الباحث القرآني
سُورَةُ الصَّفِّ مَدَنِيَّةٌ وهي أرْبَعَ عَشْرَةَ آيَةً
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ﴾ ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ﴾ ﴿إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفًّا كَأنَّهم بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ﴾ ﴿وإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْم لِمَ تُؤْذُونَنِي وقَدْ تَعْلَمُونَ أنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكم فَلَمّا زاغُوا أزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهم واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ﴾ ﴿وإذْ قالَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إسْرائِيلَ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكم مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ ومُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أحْمَدُ فَلَمّا جاءَهم بِالبَيِّناتِ قالُوا هَذا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ الكَذِبَ وهو يُدْعى إلى الإسْلامِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأفْواهِهِمْ واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ولَوْ كَرِهَ الكافِرُونَ﴾ ﴿هُوَ الَّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدى ودِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ ولَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ﴾ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أدُلُّكم عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكم مِن عَذابٍ ألِيمٍ﴾ ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُجاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ بِأمْوالِكم وأنْفُسِكم ذَلِكم خَيْرٌ لَكم إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ﴿يَغْفِرْ لَكم ذُنُوبَكم ويُدْخِلْكم جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ ومَساكِنَ طَيِّبَةً في جَنّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ ﴿وأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وفَتْحٌ قَرِيبٌ وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ﴾ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَن أنْصارِي إلى اللَّهِ قالَ الحَوارِيُّونَ نَحْنُ أنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ وكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأيَّدْنا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأصْبَحُوا ظاهِرِينَ﴾ (p-٢٦٠)المَرْصُوصُ، قالَ الفَرّاءُ والقاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: هو المَعْقُودُ بِالرَّصاصِ. وقالَ المُبَرِّدُ: رَصَصْتُ البِناءَ: لاءَمْتُ بَيْنَ أجْزائِهِ وقارَبْتُهُ حَتّى يَصِيرَ كَقِطْعَةٍ واحِدَةٍ، قالَ الرّاعِي:
؎ما لَقِيَ البِيضُ مِنَ الحُرْقُوصِ بِفَتْحِ بابِ المُغَلَّفِ المَرْصُوصِ
الحُرْقُوصُ: دُوَيْبَّةٌ تُولَعُ بِالنِّساءِ الأبْكارِ، وقِيلَ: هو مِنَ التَّرْصِيصِ، وهو انْصِمامُ الأسْنانِ.
﴿سَبَّحَ لِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ﴾ ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ﴾ ﴿إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفًّا كَأنَّهم بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ﴾ ﴿وإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وقَدْ تَعْلَمُونَ أنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكم فَلَمّا زاغُوا أزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهم واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ﴾ ﴿وإذْ قالَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ يابَنِي إسْرائِيلَ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكم مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ ومُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أحْمَدُ فَلَمّا جاءَهم بِالبَيِّناتِ قالُوا هَذا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ الكَذِبَ وهو يُدْعى إلى الإسْلامِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأفْواهِهِمْ واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ولَوْ كَرِهَ الكافِرُونَ﴾ ﴿هُوَ الَّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدى ودِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ ولَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ﴾ ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أدُلُّكم عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكم مِن عَذابٍ ألِيمٍ﴾ ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُجاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ بِأمْوالِكم وأنْفُسِكم ذَلِكم خَيْرٌ لَكم إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ﴿يَغْفِرْ لَكم ذُنُوبَكم ويُدْخِلْكم جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ ومَساكِنَ طَيِّبَةً في جَنّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ ﴿وأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وفَتْحٌ قَرِيبٌ وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ﴾ ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَن أنْصارِي إلى اللَّهِ قالَ الحَوارِيُّونَ نَحْنُ أنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ وكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأيَّدْنا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأصْبَحُوا ظاهِرِينَ﴾ .
(p-٢٦١)هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ في قَوْلِ الجُمْهُورِ، ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ ومُجاهِدٌ وعِكْرِمَةُ وقَتادَةُ. وقالَ ابْنُ يَسارٍ: مَكِّيَّةٌ، ورُوِيَ ذَلِكَ أيْضًا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ. وسَبَبُ نُزُولِها قَوْلُ المُنافِقِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ: نَحْنُ مِنكم ومَعَكم، ثُمَّ يَظْهَرُ مِن أفْعالِهِمْ خِلافُ ذَلِكَ؛ أوْ قَوْلُ شَبابٍ مِنَ المُسْلِمِينَ: فَعَلْنا في الغَزْوِ كَذا ولَمْ يَفْعَلُوا؛ أوْ قَوْلُ ناسٍ: ودِدْنا أنْ نَعْرِفَ أحَبَّ الأعْمالِ إلى رَبِّنا حَتّى نُعْنى فِيهِ، فَفَرَضَ الجِهادَ؛ وأعْلَمَ تَعالى بِحُبِّ المُجاهِدِينَ، فَكَرِهَهُ قَوْمٌ وفَرَّ بَعْضُهم يَوْمَ أُحُدٍ، فَنَزَلَتْ أقْوالٌ. الأوَّلُ: لِابْنِ زَيْدٍ، والثّانِي: لِقَتادَةَ، والثّالِثُ: لِابْنِ عَبّاسٍ وأبِي صالِحٍ.
ومُناسَبَتُها لِآخِرِ السُّورَةِ قَبْلَها، أنَّ في آخِرِ تِلْكَ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ [الممتحنة: ١٣]، فاقْتَضى ذَلِكَ إثْباتَ العَداوَةِ بَيْنَهم، فَحَضَّ تَعالى عَلى الثَّباتِ إذا لَقِيَ المُؤْمِنُونَ في الحَرْبِ أعْداءَهم. والنِّداءُ بِـ (يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا)، إنْ كانَ لِلْمُؤْمِنِينَ حَقِيقَةً، فالِاسْتِفْهامُ يُرادُ بِهِ التَّلَطُّفُ في العَتْبِ، وإنْ كانَ لِلْمُنافِقِينَ، فالمَعْنى (يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا): أيْ بِألْسِنَتِهِمْ، والِاسْتِفْهامُ يُرادُ بِهِ الإنْكارُ والتَّوْبِيخُ وتَهَكُّمٌ بِهِمْ في إسْنادِ الإيمانِ إلَيْهِمْ، ولَمْ يَتَعَلَّقْ بِالفِعْلِ وحْدَهُ. ووَقَفَ عَلَيْهِ بِالهاءِ أوْ بِسُكُونِ المِيمِ، ومَن سَكَّنَ في الوَقْفِ فَلِإجْرائِهِ مُجْرى الوَقْفِ، والظّاهِرُ انْتِصابُ (مَقْتًا) عَلى التَّمْيِيزِ، وفاعِلُ (كَبُرَ): أنْ (تَقُولُوا)، وهو مِنَ التَّمْيِيزِ المَنقُولِ مِنَ الفاعِلِ، والتَّقْدِيرُ: كَبُرَ مَقْتُ قَوْلِكم ما لا تَفْعَلُونَ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن بابِ نِعْمَ وبِئْسَ، فَيَكُونُ في كَبُرَ ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ مُفَسَّرٌ بِالتَّمْيِيزِ، وأنْ تَقُولُوا هو المَخْصُوصُ بِالذَّمِّ، أيْ بِئْسَ مَقْتًا قَوْلُكم كَذا، والخِلافُ الجارِي في المَرْفُوعِ في: بِئْسَ رَجُلًا زَيْدٌ، جارٍ في (أنْ تَقُولُوا) هُنا، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في كَبُرَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى المَصْدَرِ المَفْهُومِ مِن قَوْلِهِ: ﴿لِمَ تَقُولُونَ﴾، أيْ كَبُرَ هو، أيِ القَوْلُ مَقْتًا، ومِثْلُهُ كَبُرَتْ كَلِمَةً، أيْ ما أكْبَرَها كَلِمَةً، وأنْ تَقُولُوا بَدَلٌ مِنَ المُضْمَرِ، أوْ خَبَرُ ابْتِداءٍ مُضْمَرٍ. وقِيلَ: هو مِن أبْنِيَةِ التَّعَجُّبِ، أيْ ما أكْبَرَهُ مَقْتًا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَصَدَ في كَبُرَ التَّعَجُّبَ مِن غَيْرِ لَفْظِهِ كَقَوْلِهِ:
؎غَلَّتْ نابُ كُلَيْبٍ بَواؤُها
ومَعْنى التَّعَجُّبِ: تَعْظِيمُ الأمْرِ في قُلُوبِ السّامِعِينَ، لِأنَّ التَّعَجُّبَ لا يَكُونُ إلّا مِن شَيْءٍ خارِجٍ عَنْ نُظَرائِهِ وأشْكالِهِ، وأُسْنِدَ إلى (أنْ تَقُولُوا) ونُصِبَ (مَقْتًا) عَلى تَفْسِيرِهِ، دَلالَةً عَلى أنَّ قَوْلَهم ما لا يَفْعَلُونَ مَقْتٌ خالِصٌ لا شَوْبَ فِيهِ لِفَرْطِ تَمَكُّنِ المَقْتِ مِنهُ، واخْتِيرَ لَفْظُ المَقْتِ لِأنَّهُ أشَدُّ البُغْضِ، ولَمْ يَقْتَصِرْ عَلى أنَّ جَعْلَ البُغْضِ كَثِيرًا حَتّى جُعِلَ أشَدَّهُ وأفْحَشَهُ، وعِنْدَ اللَّهِ أبْلَغُ مِن ذَلِكَ، لِأنَّهُ إذا ثَبَتَ كَبُرَ مَقْتُهُ عِنْدَ اللَّهِ فَقَدْ تَمَّ كِبْرُهُ وشِدَّتُهُ. انْتَهى. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والمَقْتُ: البُغْضُ مِن أجْلِ ذَنْبٍ أوْ رِيبَةٍ أوْ دَناءَةٍ يَصْنَعُها المَمْقُوتُ. انْتَهى. وقالَ المُبَرِّدُ: رَجُلٌ مَمْقُوتٌ ومَقِيتٌ، إذا كانَ يُبْغِضُهُ كُلُّ أحَدٍ. انْتَهى. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يُقاتِلُونَ بِفَتْحِ التّاءِ. وقِيلَ: قُرِئَ يَقْتُلُونَ، وانْتَصَبَ صَفًّا عَلى الحالِ، أيْ صافِّينَ أنْفُسَهم أوْ مَصْفُوفِينَ، كَأنَّهم في تَراصِّهِمْ مِن غَيْرِ فُرْجَةٍ ولا خَلَلٍ بُنْيانٌ رُصَّ بَعْضُهُ إلى بَعْضٍ. والظّاهِرُ تَشْبِيهُ الذَّواتِ في التِحامِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ بِالبُنْيانِ المَرْصُوصِ. وقِيلَ: المُرادُ اسْتِواءُ نِيّاتِهِمْ في الثَّباتِ حَتّى يَكُونُوا في اجْتِماعِ الكَلِمَةِ كالبُنْيانِ المَرْصُوصِ. قِيلَ: وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى فَضْلِ القِتالِ راجِلًا، لِأنَّ الفُرْسانَ لا يَصْطَفُّونَ عَلى هَذِهِ الصِّفَةِ؛ وصْفًا وكَأنَّهم، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حالانِ مُتَداخِلانِ. وقالَ الحَوْفِيُّ: كَأنَّهم في مَوْضِعِ النَّعْتِ لِصَفًّا. انْتَهى. ويَجُوزُ أنْ يَكُونا (p-٢٦٢)حالَيْنِ مِن ضَمِيرِ يُقاتِلُونَ.
ولَمّا كانَ في المُؤْمِنِينَ مَن يَقُولُ ما لا يَفْعَلُ، وهو راجِعٌ إلى الكَذِبِ، فَإنَّ ذَلِكَ في مَعْنى الإذايَةِ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، إذْ كانَ في أتْباعِهِ مَن عانى الكَذِبَ، فَناسَبَ ذِكْرُ قِصَّةِ مُوسى وقَوْلُهُ لِقَوْمِهِ: ﴿لِمَ تُؤْذُونَنِي﴾، وإذايَتُهم لَهُ كانَ بِانْتِقاصِهِ في نَفْسِهِ وجُحُودِ آياتِ اللَّهِ تَعالى واقْتِراحاتِهِمْ عَلَيْهِ ما لَيْسَ لَهُمُ اقْتِراحُهُ، ﴿وقَدْ تَعْلَمُونَ﴾: جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ تَقْتَضِي تَعْظِيمَهُ وتَكْرِيمَهُ، فَرَتَّبُوا عَلى عِلْمِهِمْ أنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ما لا يُناسِبُ العِلْمَ وهو الإذايَةُ، وقَدْ تَدُلُّ عَلى التَّحَقُّقِ في الماضِي والتَّوَقُّعِ في المُضارِعِ، والمُضارِعُ هُنا مَعْناهُ المُضِيُّ، أيْ وقَدْ عَلِمْتُمْ، كَقَوْلِهِ: ﴿قَدْ يَعْلَمُ ما أنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ [النور: ٦٤]، أيْ قَدْ عُلِمَ، ﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ﴾ [البقرة: ١٤٤] . وعُبِّرَ عَنْهُ بِالمُضارِعِ لِيَدُلَّ عَلى اسْتِصْحابِ الفِعْلِ، ﴿فَلَمّا زاغُوا﴾ عَنِ الحَقِّ، ﴿أزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ . قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِأنْ مَنَعَ ألْطافَهُ، ﴿واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ﴾: لا يَلْطُفُ بِهِمْ، لِأنَّهم لَيْسُوا مِن أهْلِ اللُّطْفِ. وقالَ غَيْرُهُ: أسْنَدَ الزَّيْغَ إلَيْهِمْ، ثُمَّ قالَ: ﴿أزاغَ اللَّهُ﴾ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَأنْساهم أنْفُسَهُمْ﴾ [الحشر: ١٩]، وهو مِنَ العُقُوبَةِ عَلى الذَّنْبِ بِالذَّنْبِ، بِخِلافِ قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ [التوبة: ١١٨] .
ولَمّا ذَكَرَ شَيْئًا مِن قِصَّةِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ بَنِي إسْرائِيلَ، ذَكَرَ أيْضًا شَيْئًا مِن قِصَّةِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ. وهُناكَ قالَ: (يا قَوْمِ) لِأنَّهُ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، وهُنا قالَ عِيسى: (يا بَنِي إسْرائِيلَ) مِن حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِمْ أبٌ، وإنْ كانَتْ أُمُّهُ مِنهم. ومُصَدِّقًا ومُبَشِّرًا: حالانِ، والعامِلُ رَسُولٌ، أيْ مُرْسَلٌ، ويَأْتِي واسْمُهُ جُمْلَتانِ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِرَسُولٍ أخْبَرَ أنَّهُ مُصَدِّقٌ لِما تَقَدَّمَ مِن كُتُبِ اللَّهِ الإلَهِيَّةِ، ولِمَن تَأخَّرَ مِنَ النَّبِيِّ المَذْكُورِ، لِأنَّ التَّبْشِيرَ بِأنَّهُ رَسُولٌ تَصْدِيقٌ لِرِسالَتِهِ. ورُوِيَ أنَّ الحَوارِيِّينَ قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ بَعْدَنا مِن أُمَّةٍ ؟ قالَ: ”نَعَمْ، أُمَّةُ أحْمَدَ، ﷺ، حُكَماءُ عُلَماءُ أبْرارٌ أتْقِياءُ، كَأنَّهم مِنَ الفِقْهِ أنْبِياءُ يَرْضَوْنَ مِنَ اللَّهِ بِاليَسِيرِ مِنَ الرِّزْقِ، ويَرْضى اللَّهُ مِنهم بِالقَلِيلِ مِنَ العَمَلِ“ . وأحْمَدُ عَلَمٌ مَنقُولٌ مِنَ المُضارِعِ لِلْمُتَكَلِّمِ، أوْ مِن أحْمَدَ أفْعَلِ التَّفْضِيلِ، وقالَ حَسّانُ:
؎صَلّى الإلَهُ ومَن يَحِفُّ بِعَرْشِهِ ∗∗∗ والطَّيِّبُونَ عَلى المُبارَكِ أحْمَدَ
وقالَ القُشَيْرِيُّ: بَشَّرَ كُلُّ نَبِيٍّ قَوْمَهُ بِنَبِيِّنا مُحَمَّدٍ، ﷺ، واللَّهُ أفْرَدَ عِيسى بِالذِّكْرِ في هَذا المَوْضِعِ لِأنَّهُ آخِرُ نَبِيٍّ قَبْلَ نَبِيِّنا، ﷺ، فَبَيَّنَ أنَّ البِشارَةَ بِهِ عَمَّتْ جَمِيعَ الأنْبِياءِ واحِدًا بَعْدَ واحِدٍ حَتّى انْتَهَتْ إلى عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ المَرْفُوعَ في (جاءَهم) يَعُودُ عَلى عِيسى لِأنَّهُ المُحَدَّثُ عَنْهُ. وقِيلَ: يَعُودُ عَلى أحْمَدَ. لَمّا فَرَغَ مِن كَلامِ عِيسى، تَطَرَّقَ إلى الإخْبارِ عَنْ أحْمَدَ، ﷺ، وذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الإخْبارِ لِلْمُؤْمِنِينَ، أيْ فَلَمّا جاءَ المُبَشَّرُ بِهِ هَؤُلاءِ الكُفّارُ بِالمُعْجِزاتِ الواضِحَةِ قالُوا: (هَذا سِحْرٌ مُبِينٌ) . وقَرَأ الجُمْهُورُ: سِحْرٌ، أيْ ما جاءَ بِهِ مِنَ البَيِّناتِ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ وطَلْحَةُ والأعْمَشُ وابْنُ وثّابٍ: ساحِرٌ، أيْ هَذا الحالُ ساحِرٌ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: يَدَّعِي مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ؛ وطَلْحَةُ: يَدَّعِي مُضارِعُ ادَّعى مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، وادَّعى يَتَعَدّى بِنَفْسِهِ إلى المَفْعُولِ بِهِ، لَكِنَّهُ لَمّا ضَمِنَ مَعْنى الِانْتِماءِ والِانْتِسابِ عُدِّيَ بِإلى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أيْضًا، وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: وهو يَدَّعِي بِشَدِّ الدّالِ، بِمَعْنى يَدَّعِي دَعاهُ وادَّعاهُ، نَحْوُ لَمَسَهُ والتَمَسَهُ.
(يُرِيدُونَ) الآيَةَ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِها في سُورَةِ التَّوْبَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أصْلُهُ: ﴿يُرِيدُونَ أنْ يُطْفِئُوا﴾ [التوبة: ٣٢]، كَما جاءَ في سُورَةِ بَراءَةَ، وكَأنَّ هَذِهِ اللّامَ زِيدَتْ مَعَ فِعْلِ الإرادَةِ تَأْكِيدًا لَهُ لِما فِيها مِن مَعْنى الإرادَةِ في قَوْلِكَ: جِئْتُكَ لِأُكْرِمَكَ، كَما زِيدَتِ اللّامُ في: لا أبا لَكَ، تَأْكِيدًا لِمَعْنى الإضافَةِ في: لا أبا لَكَ. انْتَهى. وقالَ نَحْوَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، قالَ: واللّامُ في قَوْلِهِ: ﴿لِيُطْفِئُوا﴾ لامٌ مُؤَكِّدَةٌ، دَخَلَتْ عَلى المَفْعُولِ لِأنَّ التَّقْدِيرَ: يُرِيدُونَ أنْ يُطْفِئُوا، وأكْثَرُ ما تَلْزَمُ هَذِهِ اللّامُ المَفْعُولَ إذا تَقَدَّمَ، تَقُولُ: لِزَيْدٍ ضَرَبْتُ، ولِرُؤْيَتِكَ قَصَرْتُ. انْتَهى. وما ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مِن أنَّ هَذِهِ اللّامَ أكْثَرُ ما تَلْزَمُ المَفْعُولَ إذا تَقَدَّمَ لَيْسَ بِأكْثَرَ، بَلِ الأكْثَرُ: زَيْدًا ضَرَبْتُ، مِن: لِزَيْدٍ ضَرَبْتُ. وأمّا قَوْلُهُما إنَّ اللّامَ لِلتَّأْكِيدِ، وإنَّ التَّقْدِيرَ أنْ يُطْفِئُوا، فالإطْفاءُ (p-٢٦٣)مَفْعُولُ (يُرِيدُونَ)، فَلَيْسَ بِمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ والجُمْهُورِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ زَيْدٍ: هُنا يُرِيدُونَ إبْطالَ القُرْآنِ وتَكْذِيبَهُ بِالقَوْلِ. وقالَ السُّدِّيُّ: يُرِيدُونَ دَفْعَ الإسْلامِ بِالكَلامِ. وقالَ الضَّحّاكُ: هَلاكَ الرَّسُولِ، ﷺ، بِالأراجِيفِ. وقالَ ابْنُ بَحْرٍ: إبْطالَ حُجَجِ اللَّهِ بِتَكْذِيبِهِمْ.
وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: سَبَبُ نُزُولِها أنَّ الوَحْيَ أبْطَأ أرْبَعِينَ يَوْمًا، فَقالَ كَعْبُ بْنُ الأشْرَفِ: يا مَعْشَرَ يَهُودَ أبْشِرُوا، أطْفَأ اللَّهُ نُورَ مُحَمَّدٍ فِيما كانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ وما كانَ لِيُتِمَّ نُورَهُ، فَحَزِنَ الرَّسُولُ، ﷺ، فَنَزَلَتْ واتَّصَلَ الوَحْيُ. وقَرَأ العَرَبِيّانِ ونافِعٌ وأبُو بَكْرٍ والحَسَنُ وطَلْحَةُ والأعْرَجُ وابْنُ مُحَيْصِنٍ: (مُتِمٌّ) بِالتَّنْوِينِ، (نُورَهُ) بِالنَّصْبِ؛ وباقِي السَّبْعَةِ والأعْمَشُ: بِالإضافَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿تُنْجِيكُمْ﴾ مُخَفَّفًا؛ والحَسَنُ وابْنُ أبِي إسْحاقَ والأعْرَجُ وابْنُ عامِرٍ: مُشَدَّدًا. والجُمْهُورُ: (تُؤْمِنُونَ)، ﴿وتُجاهِدُونَ﴾؛ وعَبْدُ اللَّهِ: آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وجاهِدُوا أمْرَيْنِ؛ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِالتّاءِ، فِيهِما مَحْذُوفَ النُّونِ فِيهِما. فَأمّا تَوْجِيهُ قِراءَةِ الجُمْهُورِ، فَقالَ المُبَرِّدُ: هو بِمَعْنى آمِنُوا عَلى الأمْرِ، ولِذَلِكَ جاءَ ”يَغْفِرْ“ مَجْزُومًا. انْتَهى، فَصُورَتُهُ صُورَةُ الخَبَرِ، ومَعْناهُ الأمْرُ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ: اتَّقى اللَّهَ امْرُؤٌ فَعَلَ خَيْرًا يُثَبْ عَلَيْهِ، أيْ لِيَتَّقِ اللَّهَ، وجِيءَ بِهِ عَلى صُورَةِ الخَبَرِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِلْإيذانِ بِوُجُوبِ الِامْتِثالِ وكَأنَّهُ امْتَثَلَ، فَهو يُخْبِرُ عَنْ إيمانٍ وجِهادٍ مَوْجُودَيْنِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُ الدّاعِي: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ويَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ، جُعِلَتِ المَغْفِرَةُ لِقُوَّةِ الرَّجاءِ، كَأنَّها كانَتْ ووُجِدَتْ. انْتَهى. وقالَ الأخْفَشُ: هو عَطْفُ بَيانٍ عَلى تِجارَةٍ، وهَذا لا يُتَخَيَّلُ إلّا عَلى تَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ الأصْلُ أنْ تُؤْمِنُوا حَتّى يَتَقَدَّرَ بِمَصْدَرٍ، ثُمَّ حُذِفَ أنْ فارْتَفَعَ الفِعْلُ كَقَوْلِهِ:
؎ألا أيُّهَذا الزّاجِرِي أحْضُرُ الوَغى
يُرِيدُ: أنْ أحْضُرَ، فَلَمّا حُذِفَ أنِ ارْتَفَعَ الفِعْلُ، فَكانَ تَقْدِيرُ الآيَةِ ﴿هَلْ أدُلُّكم عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكم مِن عَذابٍ ألِيمٍ﴾: إيمانٌ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهادٌ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: (تُؤْمِنُونَ) فِعْلٌ مَرْفُوعٌ تَقْدِيرُهُ ذَلِكَ أنَّهُ تُؤْمِنُونَ. انْتَهى، وهَذا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأنَّ فِيهِ حَذْفَ المُبْتَدَأِ وحَذْفَ أنَّهُ وإبْقاءَ الخَبَرِ، وذَلِكَ لا يَجُوزُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وتُؤْمِنُونَ اسْتِئْنافٌ، كَأنَّهم قالُوا: كَيْفَ نَعْمَلُ ؟ فَقالَ: تُؤْمِنُونَ، ثُمَّ اتَّبَعَ المُبَرِّدُ فَقالَ: هو خَبَرٌ في مَعْنى الأمْرِ، وبِهَذا أُجِيبَ بِقَوْلِهِ: (يَغْفِرْ لَكم) . انْتَهى. وأمّا قِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ فَظاهِرَةُ المَعْنى وجَوابُ الأمْرِ يَغْفِرْ، وأمّا قِراءَةُ زَيْدٍ فَتَتَوَجَّهُ عَلى حَذْفِ لامِ الأمْرِ، التَّقْدِيرُ: لِتُؤْمِنُوا، كَقَوْلِ الشّاعِرِ:
؎قُلْتُ لِبَوّابٍ عَلى بابِها ∗∗∗ تَأْذَنْ لِي أنِّي مِن أحْمائِها
يُرِيدُ: لِتَأْذَنْ، ويَغْفِرْ مَجْزُومٌ عَلى جَوابِ الأمْرِ في قِراءَةِ عَبْدِ اللَّهِ وقِراءَةِ زَيْدٍ، وعَلى تَقْدِيرِ المُبَرِّدِ. وقالَ الفَرّاءُ: هو مَجْزُومٌ عَلى جَوابِ الِاسْتِفْهامِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿هَلْ أدُلُّكُمْ﴾، واسْتُبْعِدَ هَذا التَّخْرِيجُ. قالَ الزَّجّاجُ: لَيْسُوا إذا دَلَّهم عَلى ما يَنْفَعُهم يَغْفِرُ لَهم، إنَّما يَغْفِرُ لَهم إذا آمَنُوا وجاهَدُوا. وقالَ المَهْدَوِيُّ: إنَّما يَصِحُّ حَمْلًا عَلى المَعْنى، وهو أنْ يَكُونَ تُؤْمِنُونَ وتُجاهِدُونَ عَطْفَ بَيانٍ عَلى قَوْلِهِ: ﴿هَلْ أدُلُّكُمْ﴾ [القصص: ١٢]، كَأنَّ التِّجارَةَ لَمْ يُدْرَ ما هي، فَبُيِّنَتْ بِالإيمانِ والجِهادِ، فَهي هُما في المَعْنى، فَكَأنَّهُ قالَ: هَلْ تُؤْمِنُونَ وتُجاهِدُونَ ؟ قالَ: فَإنْ لَمْ تُقَدَّرْ هَذا التَّقْدِيرَ لَمْ يَصِحَّ، لِأنَّهُ يَصِيرُ: إنْ دُلِلْتُمْ يَغْفِرْ لَكم، والغُفْرانُ إنَّما يَجِبُ بِالقَبُولِ والإيمانِ لا بِالدِّلالَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ نَحْوُهُ، قالَ: وجْهُهُ أنَّ مُتَعَلَّقَ الدِّلالَةِ هو التِّجارَةُ، والتِّجارَةُ مُفَسَّرَةٌ بِالإيمانِ والجِهادِ، فَكَأنَّهُ قالَ: هَلْ تَتَّجِرُونَ بِالإيمانِ والجِهادِ يُغْفَرْ لَكم ؟ انْتَهى، وتَقَدَّمَ شَرْحُ بَقِيَّةُ الآيَةِ. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى ما يَمْنَعُهم مِنَ الثَّوابِ في الآخِرَةِ، ذَكَرَ ما يَسُرُّهم في العاجِلَةِ، وهي ما يُفْتَحُ عَلَيْهِمْ مِنَ البِلادِ. (وأُخْرى): صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أيْ ولَكم مَثُوبَةٌ أُخْرى، أوْ نِعْمَةٌ أُخْرى عاجِلَةٌ إلى هَذِهِ النِّعْمَةِ الآجِلَةِ. فَأُخْرى مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ المُقَدَّرُ لَكم، وهو قَوْلُ الفَرّاءِ، ويُرَجِّحُهُ البَدَلُ مِنهُ بِقَوْلِهِ: ﴿نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ﴾، و﴿تُحِبُّونَها﴾ صِفَةٌ، أيْ مَحْبُوبَةٌ إلَيْكم. وقالَ (p-٢٦٤)قَوْمٌ: وأُخْرى في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِإضْمارِ فِعْلٍ، أيْ ويَمْنَحُكم أُخْرى؛ ونَصْرٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ، أيْ ذَلِكَ، أوْ هو نَصْرٌ. وقالَ الأخْفَشُ: وأُخْرى في مَوْضِعِ جَرٍّ عَطْفًا عَلى تِجارَةٍ، وضَعُفَ هَذا القَوْلُ لِأنَّ هَذِهِ الأُخْرى لَيْسَتْ مِمّا دَلَّ عَلَيْهِ، إنَّما هي مِنَ الثَّوابِ الَّذِي يُعْطِيهِمُ اللَّهُ عَلى الإيمانِ والجِهادِ بِالنَّفْسِ والمالِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (نَصْرٌ) بِالرَّفْعِ، وكَذا ﴿وفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾؛ وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: بِالنَّصْبِ فِيها ثَلاثَتُها، ووَصْفُ أُخْرى بِتُحِبُّونَها، لِأنَّ النَّفْسَ قَدْ وُكِّلَتْ بِحُبِّ العاجِلِ، وفي ذَلِكَ تَحْرِيضٌ عَلى ما يَحْصُلُ ذَلِكَ، وهو الإيمانُ والجِهادُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وفي تُحِبُّونَها شَيْءٌ مِنَ التَّوْبِيخِ عَلى مَحَبَّةِ العاجِلِ، قالَ: فَإنْ قُلْتَ: لِمَ نَصَبَ مَن قَرَأ نَصْرًا مِنَ اللَّهِ وفَتْحًا قَرِيبًا ؟ قُلْتُ: يَجُوزُ أنْ يُنْصَبَ عَلى الِاخْتِصاصِ، أوْ عَلى يُنْصَرُونَ نَصْرًا ويَفْتَحُ لَكم فَتْحًا، أوْ عَلى (يَغْفِرْ لَكم) و(لَهم جَنّاتٌ) ويُؤْتِكم أُخْرى نَصْرًا وفَتْحًا قَرِيبًا. فَإنْ قُلْتَ عَلامَ عُطِفَ قَوْلُهُ: ﴿وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ﴾ ؟ قُلْتُ: عَلى (تُؤْمِنُونَ)، لِأنَّهُ في مَعْنى الأمْرِ، كَأنَّهُ قِيلَ: آمِنُوا وجاهِدُوا يُثِبْكُمُ اللَّهُ ويَنْصُرْكم، وبَشِّرْ يا رَسُولَ اللَّهِ المُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ. انْتَهى.
﴿كُونُوا أنْصارَ اللَّهِ﴾: نَدَبَ المُؤْمِنِينَ إلى النُّصْرَةِ ووَضَعَ لَهم هَذا الِاسْمَ، وِإنْ كانَ قَدْ صارَ عُرْفًا لِلْأوْسِ والخَزْرَجِ، وسَمّاهُمُ اللَّهُ بِهِ. وقَرَأ الأعْرَجُ وعِيسى وأبُو عَمْرٍو والحَرَمِيّانِ: أنْصارًا لِلَّهِ بِالتَّنْوِينِ؛ والحَسَنُ والجَحْدَرِيُّ وباقِي السَّبْعَةِ: بِالإضافَةِ إلى اللَّهِ، والظّاهِرُ أنَّ كَما في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى إضْمارٍ، أيْ قُلْنا لَكم ذَلِكَ كَما قالَ عِيسى. وقالَ مَكِّيٌّ: نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، والتَّقْدِيرُ: كُونُوا كَوْنًا. وقِيلَ: نَعْتٌ لِأنْصارًا، أيْ كُونُوا أنْصارَ اللَّهِ كَما كانَ الحَوارِيُّونَ أنْصارَ عِيسى حِينَ قالَ: ﴿مَن أنْصارِي إلى اللَّهِ﴾ . انْتَهى. والحَوارِيُّونَ اثْنا عَشَرَ رَجُلًا، وهم أوَّلُ مَن آمَنَ بِعِيسى، بَثَّهم عِيسى في الآفاقِ، بَعَثَ بُطْرُسَ وبُولُسَ إلى رُومِيَّةَ، وأنْدارَسَ ومَتّى إلى الأرْضِ الَّتِي يَأْكُلُ أهْلُها النّاسَ، وبُوقاسَ إلى أرْضِ بابِلَ، وفِيلِيسَ إلى قَرْطاجَنَّةَ وهي إفْرِيقِيَّةُ، ويَحْنَسَ إلى أُقْسُوسَ قَرْيَةَ أصْحابِ الكَهْفِ، ويَعْقُوبِينَ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، وابْنَ بَلْيَمَنَ إلى أرْضِ الحِجازِ وتَسْتَمَرَ إلى أرْضِ البَرْبَرِ وما حَوْلَها، وفي بَعْضِ أسْمائِهِمْ إشْكالٌ مِن جِهَةِ الضَّبْطِ، فَلْيُلْتَمَسْ ذَلِكَ مِن مَظانِّهِ. فَأيَّدْنا الَّذِينَ آمَنُوا بِعِيسى عَلى عَدُوِّهِمْ، وهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعِيسى، ﴿فَأصْبَحُوا ظاهِرِينَ﴾: أيْ قاهِرِينَ لَهم مُسْتَوْلِينَ عَلَيْهِمْ. وقالَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وقَتادَةُ: ظاهِرِينَ: غالِبِينَ بِالحُجَّةِ والبُرْهانِ. وقِيلَ: أيَّدْنا المُسْلِمِينَ عَلى الفِرْقَتَيْنِ الضّالَّتَيْنِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ","یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ","كَبُرَ مَقۡتًا عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُوا۟ مَا لَا تَفۡعَلُونَ","إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلَّذِینَ یُقَـٰتِلُونَ فِی سَبِیلِهِۦ صَفࣰّا كَأَنَّهُم بُنۡیَـٰنࣱ مَّرۡصُوصࣱ","وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ یَـٰقَوۡمِ لِمَ تُؤۡذُونَنِی وَقَد تَّعۡلَمُونَ أَنِّی رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَیۡكُمۡۖ فَلَمَّا زَاغُوۤا۟ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡۚ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَـٰسِقِینَ","وَإِذۡ قَالَ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ یَـٰبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ إِنِّی رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَیۡكُم مُّصَدِّقࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَمُبَشِّرَۢا بِرَسُولࣲ یَأۡتِی مِنۢ بَعۡدِی ٱسۡمُهُۥۤ أَحۡمَدُۖ فَلَمَّا جَاۤءَهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ قَالُوا۟ هَـٰذَا سِحۡرࣱ مُّبِینࣱ","وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُوَ یُدۡعَىٰۤ إِلَى ٱلۡإِسۡلَـٰمِۚ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ","یُرِیدُونَ لِیُطۡفِـُٔوا۟ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَ ٰهِهِمۡ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ","هُوَ ٱلَّذِیۤ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِینِ ٱلۡحَقِّ لِیُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّینِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ","یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ تِجَـٰرَةࣲ تُنجِیكُم مِّنۡ عَذَابٍ أَلِیمࣲ","تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُجَـٰهِدُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَ ٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡۚ ذَ ٰلِكُمۡ خَیۡرࣱ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ","یَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡ وَیُدۡخِلۡكُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ وَمَسَـٰكِنَ طَیِّبَةࣰ فِی جَنَّـٰتِ عَدۡنࣲۚ ذَ ٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ","وَأُخۡرَىٰ تُحِبُّونَهَاۖ نَصۡرࣱ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَتۡحࣱ قَرِیبࣱۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ","یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُونُوۤا۟ أَنصَارَ ٱللَّهِ كَمَا قَالَ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ لِلۡحَوَارِیِّـۧنَ مَنۡ أَنصَارِیۤ إِلَى ٱللَّهِۖ قَالَ ٱلۡحَوَارِیُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِۖ فَـَٔامَنَت طَّاۤىِٕفَةࣱ مِّنۢ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ وَكَفَرَت طَّاۤىِٕفَةࣱۖ فَأَیَّدۡنَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ عَلَىٰ عَدُوِّهِمۡ فَأَصۡبَحُوا۟ ظَـٰهِرِینَ"],"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق