَّ الدَّلِيلُ الصَّحِيحُ عَلى خِلافِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والمَعْنى في تَقْدِيمِ السِّلْسِلَةِ عَلى السَّلْكِ مِثْلُهُ في تَقْدِيمِ الجَحِيمِ عَلى التَّصْلِيَةِ، أيْ: لا تَسْلُكُوهُ إلّا في هَذِهِ السِّلْسِلَةِ، كَأنَّها أفْظَعُ مِن سائِرِ مَواضِعِ الإرْهاقِ في الجَحِيمِ. ومَعْنى ”ثُمَّ“ الدَّلالَةُ عَلى تَفاوُتِ ما بَيْنَ الغُلِّ والتَّصْلِيَةِ بِالجَحِيمِ، وما بَيْنَها وبَيْنَ السِّلْكِ في السِّلْسِلَةِ، لا عَلى تَراخِي المُدَّةِ. انْتَهى. وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ مِن مَذْهَبِهِ الحَصْرَ في تَقْدِيمِ المَعْمُولِ، وأمّا ”ثُمَّ“ فَيُمْكِنُ بَقاؤُها عَلى مَوْضُوعِها مِنَ المُهْلَةِ الزَّمانِيَّةِ، وأنَّهُ أوَّلًا يُؤْخَذُ فَيُغَلُّ. ولَمّا لَمْ يُعَذَّبْ بِالعَجَلَةِ، صارَتْ لَهُ اسْتِراحَةً، ثُمَّ جاءَ تَصْلِيَةَ الجَحِيمِ، فَكانَ ذَلِكَ أبْلَغَ في عَذابِهِ، إذْ جاءَهُ ذَلِكَ وقَدْ سَكَنَتْ نَفْسُهُ قَلِيلًا، ثُمَّ جاءَ سَلْكُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ كَوْنِهِ مَغْلُولًا مُعَذَّبًا في النّارِ، لَكِنَّهُ كانَ لَهُ انْتِقالٌ مِن مَكانٍ إلى مَكانٍ، فَيَجِدُ بِذَلِكَ بَعْضَ تَنَفُّسٍ. فَلَمّا سُلِكَ في السِّلْسِلَةِ كانَ ذَلِكَ أشُدَّ ما عَلَيْهِ مِنَ العَذابِ، حَيْثُ صارَ لا حِراكَ لَهُ ولا انْتِقالَ، وأنَّهُ يَضِيقُ عَلَيْهِ غايَةً، فَهَذا يَصِحُّ فِيهِ أنْ تَكُونَ ”ثُمَّ“ عَلى مَوْضُوعِها مِنَ المُهْلَةِ الزَّمانِيَّةِ. ﴿إنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ﴾ . بَدَأ بِأقْوى أسْبابِ تَعْذِيبِهِ وهو كُفْرُهُ بِاللَّهِ، و”إنَّهُ“ تَعْلِيلٌ مُسْتَأْنِفٌ، كَأنَّ قائِلًا قالَ: لِمَ يُعَذَّبُ هَذا العَذابَ البَلِيغَ ؟ . وقِيلَ: ﴿إنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ﴾ وعَطْفُ ﴿ولا يَحُضُّ﴾ عَلى ﴿لا يُؤْمِنُ﴾ داخِلٌ في العِلَّةِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى عِظَمِ ذَنْبِ مَن لا يَحُضُّ عَلى إطْعامِ المِسْكِينِ، إذْ جُعِلَ قَرِينَ الكُفْرِ، وهَذا حُكْمُ تَرْكِ الحَضِّ، فَكَيْفَ يَكُونُ تَرْكُ الإطْعامِ ؟ والتَّقْدِيرُ عَلى إطْعامِ طَعامِ المِسْكِينِ. وأضافَ الطَّعامَ إلى المِسْكِينِ مِن حَيْثُ لَمْ يَنْسُبْهُ إلَيْهِ، إذْ يَسْتَحِقُّ المِسْكِينُ حَقًّا في مالِ الغَنِيِّ المُوسِرِ ولَوْ بِأدْنى يَسارٍ. ولِلْعَرَبِ في مَكارِمِهِمْ وإيثارِهِمْ آثارٌ عَجِيبَةٌ غَرِيبَةٌ بِحَيْثُ لا تُوجَدُ في غَيْرِهِمْ، وما أحْسَنَ ما قِيلَ فِيهِمْ: ؎عَلى مُكْثِرِيهِمْ رِزْقُ مَن يَعْتَرِيهِمْ وعِنْدَ المُقِلِّينَ السَّماحَةُ والبَذْلُ وكانَ أبُو الدَّرْداءِ يَحُضُّ امْرَأتَهُ عَلى تَكْثِيرِ الرِّزْقِ لِأجْلِ المَساكِينِ، ويَقُولُ: خَلَعْنا نِصْفَ السِّلْسِلَةِ بِالإيمانِ، أفَلا نَخْلَعُ نِصْفَها الآخَرَ ؟ وقِيلَ: هو مَنعُ الكُفّارِ. وقَوْلُهم: ﴿أنُطْعِمُ مَن لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أطْعَمَهُ﴾ [يس: ٤٧] يَعْنِي أنَّهُ إذا نُفِيَ الحَضُّ انْتَفى الإطْعامُ بِجِهَةِ الأوْلى، كَما صَرَّحَ بِهِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ ولَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ﴾ [المدثر: ٤٣] . ﴿فَلَيْسَ لَهُ اليَوْمَ ها هُنا حَمِيمٌ﴾ أيْ: صَدِيقٌ مُلاطِفٌ وادٌّ ﴿الأخِلّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ [الزخرف: ٦٧] . وقِيلَ: قَرِيبٌ يَدْفَعُ عَنْهُ. ﴿ولا طَعامٌ إلّا مِن غِسْلِينٍ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هو صَدِيدُ أهْلِ النّارِ. وقالَ قَتادَةُ وابْنُ زَيْدٍ: هو والزَّقُّومُ أخْبَثُ شَيْءٍ وأبْشَعَهُ. وقالَ الضَّحّاكُ والرَّبِيعُ: هو شَجَرٌ يَأْكُلُهُ أهْلُ النّارِ. وقِيلَ: هو شَيْءٌ يَجْرِي مِن أهْلِ النّارِ، يَدُلُّ عَلى هَذا قَوْلُهُ في الغاشِيَةِ: ﴿لَيْسَ لَهم طَعامٌ إلّا مِن ضَرِيعٍ﴾ [الغاشية: ٦] فَهُما شَيْءٌ واحِدٌ أوْ مُتَداخِلانِ. قِيلَ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونا مُتَبايِنَيْنِ، وأخْبَرَ بِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما عَنْ طائِفَةٍ غَيْرِ الطّائِفَةِ الَّتِي الآخَرُ طَعامُها، و”لَهُ“ خَبَرُ لَيْسَ. وقالَ المَهْدَوِيُّ: ولا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ ”هاهُنا“، ولَمْ يُبَيِّنُ ما المانِعُ (p-٣٢٧)مِن ذَلِكَ. وتَبِعَهُ القُرْطُبِيُّ في ذَلِكَ، وقالَ: لِأنَّ المَعْنى يَصِيرُ لَيْسَ هاهُنا طَعامٌ إلّا مِن غِسْلِينٍ، ولا يَصِحُّ ذَلِكَ؛ لِأنَّ ثَمَّ طَعامًا غَيْرَهُ، و”هاهُنا“ مُتَعَلِّقٌ بِما في ”لَهُ“ مِن مَعْنى الفِعْلِ. انْتَهى. وإذا كانَ ثَمَّ غَيْرُهُ مِنَ الطَّعامِ، وكانَ الأكْلُ غَيْرَ أكْلٍ آخَرَ، صَحَّ الحَصْرُ بِالنِّسْبَةِ إلى اخْتِلافِ الأكْلَيْنِ. وأمّا إنْ كانَ الضَّرِيعُ هو الغِسْلِينُ، كَما قالَ بَعْضُهم، فَلا تَناقُضَ، إذِ المَحْصُورُ في الآيَتَيْنِ هو شَيْءٌ واحِدٌ، وإنَّما يَمْتَنِعُ ذَلِكَ مِن وجْهٍ غَيْرَ ما ذَكَرَهُ، وهو أنَّهُ إذا جَعَلْنا الخَبَرَ ”هاهُنا“ كانَ ”لَهُ واليَوْمَ“ مُتَعَلِّقَيْنِ بِما تَعَلَّقَ بِهِ الخَبَرُ، وهو العامِلُ في هاهُنا، وهو عامِلٌ مَعْنَوِيٌّ، فَلا يَتَقَدَّمُ مَعْمُولُهُ عَلَيْهِ. فَلَوْ كانَ العامِلُ لَفْظِيًّا جازَ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ﴾ [الإخلاص: ٤] فَلَهُ مُتَعَلِّقٌ بِـ (كُفْوًا) وهو خَبَرٌ لِـ (يَكُنْ) . وقَرَأ الجُمْهُورُ: ”الخاطِئُونَ“ بِالهَمْزِ اسْمُ فاعِلٍ مِن خَطِئَ، وهو الَّذِي يَفْعَلُ ضِدَّ الصَّوابِ مُتَعَمِّدًا لِذَلِكَ، والمُخْطِئُ الَّذِي يَفْعَلُهُ غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ. وقَرَأ الحَسَنُ والزُّهْرِيُّ والعَتَكِيُّ وطَلْحَةُ في نَقْلٍ: بِياءٍ مَضْمُومَةٍ بَدَلًا مِنَ الهَمْزَةِ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ وشَيْبَةُ وطَلْحَةُ ونافِعٌ: بِخِلافٍ عَنْهُ، بِضَمِّ الطّاءِ دُونَ هَمْزٍ، فالظّاهِرُ اسْمُ فاعِلٍ مِن خَطِئَ كَقِراءَةِ مَن هَمَزَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يُرادَ: الَّذِينَ يَتَخَطَّوْنَ الحَقَّ إلى الباطِلِ ويَتَعَدَّوْنَ حُدُودَ اللَّهِ. انْتَهى. فَيَكُونُ اسْمَ فاعِلٍ مَن خَطا يَخْطُو، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ﴾ [النور: ٢١] ﴿ومَن يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ﴾ [النور: ٢١] خَطا إلى المَعاصِي.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب