الباحث القرآني
﴿وهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها في ظُلُماتِ البَرِّ والبَحْرِ﴾ نَبَّهَ عَلى أعْظَمِ فَوائِدِ خَلْقِها، وهي الهِدايَةُ لِلطُّرُقِ والمَسالِكِ والجِهاتِ الَّتِي تُقْصَدُ والقُبْلَةِ، إذْ حَرَكاتُ الكَواكِبِ في اللَّيْلِ يُسْتَدَلُّ بِها عَلى القِبْلَةِ كَما يُسْتَدَلُّ بِحَرَكَةِ الشَّمْسِ في النَّهارِ عَلَيْها، والخِطابُ عامٌّ لِكُلِّ النّاسِ، و﴿لِتَهْتَدُوا﴾ مُتَعَلِّقٌ بِجَعَلَ مُضْمِرَةٍ لِأنَّها بَدَلٌ مِن لَكم، أيْ: جَعَلَ ذَلِكَ لِاهْتِدائِكم، وجَعَلَ مَعْناها خَلَقَ، فَهي تَتَعَدّى إلى واحِدٍ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَدْ يُمْكِنُ أنْ تَكُونَ بِمَعْنى صَيَّرَ، ويُقَدَّرُ المَفْعُولُ الثّانِي مِن ﴿لِتَهْتَدُوا﴾، أيْ: جَعَلَ لَكم (p-١٨٨)النُّجُومَ هِدايَةً. انْتَهى. وهو ضَعِيفٌ لِنَدُورِ حَذْفِ أحَدِ مَفْعُولَيْ بابِ ظَنَّ وأخَواتِها، والظّاهِرُ أنَّ الظُّلُماتِ هُنا عَلى ظاهِرِها، وأبْعَدَ مَن قالَ: يَصِحُّ أنْ تَكُونَ الظُّلُماتُ هُنا الشَّدائِدَ في المَواضِعِ الَّتِي يَتَّفِقُ أنْ يُهْتَدى فِيها بِها، وأضافَ الظُّلُماتِ إلى البَرِّ والبَحْرِ لِمُلابَسَتِها لَهُما، أوْ شَبَّهَ مُشْتَبَهاتِ الطُّرُقِ بِالظُّلُماتِ، وذَكَرَ تَعالى النُّجُومَ في كِتابِهِ لِلزِّينَةِ والرَّحِمِ والهِدايَةِ، فَما سِوى ذَلِكَ اخْتِلاقٌ عَلى اللَّهِ وافْتِراءٌ.
﴿قَدْ فَصَّلْنا الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أيْ: بَيَّنّا وقَسَّمْنا، وخَصَّ مَن يَعْلَمُ لِأنَّهُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِتَفْصِيلِها، وأمّا غَيْرُهم فَمُعْرِضُونَ عَنِ الآياتِ وعَنْ الِاسْتِدْلالِ بِها.
﴿وهُوَ الَّذِي أنْشَأكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ وهي آدَمُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - .
﴿فَمُسْتَقَرٌّ ومُسْتَوْدَعٌ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ بِفَتْحِ القافِ، جَعَلُوهُ مَكانًا أيْ مَوْضِعَ اسْتِقْرارٍ ومَوْضِعَ اسْتِيداعٍ، أوْ مَصْدَرًا أيْ فاسْتِقْرارٌ واسْتِيداعٌ، ولا يَكُونُ مُسْتَقَرٌّ اسْمَ مَفْعُولٍ لِأنَّهُ لا يَتَعَدّى فِعْلُهُ فَيُبْنى مِنهُ اسْمُ مَفْعُولٍ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو بِكَسْرِ القافِ اسْمَ فاعِلٍ، وعَلى هَذِهِ القِراءَةِ يَكُونُ (مُسْتَوْدَعٌ) بِفَتْحِ الدّالِ اسْمَ مَفْعُولٍ، لَمّا ذَكَرَ إنْشاءَهم ذَكَرَ انْقِسامَهم إلى (مُسْتَقَرٌّ ومُسْتَوْدَعٌ) أيْ: فَمِنكم مُسْتَقَرٌّ ومُسْتَوْدَعٌ، ورَوى هارُونُ الأعْوَرُ عَنْ أبِي عَمْرٍو: (ومُسْتَوْدِعٌ) بِكَسْرِ الدّالِّ اسْمُ فاعِلٍ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ جُبَيْرٍ ومُجاهِدٌ وعَطاءٌ والنَّخْعِيُّ والضَّحّاكُ وقَتادَةُ والسُّدِّيُّ وابْنُ زَيْدٍ: مُسْتَقَرٌّ في الرَّحِمِ ومُسْتَوْدَعٌ في الصُّلْبِ، وقالَ ابْنُ بَحْرٍ عَكْسَهُ، قالَ: والمَعْنى فَذَكَّرَ وأنَّثَ، عَبَّرَ عَنِ الذَّكَرِ بِالمُسْتَقَرِّ لِأنَّ النُّطْفَةَ إنَّما تَتَوَلَّدُ في صُلْبِهِ، وعَبَّرَ عَنِ الأُنْثى بِالمُسْتَوْدَعِ لِأنَّ رَحِمَها مُسْتَوْدَعٌ لِلنُّطْفَةِ، وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ المُسْتَقَرَّ في الرَّحِمِ والمُسْتَوْدَعِ في القَبْرِ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: المُسْتَقَرُّ في الأرْضِ والمُسْتَوْدَعُ في الأصْلابِ، وعَنْهُ كِلاهُما في الرَّحِمِ، وعَنْهُ المُسْتَقَرُّ حَيْثُ يَأْوِي والمُسْتَوْدَعُ حَيْثُ يَمُوتُ، وعَنْهُ المُسْتَقَرُّ مَن خُلِقَ والمُسْتَوْدَعُ مَن لَمْ يُخْلَقْ، وقالَ مُجاهِدٌ: المُسْتَقَرُّ في الدُّنْيا والمُسْتَوْدَعُ عِنْدَ اللَّهِ، وقِيلَ: كِلاهُما في الدُّنْيا، وقِيلَ: المُسْتَقَرُّ الجَنَّةُ والمُسْتَوْدَعُ النّارُ. وقِيلَ: (مُسْتَقَرٌّ) في الآخِرَةِ بِعَمَلِهِ (ومُسْتَوْدَعٌ) في أصْلِهِ يَنْتَقِلُ مَن حالٍ إلى حالٍ ومِن وقْتٍ إلى وقْتٍ، إلى انْتِهاءِ أجَلِهِ. انْتَهى. والَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أنَّ الِاسْتِقْرارَ والِاسْتِيداعَ حالانِ يَعْتَوِرانِ عَلى الإنْسانِ مِنَ الظَّهْرِ إلى الرَّحِمِ إلى الدُّنْيا إلى القَبْرِ إلى الحَشْرِ إلى الجَنَّةِ أوْ إلى النّارِ، وفي كُلِّ رُتْبَةٍ يَحْصُلُ لَهُ اسْتِقْرارٌ واسْتِيداعٌ، اسْتِقْرارٌ بِالإضافَةِ إلى ما قَبْلَها، واسْتِيداعٌ بِالإضافَةِ إلى ما بَعْدَها، ولَفْظُ الوَدِيعَةِ يَقْتَضِي الِانْتِقالَ.
﴿قَدْ فَصَّلْنا الآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾ لَمّا كانَ الِاهْتِداءُ بِالنُّجُومِ واضِحًا خَتَمَهُ بِقَوْلِهِ: (يَعْلَمُونَ) أيْ: مَن لَهُ أدْنى إدْراكٍ يَنْتَفِعُ بِالنَّظَرِ في النُّجُومِ وفائِدَتِها، ولَمّا كانَ الإنْشاءُ مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ، والتَّصْرِيفُ في أحْوالٍ كَثِيرَةٍ يَحْتاجُ إلى فِكْرٍ وتَدْقِيقِ نَظَرٍ، خَتَمَهُ بِقَوْلِهِ: (يَفْقَهُونَ) إذِ الفِقْهُ هو اسْتِعْمالُ فِطْنَةٍ ودِقَّةِ نَظَرٍ وفِكْرٍ، فَناسِبَ خَتْمُ كُلِّ جُمْلَةٍ بِما يُناسِبُ ما صُدِّرَ بِهِ الكَلامُ.
﴿وهُوَ الَّذِي أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ لَمّا ذَكَرَ إنْعامَهُ تَعالى بِخَلْقِنا ذَكَرَ إنْعامِهِ عَلَيْنا بِما يَقُومُ بِهِ أوَدُنا ومَصالِحُنا، والسَّماءُ هُنا السَّحابُ، والظّاهِرُ أنَّ المَعْنِيَّ بِنَباتِ كُلِّ شَيْءٍ ما يُسَمّى نَباتًا في اللُّغَةِ، وهو ما يَنْمُو مِنَ الحُبُوبِ والفَواكِهِ والبُقُولِ والحَشائِشِ والشَّجَرِ، ومَعْنى (كُلِّ شَيْءٍ) مِمّا يَنْبُتُ، وأشارَ إلى أنَّ السَّبَبَ واحِدٌ والمُسَبَّباتِ كَثِيرَةٌ، كَما قالَ تَعالى: (تُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ونُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ في الأُكُلِ) .
وقالَ الطَّبَرِيُّ: ﴿نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ جَمِيعُ ما يَنْمُو مِنَ الحَيَوانِ والنَّباتِ والمَعادِنِ وغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ (p-١٨٩)يَتَغَذّى ويَنْمُو بِنُزُولِ الماءِ مِنَ السَّماءِ، وقالَ الفَرّاءُ: مَعْناهُ رِزْقُ كُلِّ شَيْءٍ أيِ ما يَصْلُحُ غِذاءً لِكُلِّ شَيْءٍ، فَيَكُونُ (كُلَّ شَيْءٍ) مَخْصُوصًا بِالمُتَغَذِّي، ويَكُونُ إضافَةُ النَّباتِ إلَيْهِ إضافَةً بَيانِيَّةً بِالكُلِّيَّةِ، وعَلى الوَجْهَيْنِ السّابِقَيْنِ تَكُونُ الإضافَةُ راجِعَةً في المَعْنى إلى إضافَةِ ما يُشْبِهُ الصِّفَةَ إلى المَوْصُوفِ، إذْ يَصِيرُ المَعْنى: فَأخْرَجْنا بِهِ كُلَّ شَيْءٍ مُنْبِتٍ، وفي قَوْلِهِ: (فَأخْرَجْنا) التِفاتٌ مِن غَيْبَةٍ إلى تَكَلُّمٍ بِنُونِ العَظَمَةِ.
﴿فَأخْرَجْنا مِنهُ خَضِرًا﴾ أيْ: مِنَ النَّباتِ غَضًّا ناضِرًا طَرِيًّا، و(فَأخْرَجْنا) مَعْطُوفٌ عَلى (فَأخْرَجْنا)، وأجازَ أبُو البَقاءِ أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِن (فَأخْرَجْنا) .
﴿نُخْرِجُ مِنهُ حَبًّا مُتَراكِبًا﴾ أيْ: مِنَ الخَضِرِ كالقَمْحِ والشَّعِيرِ وسائِرِ القَطانِيِّ، ومِنَ الثِّمارِ كالرُّمّانِ والصَّنَوْبَرِ وغَيْرِهِما مِمّا تَراكَبَ حَبُّهُ ورَكِبَ بَعْضُهُ بَعْضًا، و(نُخْرِجُ) جُمْلَةٌ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِخَضِرٍ، أوْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ اسْتِئْنافَ إخْبارٍ. وقَرَأ الأعْمَشُ وابْنُ مُحَيْصِنٍ: ”يَخْرُجُ مِنهُ حُبٌّ مُتَراكِبٌ“، عَلى أنَّهُ مَرْفُوعٌ بِيَخْرُجُ، ومُتَراكِبٌ صِفَةٌ في نَصْبِهِ ورَفْعِهِ.
﴿ومِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ﴾ أيْ: قَرِيبَةٌ مِنَ المُتَناوِلِ لِقَصْرِها ولُصُوقِ عُرُوقِها بِالأرْضِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ والبَراءُ والضَّحّاكُ، وحَسَّنَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقالَ: سَهْلَةُ المُجْتَنى مُعَرَّضَةٌ لِلْقاطِفِ كالشَّيْءِ الدّانِي القَرِيبِ المُتَناوَلِ، ولِأنَّ النَّخْلَةَ وإنْ كانَتْ صَغِيرَةً يَنالُها القاعِدُ فَإنَّها تَأْتِي بِالثَّمَرِ، وقالَ الحَسَنُ: قَرِيبٌ بَعْضُها مِن بَعْضٍ، وقِيلَ: (دانِيَةٌ) مائِلَةٌ، قِيلَ: وذِكْرُ الدّانِيَةَ دُونَ ذِكْرِ السَّحُوقِ لِأنَّ النِّعْمَةَ بِها أظْهَرُ، أوْ حُذِفَ السُّحُوقُ لِدَلالَةِ الدّانِيَةِ عَلَيْها، كَقَوْلِهِ: ﴿سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ﴾ [النحل: ٨١] أيْ: والبَرْدَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (قِنْوانٌ) بِكَسْرِ القافِ، وقَرَأ الأعْمَشُ والخَفّافُ عَنْ أبِي عَمْرِو الأعْرَجِ في رِوايَةٍ بِضَمِّها، ورَواهُ السُّلَمِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ، وقَرَأ الأعْرَجُ في رِوايَةٍ وهارُونُ عَنْ أبِي عَمْرٍو: (قَنْوانٍ) بِفَتْحِ القافِ، وخَرَّجَهُ أبُو الفَتْحِ عَلى أنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ عَلى فَعْلانٍ؛ لِأنَّ فَعْلانًا لَيْسَ مِن أبْنِيَةِ جَمْعِ التَّكْسِيرِ، وفي كِتابِ ابْنِ عَطِيَّةَ ورَوِيَ عَنِ الأعْرَجِ ضَمُّ القافِ عَلى أنَّهُ جَمْعُ قِنْوٍ بِضَمِّ القافِ، وقالَ الفَرّاءُ: وهي لُغَةُ قَيْسٍ وأهْلِ الحِجازِ، والكَسْرُ أشْهَرُ في العَرَبِ، وقِنْوٌ عَلى (قِنْوانٍ) . انْتَهى. وهو مُخالِفٌ لِما نَقَلْناهُ في المُفْرَداتِ مِن أنَّ لُغَةَ الحِجازِ (قِنْوانٌ) بِكَسْرِ القافِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ، و﴿مِن طَلْعِها﴾ بَدَلٌ مِن ﴿ومِنَ النَّخْلِ﴾، والتَّقْدِيرُ: ﴿قِنْوانٌ دانِيَةٌ﴾ كائِنَةٌ مِن طَلْعِ النَّخْلِ، وأُفْرِدَ ذِكْرُ القِنْوانِ وجُرِّدَ مِن قَوْلِهِ: (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ نُخْرِجُ مِنهُ خَضِرًا) لِما في تَجْرِيدِها مِن عَظِيمِ المِنَّةِ والنِّعْمَةِ، إذْ كانَتْ أعْظَمَ أوْ مِن أعْظَمِ قُوتِ العَرَبِ، وأُبْرِزَتْ في صُورَةِ المُبْتَدَأِ والخَبَرِ لِيَدُلَّ عَلى الثُّبُوتِ والِاسْتِقْرارِ، وأنَّ ذَلِكَ مَفْرُوغٌ مِنهُ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ﴿ومِنَ النَّخْلِ﴾ تَقْدِيرُهُ نُخْرِجُ مِنَ النَّخْلِ ومِن طَلْعِها، (قِنْوانٌ) ابْتِداءٌ خَبَرُهُ مُقَدَّمُ، والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ بِنُخْرِجُ. انْتَهى. وهَذا خَطَأٌ لِأنَّ ما يَتَعَدّى إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ لا تَقَعُ الجُمْلَةُ في مَوْضِعِ مَفْعُولِهِ إلّا إذا كانَ (p-١٩٠)الفِعْلُ مِمّا يُعَلَّقُ وكانَتِ الجُمْلَةُ فِيها مانِعٌ مِن أنْ يَعْمَلَ في شَيْءٍ مِن مُفْرَداتِها الفِعْلُ مِنَ المَوانِعِ المَشْرُوحَةِ في عِلْمِ النَّحْوِ، و(نُخْرِجُ) لَيْسَتْ مِمّا يُعَلِّقُ، ولَيْسَ في الجُمْلَةِ ما يَمْنَعُ مِن عَمَلِ الفِعْلِ في شَيْءٍ مِن مُفْرَداتِها، إذْ لَوْ كانَ الفِعْلُ هُنا مُقَدَّرًا لَتَسَلَّطَ عَلى ما بَعْدَهُ، ولَكانَ التَّرْكِيبُ والتَّقْدِيرُ: ونُخْرِجُ مِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِها قِنْوانًا دانِيَةً بِالنَّصْبِ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الخَبَرُ مَحْذُوفًا لِدَلالَةِ (أخْرَجْنا) عَلَيْهِ، تَقْدِيرُهُ: ومُخْرَجَةٌ مِن طَلْعِ النَّخْلِ قِنْوانٌ. انْتَهى. ولا حاجَةَ إلى هَذا التَّقْدِيرِ، إذِ الجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةٌ في الإخْبارِ بِدُونِهِ، وقالَ أبُو البَقاءِ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (قِنْوانٌ) مُبْتَدَأً، والخَبَرُ ﴿مِن طَلْعِها﴾، وفي (مِنَ النَّخْلِ) ضَمِيرٌ تَقْدِيرُهُ ويَنْبُتُ مِنَ النَّخْلِ شَيْءٌ أوْ ثَمَرٌ فَيَكُونُ مِن طَلْعِها بَدَلًا مِنهُ، ويَجُوزُ أنْ يَرْتَفِعَ (قِنْوانٌ) عَلى أنَّهُ فاعِلٌ مِن طَلْعِها فَيَكُونُ في (مِنَ النَّخْلِ) ضَمِيرٌ يُفَسِّرُهُ (قِنْوانٌ)، وإنْ رَفَعْتَ (قِنْوانٌ) بِقَوْلِهِ: (مِنَ النَّخْلِ) عَلى قَوْلِ مَن أعْمَلَ أوَّلَ الفِعْلَيْنِ جازَ، وكانَ في ﴿مِن طَلْعِها﴾ ضَمِيرٌ مَرْفُوعٌ. انْتَهى. وهو إعْرابٌ فِيهِ تَخْلِيطٌ لا يَسُوغُ في القُرْآنِ، ومَن قَرَأ (يَخْرُجُ مِنهُ حُبٌّ مُتَراكِبٌ) جازَ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿مِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ﴾ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، كَما تَقُولُ يَضْرِبُ في الدّارِ زَيْدٌ، وفي السُّوقِ عَمْرٌو، وجازَ أنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وخَبَرًا، وهو الأوْجَهُ.
﴿وجَنّاتٍ مِن أعْنابٍ﴾ قِراءَةُ الجُمْهُورِ بِكَسْرِ التّاءِ عَطْفًا عَلى قَوْلِهِ نَباتَ، وهو مِن عَطْفِ الخاصِّ عَلى العامِّ لِشَرَفِهِ، ولَمّا جُرِّدَ النَّخْلُ جُرِّدَتْ جَنّاتُ الأعْنابِ لِشَرَفِهِما، كَما قالَ: ﴿أيَوَدُّ أحَدُكم أنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِن نَخِيلٍ وأعْنابٍ﴾ [البقرة: ٢٦٦]، وقَرَأ مُحَمَّدُ بْنُ أبِي لَيْلى والأعْمَشُ وأبُو بَكْرٍ في رِوايَةٍ عَنْهُ عَنْ عاصِمٍ: (وجَنّاتٌ) بِالرَّفْعِ، وأنْكَرَ أبُو عُبَيْدٍ وأبُو حاتِمٍ هَذِهِ القِراءَةَ، حَتّى قالَ أبُو حاتِمٍ: هي مُحالُّ لِأنَّ الجَنّاتِ مِنَ الأعْنابِ لا تَكُونُ مِنَ النَّخْلِ، ولا يَسُوغُ إنْكارُ هَذِهِ القِراءَةِ ولَها التَّوْجِيهُ الجَيِّدُ في العَرَبِيَّةِ، وُجِّهَتْ عَلى أنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الخَبَرِ، فَقَدَّرَهُ النَّحّاسُ: ولَهم جَنّاتٌ، وقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: ولَكم جَنّاتٌ، وقَدَّرَهُ أبُو البَقاءِ: ومِنَ الكَرْمِ جَنّاتٌ، وقَدَّرَهُ: ومِنَ الكَرْمِ لِقَوْلِهِ: ﴿ومِنَ النَّخْلِ﴾، وقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وثَمَّ جَنّاتٌ أيْ مَعَ النَّخْلِ، ونَظِيرُهُ قِراءَةُ مَن قَرَأ: ﴿وحُورٌ عِينٌ﴾ [الواقعة: ٢٢] بِالرَّفْعِ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِن مَعِينٍ﴾ [الصافات: ٤٥] الآيَةَ، وتَقْدِيرُهُ: ولَهم حَوَرٌ، وأجازَ مِثْلَ هَذا سِيبَوَيْهِ والكِسائِيُّ والفَرّاءُ، ومِثْلُهُ كَثِيرٌ، وقُدِّرَ الخَبَرُ أيْضًا مُؤَخَّرًا، تَقْدِيرُهُ: (وجَنّاتٌ مِن أعْنابٍ) أخْرَجْناها، ودَلَّ عَلى تَقْدِيرِهِ قَوْلُهُ قَبْلُ: (فَأخْرَجْنا)، كَما تَقُولُ: أكْرَمْتُ عَبْدَ اللَّهِ وأخُوهُ، التَّقْدِيرُ: وأخُوهُ أكْرَمْتُهُ، فَحُذِفَ أكْرَمْتُهُ لِدَلالَةِ أكْرَمْتُ عَلَيْهِ، ووَجَّهَها الطَّبَرِيُّ عَلى أنَّ (وجَنّاتٌ) عَطْفٌ عَلى (قِنْوانٌ)، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَوْلُهُ ضَعِيفٌ، وقالَ أبُو البَقاءِ: ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى (قِنْوانٌ)؛ لِأنَّ العِنَبَ لا يَخْرُجُ مِنَ النَّخْلِ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقَدْ ذُكِرَ أنَّ في رَفْعِهِ وجْهَيْنِ، أحَدُهُما أنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الخَبَرِ تَقْدِيرُهُ: وثَمَّ جَنّاتٌ، وتَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذا التَّقْدِيرِ عَنْهُ، قالَ: والثّانِي أنْ يُعْطَفَ عَلى (قِنْوانٌ) عَلى مَعْنى: وحاصِلُهُ أوْ ومَخْرَجُهُ مِنَ النَّخْلِ قِنْوانٌ (وجَنّاتٌ مِن أعْنابٍ) أيْ مِن نَباتِ أعْنابٍ. انْتَهى. وهَذا العَطْفُ هو عَلى أنْ لا يُلاحَظُ فِيهِ قَيْدُ (مِنَ النَّخْلِ)، فَكَأنَّهُ قالَ: مِنَ النَّخْلِ قِنْوانٌ دانِيَةٌ ﴿وجَنّاتٍ مِن أعْنابٍ﴾ حاصِلَةٌ كَما تَقُولُ: مِن بَنِي تَمِيمٍ رَجُلٌ عاقِلٌ ورَجُلٌ مِن قُرَيْشٍ مُنْطَلِقانِ.
﴿والزَّيْتُونَ والرُّمّانَ مُشْتَبِهًا وغَيْرَ مُتَشابِهٍ﴾ قُرِئَ بِالنَّصْبِ إجْماعًا. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَطْفًا عَلى (حَبًّا) . وقِيلَ: عَطْفًا عَلى (نَباتَ) . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقُرِئَ وجَنّاتٍ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلى نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ أيْ (p-١٩١)وأخْرَجْنا بِهِ ﴿جَنّاتٍ مِن أعْنابٍ﴾، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿والزَّيْتُونَ والرُّمّانَ﴾ . انْتَهى. فَظاهِرُهُ أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى (نَباتَ) كَما أنَّ (وجَنّاتٍ) مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والأحْسَنُ أنْ يَنْتَصِبَ عَلى الِاخْتِصاصِ، كَقَوْلِهِ: ﴿والمُقِيمِينَ الصَّلاةَ﴾ [النساء: ١٦٢] لِفَضْلِ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ. انْتَهى. قالَ قَتادَةُ: يَتَشابَهُ في الوَرَقِ ويَتَبايَنُ في الثَّمَرِ، وتَشابُهُ الوَرَقِ في الحَجْمِ وفي اشْتِمالِهِ عَلى جَمِيعِ الغُصْنِ، وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مُتَشابِهًا في النَّظَرِ وغَيْرَ مُتَشابِهٍ في الطَّعْمِ، مِثْلَ الرُّمّانَتَيْنِ لَوْنُهُما واحِدٌ وطَعْمُهُما مُخْتَلِفٌ، وقالَ الطَّبَرِيُّ: جائِزٌ أنْ يَتَشابَهَ في الثَّمَرِ ويَتَبايَنَ في الطَّعْمِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ تَشابُهَ الطَّعْمِ وتَبايُنَ النَّظَرِ، وهَذِهِ الأحْوالُ مَوْجُودَةٌ في الِاعْتِبارِ في أنْواعِ الثَّمَراتِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَعْضُهُ مُتَشابِهٌ وبَعْضُهُ غَيْرُ مُتَشابِهٍ في القَدْرِ واللَّوْنِ والطَّعْمِ، وذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى أنَّ التَّعَمُّدَ دُونَ الإهْمالِ. انْتَهى. وقَرَأ الجُمْهُورُ: مُشْتَبِهًا، وقُرِئَ شاذًّا: مُتَشابِهًا، وهُما بِمَعْنًى واحِدٍ، كاخْتَصَمَ وتَخاصَمَ واشْتَرَكَ واسْتَوى وتَساوى، ونَحْوِها مِمّا اشْتَرَكَ فِيهِ بابُ الِافْتِعالِ والتَّفاعُلِ، وانْتَصَبَ مُشْتَبِهًا عَلى أنَّهُ حالٌ مِنَ الرُّمّانِ لِقُرْبِهِ، وحُذِفَتِ الحالُ مِنَ الأوَّلِ، أوْ حالٌ مِنَ الأوَّلِ لِسَبْقِهِ، فالتَّقْدِيرُ: (والزَّيْتُونَ) مُشْتَبِهًا وغَيْرَ مُتَشابِهٍ (والرُّمّانَ) كَذَلِكَ، هَكَذا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وقالَ كَقَوْلِهِ: كُنْتُ مِنهُ ووالِدِي بَرِيئًا. انْتَهى. فَعَلى تَقْدِيرِهِ يَكُونُ تَقْدِيرُ البَيْتِ: كُنْتُ مِنهُ بَرِيئًا ووالِدِي كَذَلِكَ أيْ بَرِيئًا، والبَيْتُ لا يَتَعَيَّنُ فِيهِ ما ذَكَرَ لِأنَّ بَرِيئًا عَلى وزْنِ فَعِيلٍ كَصَدِيقٍ ورَفِيقٍ، فَيَصِحُّ أنْ يُخْبَرَ بِهِ عَنِ المُفْرَدِ والمُثَنّى والمَجْمُوعِ، فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ بَرِيئًا خَبَرَ كانَ عَلى اشْتِراكِ الضَّمِيرِ، والظّاهِرُ المَعْطُوفُ عَلَيْهِ فِيهِ، إذْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْهُما، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مِنهُما وإنْ كانَ قَدْ أجازَهُ بَعْضُهم، إذْ لَوْ كانَ حالًا مِنهُما لَكانَ التَّرْكِيبُ مُتَشابِهِينَ وغَيْرُ مُتَشابِهِينَ، وقالَ الزَّجّاجُ: قَرَنَ الزَّيْتُونَ بِالرُّمّانِ لِأنَّهُما شَجَرَتانِ تَعْرِفُ العَرَبُ أنَّ ورَقَهُما يَشْتَمِلُ عَلى الغُصْنِ مِن أوَّلِهِ إلى آخِرِهِ، قالَ الشّاعِرُ:
؎بُورِكَ المَيِّتُ الغَرِيبُ كَما بُو رِكَ نَضْجُ الرُّمّانِ والزَّيْتُونِ
﴿انْظُرُوا إلى ثَمَرِهِ إذا أثْمَرَ ويَنْعِهِ﴾ النَّظَرُ نَظَرُ رُؤْيَةِ العَيْنِ، ولِذَلِكَ عَدّاهُ بِإلى، لَكِنْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الفِكْرُ والِاعْتِبارُ والِاسْتِبْصارُ والِاسْتِدْلالُ عَلى قُدْرَةٍ باهِرَةٍ تَنْقُلُهُ مِن حالٍ إلى حالٍ، ونَبَّهَ عَلى حالَيْنِ: الِابْتِداءُ وهو وقْتُ ابْتِداءِ الإثْمارِ، والِانْتِهاءُ وهو وقْتُ نُضْجِهِ، أيْ: كَيْفَ يُخْرِجُهُ ضَئِيلًا ضَعِيفًا لا يَكادُ يَنْتَفِعُ بِهِ وكَيْفَ يَعُودُ نَضِيجًا مُشْتَمِلًا عَلى مَنافِعَ ؟ ونَبَّهَ عَلى هاتَيْنِ الحالَتَيْنِ وإنْ كانَ بَيْنَهُما أحْوالٌ يَقَعُ بِها الِاعْتِبارُ والِاسْتِبْصارُ؛ لِأنَّهُما أغْرَبُ في الوُقُوعِ وأظْهَرُ في الِاسْتِدْلالِ، وقَرَأ ابْنُ وثّابٍ ومُجاهِدٌ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ: ﴿إلى ثُمُرِهِ﴾ بِضَمِّ الثّاءِ والمِيمِ. قالَ ابْنُ وثّابٍ ومُجاهِدٌ: وهي أصْنافُ الأمْوالِ، يَعْنِي الأمْوالُ الَّتِي تَتَحَصَّلُ مِنهُ، قالَ أبُو عَلِيٍّ: والأحْسَنُ أنْ يَكُونَ جَمْعَ ثَمَرَةٍ كَخَشَبَةٍ وخُشُبٍ وأكَمَةٍ وأُكُمٍ، ونَظِيرُهُ في المُعْتَلِّ لابَةٌ ولُوبٌ وناقَةٌ ونُوقٌ وساحَةٌ وسُوحٌ، وقَرَأتْ فَرِقَّةٌ بِضَمِّ الثّاءِ وإسْكانِ المِيمِ طَلَبًا لِلْخِفَّةِ، كَما تَقُولُ في الكُتُبِ كُتْبٌ، وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ: (ثَمَرِهِ) بِفَتْحِ الثّاءِ والمِيمِ، وهو اسْمُ جِنْسٍ كَشَجَرَةٍ وشَجَرٍ، والثَّمَرُ جَنى الشَّجَرِ وما يَطْلُعُ وإنَّ سُمِّي الشَّجَرُ ثَمَرًا فَمَجازٌ، والعامِلُ في إذا (انْظُرُوا) . وقَرَأ الجُمْهُورُ: ويَنْعِهِ بِفَتْحِ الياءِ وسُكُونِ النُّونِ، وقَرَأ قَتادَةُ والضَّحّاكُ وابْنُ مُحَيْصِنٍ بِضَمِّ الياءِ وسُكُونِ النُّونِ، وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ واليَمانِيُّ: ويانِعِهِ اسْمَ فاعِلِ مِن يَنَعَ، ونَسَبَها الزَّمَخْشَرِيُّ إلى ابْنِ مُحَيْصِنٍ، وقالَ المَرْوَزِيُّ: ﴿إذا أثْمَرَ﴾ عِنْدَ لا ظِلَّ لَهُ دائِمٌ فَلا يَنْضَجُ، ولا شَمْسَ دائِمَةٌ فَتُحْرِقُ، أرْسَلَ عَلى كُلِّ فاكِهَةٍ رِيحَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، رِيحٌ تُحَرِّكُ الوَرَقَ فَيَبْدُو الثَّمَرُ فَتَقْرَعُهُ الشَّمْسُ، ورِيحٌ أُخْرى تُحَرِّكُ الوَرَقَ (p-١٩٢)وتُظِلُّ الثَّمَرَ فَلا يَحْتَرِقُ.
﴿إنَّ في ذَلِكم لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ الإشارَةُ بِذَلِكم إلى جَمِيعِ ما سَبَقَ ذِكْرُهُ مِن فَلْقِ الحَبِّ والنَّوى إلى آخِرِ ما خَلَقَ تَعالى وما امْتَنَّ بِهِ، والآياتُ العَلاماتُ الدّالَّةُ عَلى كَمالِ قُدْرَتِهِ وإحْكامِ صَنْعَتِهِ وتَفَرُّدِهِ بِالخَلْقِ دُونَ غَيْرِهِ، وظُهُورُ الآياتِ لا يَنْفَعُ إلّا لِمَن قَدَّرَ اللَّهُ لَهُ الإيمانَ، فَأمّا مَن سَبَقَ قَدَرُ اللَّهِ لَهُ بِالكُفْرِ فَإنَّهُ لا يَنْتَفِعُ بِهَذِهِ الآياتِ. فَنَبَّهَ بِتَخْصِيصِ الإيمانِ عَلى هَذا المَعْنى، وانْظُرْ إلى حُسْنِ مَساقِ هَذا التَّرْتِيبِ لِما تَقَدَّمَ ﴿إنَّ اللَّهَ فالِقُ الحَبِّ والنَّوى﴾ [الأنعام: ٩٥]، جاءَ التَّرْتِيبُ بَعْدَ ذَلِكَ تابِعًا لِهَذا التَّرْتِيبِ، فَحِينَ ذَكَرَ أنَّهُ أخْرَجَ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ ذَكَرَ الزَّرْعَ وهو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿خَضِرًا نُخْرِجُ مِنهُ حَبًّا مُتَراكِبًا﴾، وابْتَدَأ بِهِ كَما ابْتَدَأ بِهِ في قَوْلِهِ: ﴿فالِقُ الحَبِّ﴾ [الأنعام: ٩٥]، ثُمَّ ثَنّى بِما لَهُ نَوى فَقالَ: ﴿مِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ﴾ إلى آخِرِهِ، كَما ثَنّى بِهِ في قَوْلِهِ: (والنَّوى)، وقَدَّمَ الزَّرْعَ عَلى الشَّجَرِ لِأنَّهُ غِذاءٌ والثَّمَرُ فاكِهَةٌ، والغِذاءُ مُقَدَّمٌ عَلى الفاكِهَةِ، وقَدَّمَ النَّخْلَ عَلى سائِرِ الفَواكِهِ لِأنَّهُ يَجْرِي مَجْرى الغِذاءِ بِالنِّسْبَةِ إلى العَرَبِ، وقَدَّمَ العِنَبَ لِأنَّهُ أشْرَفُ الفَواكِهِ وهو في جَمِيعِ أطْوارِهِ مُنْتَفَعٌ بِهِ، حَنُوطٌ ثُمَّ حِصْرِمٌ ثُمَّ عِنَبٌ، ثُمَّ إنْ عُصِرَ كانَ مِنهُ خَلٌّ ودِبْسٌ، وإنْ جُفِّفَ كانَ مِنهُ زَبِيبٌ، وقَدَّمَ الزَّيْتُونَ لِأنَّهُ كَثِيرُ المَنفَعَةِ في الأكْلِ وفِيما يُعْصَرُ مِنهُ مِنَ الدُّهْنِ العَظِيمِ النَّفْعِ في الأكْلِ والِاسْتِصْباحِ وغَيْرِهِما، وذَكَرَ الرُّمّانَ لِعَجَبِ حالِهِ وغَرابَتِهِ، فَإنَّهُ مُرَكَّبٌ مِن قِشْرٍ وشَحْمٍ وعَجَمٍ وماءٍ، فالثَّلاثَةُ بارِدَةٌ يابِسَةٌ أرْضِيَّةٌ كَثِيفَةٌ قابِضَةٌ عَفْصَةٌ قَوِيَّةٌ في هَذِهِ الصِّفاتِ، وماؤُهُ بِالضِّدِّ ألَذُّ الأشْرِبَةِ وألْطَفُها وأقْرَبُها إلى حَيِّزِ الِاعْتِدالِ، وفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِلْمِزاجِ الضَّعِيفِ، غِذاءٌ مِن وجْهٍ ودَواءٌ مِن وجْهٍ، فَجَمَعَ تَعالى فِيهِ بَيْنَ المُتَضادَّيْنِ المُتَعانِدَيْنِ، فَما أبْهَرَ قُدْرَتَهُ وأعْجَبَ ما خَلَقَ.
{"ayahs_start":97,"ayahs":["وَهُوَ ٱلَّذِی جَعَلَ لَكُمُ ٱلنُّجُومَ لِتَهۡتَدُوا۟ بِهَا فِی ظُلُمَـٰتِ ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۗ قَدۡ فَصَّلۡنَا ٱلۡـَٔایَـٰتِ لِقَوۡمࣲ یَعۡلَمُونَ","وَهُوَ ٱلَّذِیۤ أَنشَأَكُم مِّن نَّفۡسࣲ وَ ٰحِدَةࣲ فَمُسۡتَقَرࣱّ وَمُسۡتَوۡدَعࣱۗ قَدۡ فَصَّلۡنَا ٱلۡـَٔایَـٰتِ لِقَوۡمࣲ یَفۡقَهُونَ","وَهُوَ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ نَبَاتَ كُلِّ شَیۡءࣲ فَأَخۡرَجۡنَا مِنۡهُ خَضِرࣰا نُّخۡرِجُ مِنۡهُ حَبࣰّا مُّتَرَاكِبࣰا وَمِنَ ٱلنَّخۡلِ مِن طَلۡعِهَا قِنۡوَانࣱ دَانِیَةࣱ وَجَنَّـٰتࣲ مِّنۡ أَعۡنَابࣲ وَٱلزَّیۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُشۡتَبِهࣰا وَغَیۡرَ مُتَشَـٰبِهٍۗ ٱنظُرُوۤا۟ إِلَىٰ ثَمَرِهِۦۤ إِذَاۤ أَثۡمَرَ وَیَنۡعِهِۦۤۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكُمۡ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یُؤۡمِنُونَ"],"ayah":"وَهُوَ ٱلَّذِیۤ أَنشَأَكُم مِّن نَّفۡسࣲ وَ ٰحِدَةࣲ فَمُسۡتَقَرࣱّ وَمُسۡتَوۡدَعࣱۗ قَدۡ فَصَّلۡنَا ٱلۡـَٔایَـٰتِ لِقَوۡمࣲ یَفۡقَهُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق