الباحث القرآني

﴿فَتَرى القَوْمَ فِيها﴾ أيْ: في اللَّيالِي والأيّامِ، أوْ في دِيارِهِمْ، أوْ في مَهابِّ الرِّيحِ. احْتِمالاتٌ أظْهَرُها الأوَّلُ لِأنَّهُ أقْرَبُ ومُصَرَّحٌ بِهِ. وقَرَأ أبُو نَهيِكٍ: أعْجُزٌ، عَلى وزْنٍ أفْعُلٍ، كَضَبْعٍ وأضْبُعٍ. وحَكى الأخْفَشُ أنَّهُ قُرِئَ: (نَخِيلٍ خاوِيَةٍ) خَلَتْ أعْجازُها بِلًى وفَسادًا. وقالَ ابْنُ شَجَرَةَ: كانَتْ تَدْخُلُ مِن أفْواهِهِمْ فَتُخْرِجُ ما في أجْوافِهِمْ مِنَ الحَسْوِ مِن أدْبارِهِمْ، فَصارُوا كالنَّخْلِ الخاوِيَةِ. وقالَ يَحْيى بْنُ سَلّامٍ: خَلَتْ أبْدانُهم مِن أرْواحِهِمْ. وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كانُوا في سَبْعَةِ أيّامٍ في عَذابٍ، ثُمَّ في الثّامِنِ ماتُوا وألْقَتْهُمُ الرِّيحُ في البَحْرِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَهَلْ تَرى لَهم مِن باقِيَةٍ﴾ . وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: ﴿مِن باقِيَةٍ﴾ أيْ: مِن باقٍ، والهاءُ لِلْمُبالَغَةِ. وقالَ أيْضًا: مِن فِئَةٍ باقِيَةٍ. وقِيلَ: ﴿مِن باقِيَةٍ﴾: مِن بَقاءٍ مَصْدَرٌ جاءَ عَلى فاعِلَةٍ كالعاقِبَةِ. وقَرَأ أبُو رَجاءٍ وطَلْحَةُ والجَحْدَرِيُّ والحَسَنُ بِخِلافٍ عَنْهُ. وعاصِمٌ في رِوايَةِ أبانٍ، والنَّحْوِيّانِ: (ومَن قِبَلَهُ) بِكَسْرِ القافِ وفَتْحِ الباءِ أيْ: أجْنادُهُ وأهْلُ طاعَتِهِ، وتَقُولُ: زَيْدٌ قِبَلَكَ أيْ: فِيما يَلِيكَ مِنَ المَكانِ. وكَثُرَ اسْتِعْمالُ قِبَلَكَ حَتّى صارَ بِمَنزِلَةِ عِنْدَكَ وفي جِهَتِكَ وما يَلِيكَ بِأيِّ وجْهٍ ولِيَ. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ وأبُو جَعْفَرٍ وشَيْبَةُ والسُّلَمِيُّ: ومَن قَبْلَهُ ظَرْفُ زَمانٍ أيِ: الأُمَمُ الكافِرَةُ الَّتِي كانَتْ قَبْلَهُ، كَقَوْمِ نُوحٍ، وقَدْ أشارَ إلى شَيْءٍ مِن حَدِيثِهِ بَعْدَ هَذا. ﴿والمُؤْتَفِكاتُ﴾: قُرى قَوْمِ لُوطٍ. وقَرَأ الحَسَنُ هُنا: (والمُؤْتَفِكَةُ) عَلى الإفْرادِ ﴿بِالخاطِئَةِ﴾ أيْ: بِالفِعْلَةِ أوِ الفِعْلاتِ الخاطِئَةِ، قالَهُ مُجاهِدٌ، أوْ بِالخَطَأِ، فَيَكُونُ مَصْدَرًا جاءَ عَلى فاعِلَةٍ كالعاقِبَةِ، قالَهُ الجُرْجانِيُّ. ﴿فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ﴾ (p-٣٢٢)(رَسُولَ) جِنْسٌ، وهو مَن جاءَهم مِن عِنْدِ اللَّهِ - تَعالى - كَـ مُوسى ولُوطٍ عَلَيْهِما السَّلامُ. وقِيلَ: لُوطٌ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أعادَهُ عَلى أقْرَبِ مَذْكُورٍ، وهو رَسُولِ المُؤْتَفِكاتِ. وقالَ الكَلْبِيُّ: مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - أعادَهُ عَلى الأسْبَقِ وهو رَسُولُ فِرْعَوْنَ. وقِيلَ: رَسُولٌ بِمَعْنى رِسالَةٍ ﴿رابِيَةً﴾ أيْ: نامِيَةً. قالَ مُجاهِدٌ: شَدِيدَةً، يُرِيدُ أنَّها زادَتْ عَلى غَيْرِها مِنَ الأخْذاتِ، وهي الغَرَقُ وقَلْبُ المَدائِنِ. ﴿إنّا لَمّا طَغى الماءُ﴾ أيْ: زادَ وعَلا عَلى أعْلى جَبَلٍ في الدُّنْيا خَمْسَ عَشْرَةَ ذِراعًا. قالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: طَغى عَلى الخُزّانِ، كَما طَغَتِ الرِّيحُ عَلى خُزّانِها ﴿حَمَلْناكُمْ﴾ أيْ: في أصْلابِ آبائِكم ﴿فِي الجارِيَةِ﴾: هي سَفِينَةُ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ، وكَثُرَ اسْتِعْمالُ الجارِيَةِ في السَّفِينَةِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومِن آياتِهِ الجَوارِ في البَحْرِ كالأعْلامِ﴾ [الشورى: ٣٢] وقالَ الشّاعِرُ: ؎تِسْعُونَ جارِيَةً في بَطْنِ جارِيَةٍ وقالَ المَهْدَوِيُّ: المَعْنى في السُّفُنِ الجارِيَةِ، يَعْنِي أنَّ ذَلِكَ هو عَلى سَبِيلِ الِامْتِنانِ، والمَحْمُولُونَ هُمُ المُخاطَبُونَ. ﴿لِنَجْعَلَها﴾ أيْ: سَفِينَةُ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ﴿لَكم تَذْكِرَةً﴾ بِما جَرى لِقَوْمِهِ الهالِكِينَ، وقَوْمِهِ النّاجِينَ فِيها وعِظَةً. قالَ قَتادَةُ: أدْرَكَها أوائِلُ هَذِهِ الأُمَّةِ. وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كانَتْ ألْواحُها عَلى الجُودِيِّ. وقِيلَ: لِنَجْعَلَ تِلْكَ الجُمْلَةِ في سَفِينَةِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَكم مَوْعِظَةً تَذْكُرُونَ بِها نَجاةَ آبائِكم وإغْراقَ مُكَذِّبِي نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ﴿وتَعِيَها﴾ أيْ: تَحْفَظُ قِصَّتَها (أُذُنٌ) مِن شَأْنِها أنْ تَعِيَ المَواعِظَ، يُقالُ: وعَيْتُ لِما حُفِظَ في النَّفْسِ، وأوْعَيْتُ لِما حُفِظَ في غَيْرِ النَّفْسِ مِنَ الأوْعِيَةِ. وقالَ قَتادَةُ: الواعِيَةُ هي الَّتِي عَقَلَتْ عَنِ اللَّهِ، وانْتَفَعَتْ بِما سَمِعَتْ مِن كِتابِ اللَّهِ. وفي الحَدِيثِ، أنَّهُ ﷺ قالَ لَـ عَلِيٍّ: «إنِّي دَعَوْتُ اللَّهَ تَعالى أنْ يَجْعَلَها أُذُنَكَ يا عَلِيُّ» . قالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ: فَما سَمِعْتُ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا فَنَسِيتُهُ، وقَرَأها: وتَعِيَها، بِكَسْرِ العَيْنِ وتَخْفِيفِ الياءِ العامَّةِ. وابْنُ مُصَرِّفٍ وأبُو عَمْرٍو في رِوايَةِ هارُونَ وخارِجَةَ عَنْهُ. وقُنْبُلٌ بِخِلافٍ عَنْهُ: بِإسْكانِها. وحَمْزَةُ: بِإخْفاءِ الحَرَكَةِ، ووَجْهُ الإسْكانِ التَّشْبِيهُ في الفِعْلِ بِما كانَ عَلى وزْنِ فِعْلٍ في الِاسْمِ والفِعْلِ. نَحْوُ: كِبْدٌ وعِلْمٌ. وتَعِي لَيْسَ عَلى وزْنِ فِعْلٍ، بَلْ هو مُضارِعُ وعِيَ، فَصارَ إلى فِعْلٍ وأصْلُهُ حُذِفَتْ واوُهُ. ورَوى عَنْ عاصِمٍ عِصْمَةُ وحَمْزَةُ الأزْرَقُ: وتَعِيَّها بِتَشْدِيدِ الياءِ، قِيلَ: وهو خَطَأٌ ويَنْبَغِي أنْ يُتَأوَّلَ عَلى أنَّهُ أُرِيدَ بِهِ شِدَّةُ بَيانِ الياءِ احْتِرازًا مِمَّنْ سَكَّنَها، لا إدْغامَ حَرْفٍ في حَرْفٍ، ولا يَنْبَغِي أنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ مِن بابِ التَّضْعِيفِ في الوَقْفِ، ثُمَّ أجْرى الوَصْلَ مَجْرى الوَقْفِ، وإنْ كانَ قَدْ ذَهَبَ إلى ذَلِكَ بَعْضُهم. ورُوِيَ عَنْ حَمْزَةَ، وعَنْ مُوسى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ العَنْسِيِّ: وتَعِيها بِإسْكانِ الياءِ، فاحْتَمَلَ الِاسْتِئْنافُ وهو الظّاهِرُ، واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ مِثْلَ قِراءَةِ ”مِن أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهالِيكم“ بِسُكُونِ الياءِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): لِمَ قِيلَ ﴿أُذُنٌ واعِيَةٌ﴾ عَلى التَّوْحِيدِ والتَّنْكِيرِ ؟ (قُلْتُ): لِلْإيذانِ بِأنَّ الوُعاةَ فِيهِمْ قِلَّةٌ، ولِتَوْبِيخِ النّاسِ بِقِلَّةِ مَن يَعِي مِنهم، ولِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ الأُذُنَ الواحِدَةَ إذا وعَتْ وعَقَلَتْ عَنِ اللَّهِ تَعالى فَهي السَّوادُ الأعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى، وأنَّ ما سِواها لا يُبالِي بِآلَةٍ وإنْ مَلَأُوا ما بَيْنَ الخافِقَيْنِ. انْتَهى، وفِيهِ تَكْثِيرٌ. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى ما فَعَلَ بِمُكَذِّبِي الرُّسُلِ مِنَ العَذابِ في الدُّنْيا، ذَكَرَ أمْرَ الآخِرَةِ وما يَعْرِضُ فِيها لِأهْلِ السَّعادَةِ وأهْلِ الشَّقاوَةِ، وبَدَأ بِإعْلامِ يَوْمِ القِيامَةِ، فَقالَ: ﴿فَإذا نُفِخَ في الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ﴾ وهَذِهِ النَّفْخَةُ نَفْخَةُ الفَزَعِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: وهي النَّفْخَةُ الأُولى الَّتِي يَحْصُلُ عَنْها خَرابُ العالَمِ، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وحُمِلَتِ الأرْضُ والجِبالُ﴾ . وقالَ ابْنُ المُسَيَّبِ ومُقاتِلٌ: هي النَّفْخَةُ الآخِرَةُ، وعَلى هَذا لا يَكُونُ الدَّكُّ بَعْدَ النَّفْخِ، والواوُ لا تُرَتِّبُ. ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا، ولَمّا كانَتْ مَرَّةً أُكِّدَتْ بِقَوْلِهِ: (واحِدَةً) . وقَرَأ الجُمْهُورُ: نَفْخَةٌ واحِدَةٌ، بِرَفْعِهِما، ولَمْ تَلْحَقِ التّاءُ نَفَخَ؛ لِأنَّ تَأْنِيثَ النَّفْخَةِ مَجازِيٌّ ووَقَعَ الفَصْلُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمّا نُعِتَ صَحَّ رَفْعُهُ. انْتَهى. ولَوْ لَمْ يُنْعَتْ لَصَحَّ؛ لِأنَّ نَفْخَةَ مَصْدَرٌ مَحْدُودٌ ونَعْتُهُ لَيْسَ بِنَعْتِ تَخْصِيصٍ، إنَّما هو نَعْتُ تَوْكِيدٍ. (p-٣٢٣)وقَرَأ أبُو السَّمّالِ: بِنَصْبِهِما، أقامَ الجارَّ والمَجْرُورَ مَقامَ الفاعِلِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (وحُمِلَتْ) بِتَخْفِيفِ المِيمِ. وابْنُ أبِي عَبْلَةَ وابْنُ مِقْسَمٍ والأعْمَشُ، وابْنُ عامِرٍ في رِوايَةِ يَحْيى: بِتَشْدِيدِها، فالتَّخْفِيفُ عَلى أنْ تَكُونَ الأرْضُ والجِبالُ حَمَلَتْها الرِّيحُ العاصِفُ أوِ المَلائِكَةُ، أوِ القُدْرَةُ مِن غَيْرِ واسِطَةِ مَخْلُوقٍ. ويَبْعُدُ قَوْلُهُ مَن قالَ: إنَّها الزَّلْزَلَةُ؛ لِأنَّ الزَّلْزَلَةَ لَيْسَ فِيها حَمْلٌ، إنَّما هي اضْطِرابٌ. والتَّشْدِيدُ عَلى أنْ تَكُونَ لِلتَّكْثِيرِ، أوْ يَكُونَ التَّضْعِيفُ لِلنَّقْلِ، فَجازَ أنْ تَكُونَ الأرْضُ والجِبالُ المَفْعُولَ الأوَّلَ أُقِيمَ مَقامَ الفاعِلِ، والثّانِي مَحْذُوفٌ، أيْ: رِيحًا تُفَتِّتُها أوْ مَلائِكَةً أوْ قُدْرَةً. وجازَ أنْ يَكُونَ الثّانِي أُقِيمَ مَقامَ الفاعِلِ، والأوَّلُ مَحْذُوفٌ، وهو واحِدٌ مِنَ الثَّلاثَةِ المُقَدَّرَةِ. وثُنِّيَ الضَّمِيرُ في ﴿فَدُكَّتا﴾ وإنْ كانَ قَدْ تَقَدَّمَهُ ما يَعُودُ عَلَيْهِ ضَمِيرُ الجَمْعِ؛ لِأنَّ المُرادَ جُمْلَةُ الأرْضِ وجُمْلَةُ الجِبالِ، أيْ: ضَرَبَ بَعْضُها بِبَعْضٍ حَتّى تَفَتَّتَتْ، وتَرْجِعُ كَما قالَ تَعالى: ﴿كَثِيبًا مَهِيلًا﴾ [المزمل: ١٤] . والدَّكُّ فِيهِ تَفَرُّقُ الأجْزاءِ لِقَوْلِهِ: (هَباءً) والدَّقُّ فِيهِ اخْتِلافُ الأجْزاءِ. وقِيلَ: تُبْسَطُ فَتَصِيرُ أرْضًا لا تَرى فِيها عِوَجًا ولا أمْتًا، وهو مِن قَوْلِهِمْ: بَعِيرٌ أدَكُّ وناقَةٌ دَكّاءُ إذا ضَعُفا، فَلَمْ يَرْتَفِعْ سَنامُهُما واسْتَوَتْ عَراجِينُهُما مَعَ ظَهْرَيْهِما. (فَيَوْمئِذٍ) مَعْطُوفٌ عَلى ﴿فَإذا نُفِخَ في الصُّورِ﴾ وهو مَنصُوبٌ بِـ ”وقَعَتْ“، كَما أنَّ ”إذا“ مَنصُوبٌ بِـ ”نُفِخَ“ عَلى ما اخْتَرْناهُ وقَرَّرْناهُ، واسْتَدْلَلْنا لَهُ في أنَّ العامِلَ في ”إذا“ هو الفِعْلُ الَّذِي يَلِيهِما لا الجَوابُ، وإنْ كانَ مُخالِفًا لِقَوْلِ الجُمْهُورِ. والتَّنْوِينُ في ”إذٍ“ لِلْعِوَضِ مِنَ الجُمْلَةِ المَحْذُوفَةِ، وهي في التَّقْدِيرِ: فَيَوْمَ إذْ نُفِخَ في الصُّورِ وجَرى كَيْتَ وكَيْتَ، و”الواقِعَةُ“ هي القِيامَةُ، وقَدْ تَقَدَّمَ في ﴿إذا وقَعَتِ الواقِعَةُ﴾ [الواقعة: ١] أنَّ بَعْضَهم قالَ: هي صَخْرَةُ بَيْتِ المَقْدِسِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب